بسمته عند حالكة الغياهب

 

كلما اشتدت ظلمة الليل زاد أمل ظهور شعاع النور الذى يشق هذه الظلمة، ويبدد وحشة الليل البهيم .. فالنفس البشرية مجبولة على الإقبال نحو إيناس جمالية بزوغ النهار إذا تجلى ... بعد طول إيحاش جلالية الليل إذا يغشى .. فإذا استيقنْتَ من ذلك عرفت أنها مفطورةٌ على حبِّ النبى المصطفى الذى أودعت حبات نوره فى أعماق ظلمة كثافة طين البشرية فى بنى آدم .. حتى تشرفت بخطاب خالقها جلت قدرته حين قال: واعلموا أن فيكم رسول الله ... يبتسم لكم عند حالكة الغياهب بسمة هى مركب النجاة إذا أحدقت الأخطار فى بحار العالمين .. وما أشبه اليوم بالبارحة .. فكلما نظرت من حولك اليوم، ورأيت من النفاق والشقاق وسوء الأخلاق ما استعاذ منه النبى المصطفى الهادى الأمين، لأحسست بقوة مدى احتياجنا لبعض أخلاقه ونوره المبين .. هو هكذا فى سيرته .. تجده فى أحلك اللحظات نبراسا يضيء سبيل السير من كل الحوالك، فمن يلقى فى نار الفتنة إذا حضر فليس بهالك .. فكما أن الثنا يرهب الثناء على حضرته خشية مجانبة الصواب فإن الفتن لديه تنطفى والعنا ينجلى ويخزى الجحود لدى الباب .. ويظل الحبيب هو كما هو لا يتلون ولا ييأس من روح الله ولا يدعو على من آذاه بل يقول لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يوحده .. وهكذا كان .. يسيء إليه المسيء، وهو الحليم فلا ينتقم لنفسه، بل يبادل الإساءة بالإحسان والصبر الجميل، ولكنه عندما يكون الأمر فى دين الله وتبليغ الأمانة تجده يعلم الأمة أنه لا تفريط فى حق من حقوق الله، وهو فى هذا كله آية الآيات فى الحكمة البالغة والموعظة الحسنة الفائقة والإخبار عما ينبغى أن يكون من الأمة شريعة وطريقة وحقيقة .. تلمح ذلك كثيرا فى ثنايا الأحاديث النبوية الشريفة .. رحمة نبوية تسرى فى أرجاء هذا الوجود كله مصداقا لقول الله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.

ذلك الذى تجرأ على النبى ، وموقفه منه ، وابتلاء الأمة بنسله:

عَنْ أَبِى الزُّبَيْرِ، عن جَابِرٍ قال: أَتَى رَجُلٌ - أوضحت الرواية الثانية أنه ذو الخويصرة التميمى - رَسُولَ اللهِ بِالْجِعْرَانَةِ، مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ - أى عند انصرافه من حنين، وَفِى ثَوْبِ بِلاَلٍ فِضَّةٌ - أى يحملها سيدنا بلال للنبى ليفرِّقَها على المسلمين، وَرَسُولُ اللهِ يَقْبِضُ مِنْهَا يُعْطِى النَّاسَ، فَقَالَ -أى ذو الخويصرة: يَا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ، قَالَ (وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟! لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ) فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : دَعْنِى، يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ. فَقَالَ (مَعَاذَ اللهِ، أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّى أَقْتُلُ أَصْحَابِى، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ). المسند الجامع.

وفى رواية: عن الزهرى قال أخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا سعيد الخدرى قال: بينما نحن عند رسول الله وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بنى تميم، فقال: يا رسول الله اعدل. فقال (ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل) فقال عمر: يا رسول الله ائذن لى فيه فأضرب عنقه. فقال (دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فما يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء -وهى كلها أجزاء السهم- قد سبق الفرث والدم -أى خرج من مرماه سابقا الدسم والدم- آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدى المرأة أو مثل البضعة تدردر ويخرجون على حين فرقة من الناس ..) -  رواه البخارى باب علامات النبوة فى الإسلام، وفى رواية مسلم: الزهرى عن أبى سلمة والضحاك الهمدانى عن أبى سعيد الخدرى، النسائى فى الكبرى ذكر ما خص به على من قتال المارقين، وزاد أحمد فى مسنده (حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام).

