التوكل

 

يقول السرى السقطى: التَّوَكُّلُ الانْخِلاعُ من الْحَول و القُوَّة، فالتوكّل من أعلى مقامات اليقين وأشرف أحوال المقرّبين قال الله الحق المبين ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ آل عمران 159، فجعل المتوكل حبيبه وألقى عليه محبّته، وقال الله عزّ وجلّ ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ إبراهيم 12، رفع  درجة المتوكلين إليه وجعل مزيدهم منه، وقال جلت قدرته ﴿ومن يتوكل على الله فهو حسبه﴾ الطلاق 3، أى كافيه مما سواه فمن كان الله تعالى كافيه فهو شافيه ومعافيه، ويروى عن بعض الحكماء أنه قال أحمد الله إليكم حمد من لا يعرف إحساناً إلا منه ولا يعرف معبوداً غيره وأسأله توكل المنقطعين بصدق الانقطاع إليه.

إن الله تعالى خص أهل ولايته بغبطة الانقطاع إليه ليعرفهم تواتر نعمه ودوام إحسانه وفضله فانصرفت هموم الدنيا من قلوبهم وعَظُم شُغل الآخرة فى صدورهم لما سكنها من هيبة ربهم فألزموا قلوبهم ذل العبودية وطرحوا أنفسهم فى محجة التوكل على الله.

واعلم ياأخى أنك لا تكون متوكلاً على الله إلا بقطع كل مؤمل دون الله وكيف لا تسخو نفسك بقطع كل علاقة من قلبك وتفرغ قلبك للإقبال على الله وصدق التوكل عليه والله حسْبُ من توكل عليه، والمتوكل الصادق فى توكله لا يجد قلبَه يخضعُ لمخلوق لأن قلبَه مملوء بالثقة بضمان الله، والمتوكل الصادق فى توكله يرى القليل من عطايا الله عظيم، والمتوكل يرى صغر قدر نفسه لمعرفته بعظيم قدر الله، فهو ساكن إلى روح اليقين وهى المنزلة التى يغبطه بها أهل الحرص على الدنيا، فمن سكن قلبُه إلى أنه ليس نعمة فى السماء والأرض إلا وهى لله ومن الله استراح قلبه من عذاب الحرص، أما سمعته تعالى يقول ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ﴾ فاطر 3، وقال ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ الأعراف 54، فإذا ألزمت الثقة قلبَك فإنما أنت ناظر إلى الله، لأن المُلك لله دون خلقِه وبقدر تركك الثقة يعظم حرصك على الدنيا، فخالف حرصك على الدنيا بالقنوع بما قسم لك، فإنك تسرع فى عداوة الحرص على الدنيا، لأن الحرص لا يعطى ولا يمنع، والمتوكل على الله استغنى بالمعطى المانع عمن ليس بمانع ولا معط، فهو غنى بالله عمن سواه فقير الى الله، قد سكن قلبه عن الاضطراب، فليس لمخلوق فى قلبه خطر، فمن وثق بغير الله لا يغنيه، والمتوكل لزم التقوى فجعل الله له مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب، حيث يقول تعالى ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا﴾ الطلاق 3، فالمتوكل توكل على الله فى حاجاته كلها من أمور آخرته ودنياه، وقطع رجاءه ممن سواه، ولم ير نفسه موضعاً لاختيار نفسه، لأن الله حسبُه ومن كان كذلك فقد سكن إلى روح اليقين، وهذه المنزلة التى لا منزلة أرفع منها فى سكون القلب إلى الله والطمأنينة بموعود الله لأنه قد جعل الله حسبه من جميع خلقه ومن كان الله حسبه فلا يجد فقد شىء لأن الله قد ضمن له وهو بالغ أمره.

واعلم أنك والخلق جميعاً مضطرون إلى الله فى كل حال وفى كل حركة وكل سكون، لأنه الغنى وحده ومن وثق بغير الله فقد رأى أن ملكاً أكبر من ملك الله، ومن وثق بالله استغنى به، لأن الله حسبه وفى الله خلف من جميع الخلق، وليس فى أحد من الخلق خلف من الله لأن الله هو الغنى وحده، فإذا علمت أن الله حسب من توكل عليه فكيف لا تطلب الكفاية بالتوكل على الله عز وجل، ألست تعلم أن الرزاق قد قسم بين عباده معايشهم وقد فضّل بعضَهم على بعض فى الرزق، وقد فرغ مما قضى وقدر من ذلك، فكيف تعنى بعد علمك بطلب ما قد فرغ لك من مقداره، ألا تسمع إلى قول الله عز وجل ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدُيرٌ﴾ الأنعام 17، فكيف تطلب كشف الضر من غير الله أو تطلب المنفعة من عند غير الله، وكيف لا يكون الغالب على قلبك طلب كشف الضر وطلب النفع من عنده وحده إذا علمت أن ذلك كله إنما هو بيده وحده، وكيف تخاف فوت شىء من الخير يريده الله بك وإن لم يرده بك فمن يعطيك ذلك أو ينيلك إياه، والمتوكل على الله لا يلتفت إلى الدنيا لأنه لا يراها لنفسه خطراً ولا يراها ونفسه وجميع ما فيها إلا لله، ويستوى عنده ركوب البحر والمشى فى البر، والإنس والوحشية، والعمل والجلوس، لأن الله تعالى كاف من توكل عليه أوَلا تسمع لقوله تعالى ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ الزمر 36، فالمتوكل على الله اكتفى بعلمه بالله عن الاشتغال بغيره لأنه علم أن الذى يوصل إليه المنافع هو الله وحده لا شريك له، وأيضاً إذا سكن قلبك إلى الله لم تخف غيره لأن الله حسب من توكل عليه، ومن علامة المتوكل أنه يؤثر الصدق حيث يضره، على الكذب حيث ينفعه، لأنه لم يصح لمن توكل عليه أن يخاف غيره، وكذلك إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر لم يخشَ إلا الله لأن رجاؤه من الله أكثر من خوفه من توعد المخلوقين، لأن المتوكل على الله قد أخرج من قلبه كل مخوف ومحذور ومحزون دون الله، حتى اتصل خوفه ورجاؤه بالله.