وفى رواية: عن أنس بن مالك قال: كان فى عهد رسول الله رجل يعجبنا تعبده واجتهاده فذكرناه لرسول الله باسمه فلم يعرفه ووصفناه بصفته فلم يعرفه؛ فبينا نحن نذكره إذ طلع الرجل قلنا: ها هو ذا قال: إنكم لتخبرونى عن رجل إن على وجهه سفعة من الشيطان. فأقبل حتى وقف عليهم ولم يسلم فقال له رسول الله (نشدتك بالله هل قلت حين وقفت على المجلس: ما فى القوم أحد أفضل منى؟) قال: اللهم نعم. ثم دخل يصلى. فقال رسول الله (من يقتل الرجل؟) فقال أبو بكر: أنا. فدخل عليه فوجده قائما يصلى فقال: سبحان الله أقتل رجلا يصلى, وقد نهى رسول الله عن قتل المصلين فخرج. فقال رسول الله (ما فعلت؟) قال: كرهت أن أقتله وهو يصلى وقد نهيت عن قتل المصلين. قال عمر: أنا. فدخل فوجده واضعا وجهه، فقال عمر: أبو بكر أفضل منى، فخرج فقال رسول الله (مه؟) قال: وجدته واضعا وجهه فكرهت أن أقتله. فقال (من يقتل الرجل؟) فقال على: أنا. فقال (أنت إن أدركته). قال: فدخل عليه فوجده قد خرج فرجع إلى رسول الله فقال (مه) قال: ما وجدته. قال (لو قتل ما اختلف فى أمتى رجلان كان أولهم وآخرهم) قال موسى: سمعت محمد بن كعب يقول: هو الذى قتله على ذو الثدية ...

تعليقات فى شروح الحديث :

·    قول: "اعدل" للنبى : علامة رعونة واستهانة بقدر النبى وهى إحدى سمات أهل التجرؤ وسوء الأدب المنذر يسوء الخاتمة والعياذ بالله، ولذلك رد عليه النبى ردا فى غاية الحكمة والبلاغة فقال (لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ ..) والخطاب بفتح التاء لذى الخويصرة بعد كلمة (لقد) التى تفيد التحقيق من دلائل نبوته فكان نصيبه الخيبة والخسران لأجل سوء أدبه مع النبى ، والمعنى الرائق فى قوله (خبت وخسرت إن لم أكن أعدل) .. أى أنه إذا بنيت عقيدتك على أساس إمكانية ألا يعدل رسول الله فى أى جزء من الزمن فنصيبك من الخيبة والخسارة محقق لا محالة.

·    وصْف سيدنا عمر له بـ (المنافق) أمام النبى : فلم يعترض عليه النبى فى ذلك إلا أنه علَّق فوصفه بـ (الصاحب) حين قال (مَعَاذَ اللهِ، أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّى أَقْتُلُ أَصْحَابِي) وهذا من عظيم حكمته وحلمه وكرم أخلاقه ليظل الباب مفتوحا لمن أراد التوبة فيتحقق وصف الله له بأنه رحمة للعالمين .

·   قوله : يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم: أى لا يعْبُر عظام تراقيهم -جمع ترقوة- فينتقل من مستوى الرأس وهو النطق باللسان إلى مستوى الفقه بالقلب .. قال الإمام النووى فى شرحه لصحيح مسلم: قَوْله (يَقْرَءُونَ الْقُرْآن لَا يُجَاوِز حَنَاجِرهمْ) .. قَالَ الْقَاضِى: فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدهمَا: مَعْنَاهُ: لَا تَفْقَهُهُ قُلُوبهمْ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا تَلَوْا مِنْهُ، وَلَا لَهُمْ حَظّ سِوَى تِلَاوَة الْفَم وَالْحَنْجَرَة وَالْحَلْق إِذْ بِهِمَا تَقْطِيع الْحُرُوف، الثَّانِى: مَعْنَاهُ: لَا يَصْعَد لَهُمْ عَمَل وَلَا تِلَاوَة وَلَا يُتَقَبَّل.

·   وفى رواية سيدنا أنس بن مالك (على وجهه سفعةٌ من الشيطان)، أخبر عن حال الرجل بمجرد النظر إلى وجهه دون سابق معرفة أو نزول وحى، وإنما هى البصيرة التى جعلها الله شرطا للدعوة إليه سبحانه وتعالى، فلما شقَّت على الكثيرين فى زماننا أهملوا ضرورتها فى أمر الدعوة بل وكفَّروا أهلها وعوَّقوهم عن أداء مهمتهم فى سبيل الدعوة إلى الله .. قال تعالى ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ يوسف: 108.

·   قول الراوى: فأقبل حتى وقف عليهم ولم يسلِّم. برغم أن فيهم رسول الله ، فدل ذلك على مرض فى القلب، فلو كان فى قلبه مثقال حبة من حبٍّ لسيدنا رسول الله لَلَاحَت أماراتها عند اللقاء ... حالةٌ لا تخفى على أهل الحب عاليه وسافله .. إلا أنه الكبر المانع من دخول روضة رسول الله فى الدنيا قبل الآخرة.

·   قول رسول الله (نشدتك بالله هل قلت حين وقفت على المجلس: ما فى القوم أحدٌ أفضل منى؟) قال: اللهم نعم. ثم دخل يصلى: دليل آخر ومستند لمن قال بالفراسة والإلهام والتنوير والكشف والفتح وهى كلها مراتب فى البصيرة التى هى ناظر القلب كالبصر الذى هو ناظر العين، ثم لا تنس مقام التمكين عند الداعى إلى الله يظهر واضحا جليا فى جواب المنافق بالقول الصادق رغم أنه غير صادق، قوة وتمكينا وتأييدا من الله لحبيبه لتظهر دلائل نبوته لأصحابه فيزيدون حبا واعتقادا فى نبيهم ، تماما مثل ما كان من أبى لهب حين نزلت السورة فى حقه فلم يمكنه الله من تكذيب النبى بأن يعلن إسلامه ولو بالباطل، وهو من باب الطمس والطبع على قلوب المنافقين والمشركين وأعداء الدين، وصدق الله إذ يقول ﴿وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ المرسلات: 36. ثم انظر إلى حال هذا المنافق كيف يرى نفسه فوق الجميع بما فيهم رسول الله ، فهل يكون لأمثاله نصيب فى الجنة التى لا يدخلها من كان فى قلبه مثقال حبة من كبر ؟!!

·   قول النبى (من يقتل الرجل؟) وتكرار الطلب مع سيدنا عمر وسيدنا على فيه أدلة على أدب الصحابة مع هدْى نبيهم ، ومع بعضهم بعضا فذلكم سيدنا عمر يقول: أبو بكر أفضل منى فيهتدى بهديه، رغم ما يمكن أن يفهم من تكرار طلب سيدنا رسول الله قتل الرجل على أى حالة، وما يفهم من أن صلاته ليست بصلاة فى أصلها وإنما هى تظاهر ونفاق، ثم انظر ما خاطب به سيدنا عليا قائلا (أنت إن أدركته) وما فيه أيضا من بصيرة نافذة تدل على إخبار بالغيب، ثم تركيب الكلام وصياغته للدلالة على الشك -لا الجزم- أدبا مع الله والتزاما بآداب العبودية والخفاء والتواضع مع عباد الله والنزول إلى رتبتهم فلا يكون الأمر ترهيب صيد بصائد.

والكلام فى النبى وأخلاقه العظمى وتربيته وحاله ومقاله وحله وترحاله بحار هدْى وهُدًى، تبقى أبد الدهر معينا لا ينضب، ويبقى غواصها مكابا لا ينصب ...

د. إبراهيم الدسوقى

 
 

ومن أراد الاستزادة فليطلع على موقع النبى

أسرة التحرير