واعلم أن المعاون إنما تحضر عند إخراج العالم من قلبك فتنحاش عند ذلك إلى مسالك العز والغنى بالله لأنك تعلم أنه لا مانع ولا معطى ولا ضار ولا نافع الا الله وحده، ولا ترغب عن الله بجهلك فتخضع لمن دونه عند تخويف الشيطان فيستولى عليك عند ذلك أوَلا تسمع قوله تعالى ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ البقرة 268، فما يضرك من مواعيد الشيطان مع ضمان الرحمن؟

واعلم أنك لا تكون متوكلاً على الله تعالى حتى تسلك منهاج المضى إليه على السكون والاطمئنانية إلى الله، وحتى تعبد الله راضياً بما صيّرك إليه لأنك لا تعرف غيره، فإذا صرت إلى هذه المنزلة غلبت على قلبك عظمة الله وجلاله.

واعلم ان الله سبحانه قد خص المتوكلين عليه بمنازل السلامة، وحجب عنهم كل ندامة فهم ينظرون إلى الله فيما يأملون، قد حجب قلوبهم عما سواه لما يرجون من إحسانه واستغنوا بذكره عن ذكر غيره.

واعلم أنك لا تكون متوكلاً حتى تصفو من كل ملك لنفسك مع ملك الدنيا، وحتى لا تثق إلا فى الله وحده لا شريك له وحتى ترى مؤنتك على الله وحده فلا يذهبن بك الطمع إلى غير الله، ألا ترى أن الذى طمعت فيما فى يديه، أليس هو فى ملك الله؟ وهل فى السماء حاجز يحجزك عن الله؟ فاعلم أنك لا تقدر أن تفرض رزقك كما لا تقدر أن تفرض الموت، أما سمعت الله تعالى يقول ﴿اللهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَىْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ الروم 40، فاسكن ياأخى إلى موعود الله تعالى فى رزقه كما تسكن إلى إنك ميت، واقطع الاشتغال بذكر الاسباب من قلبك.

واعلم أن الله يرزقك لسبب وبغير سبب وكل سبب فهو ثابت لا تعلم متى يأتيك رزقك كما لا تعلم متى يأتيك الموت، ألا ترى أن الله وعدك أن يرزقك، وغيّب رزقك عنك بالقضاء، وله وقت ينزل فيه، فلو احتلت بكل حيلة أن يأتيك قبل وقته لم تقدر على ذلك حتى ينزل في وقته، أما سمعت الله عز وجل يقول ﴿وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾، ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ الذاريات 23.

واعلم أن الواثق بالله نفى عن قلبه التهمة لله وإن كنت فى ظل سبب فلا يميلن قلبك إلى السبب وليكن قلبك مع الله عز وجل.

واعلم أن العبد لا ينفق إلا بإذن السيد، فاعقد قلبك لسيدك، لأنه إن أعطاك لم يقدر أهل الأرض أن يمنعوك، وإن منعك لم يقدر أهل الأرض أن يعطوك لأن سلطانه عظيم وبتوكلك عليه يكفيك، فالمتوكل ساكن القلب إلى المضمون، فمن قطع تعلق القلب بالأسباب، لم ير شيئاً إلا الله، لأن قدر الله جار على المتوكل وغيره، ألا تسمع إلى قوله تعالى ﴿وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ العنكبوت 60، وقد علم المتوكل علماً يقيناً وسكن قلبه إلى ذلك، أن ما قسم له وقدر لو كان فى مهب الريح لأدركه، وأن ما لم يقسم له ولم يقدّر، لو كان بين يديه، وجهد أهل السموات والارض أن يوصلوا إليه  مثل ذرة أو خردلة منه، لم يقدروا على ذلك وقد قال ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾ الإسراء 31، وقال ﴿وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ المائدة 23، فلم يحق لهم إيماناً إلا بتوكلهم عليه، وأثبت لهم الإيمان به بتوكلهم عليه، وقالوا ﴿على الله توكلنا﴾ وقال ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ إبراهيم 12، فالتوكل محض الإيمان، ولا يكون الإيمان إلا بتوكل، والتوكل يزيد وينقص، كما أن الايمان يزيد وينقص، والناس يتفاضلون فى التوكل والايمان على قدر اليقين.

ربنا اجعلنا من المؤمنين المتوكلين عليك ﴿رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ الممتحنة 4.

عبد الستار الفقى

 

 

 

 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصوفية فى موقع الطريقة البرهانية.

أسرة التحرير