كم كل فيها النصح والارشاد

 

مَنْ بَاتَ فِى حَيْفٍ وَيَزْعُمُ حُبَّنَا        غِرٌّ وَفِيهِ تَجَمَّعَتْ أَضْدَادُ (46/15)

نستكمل حديثنا عن قصيدة أهل بدر من ديوان شراب الوصل لشيخنا الجليل العارف بالله فخر الدين وأرضاه وأرضانا به أجمعين.

يقول : من بات فى حيف: مَن هنا بمعنى الذى، وبات فى حيف أى ظل فى حيف واستخدام بات بدلاً من ظل قد يكون للاشعار بالخفاء لأننا إذا قلنا بات فلان يفعل كذا أى ظل يفعل فعله هذا ليلاً كما جاء باللسان، وفى حيف أى ظلم وجور وميل عن الحكم، فمن كان حاله هكذا ويزعم حبنا نحن أهل البيت والمأمور أنت فى القرأن بمودتهم، وكأنه يقول أنت تظلمنا وتجور علينا، فمثلاً تقول لمن زارنا وودنا فى قبورنا وروضاتنا أنت مشرك عِلماً بأن ميتنا الذى عاش حياته يجاهد بل ويُعلّم الناس كيف يجاهدون أنفسهم فى سبيل الله فى الجهاد الأكبر؛ حى يرزق ولكن لاتشعرون بنص الحديث والقرآن، ثم تدّعى أنك تحب أهل البيت؟ لا شك هذا تناقض عجيب، لذلك قال عنه : أنه غر لايفطن للشر غافل عنه لا تجربة له مخدوع مريض، لذلك تجمعت فيه أضداد فهو يزعم حبهم وفى نفس الوقت يدعو إلى عدم مودتهم التى أمرنا الله بها صراحة فى كتابه الكريم.

مَنْ بَاتَ يَرْجُو الْبُرْءَ وَهُوَ مُقَارِفٌ              لَا رَيْبَ ذَاكَ تَكَـبُّرٌ وَعِنَادُ (46/16)

فمن ظل ليلَهُ على هذا الحال وهذا المرض، محجوب عن الحق والحقيقة ويرجو البُرء مع مقارفته لهذا الذنب لا ريب ذاك تكبر وعناد لأنه مخالف لما جاء به الحق ويرجو منه السلامة والعافية هيهات هيهات أن يجيبه المولى فهو غنّى عن العالمين سبحانه.

مَنْ لَمْ يُحَكِّمْنِى وَعَاثَ ضَلَالَةً              لَاخَيْرَ فِيهِ وَمَا لَدَيْهِ وِهَادُ (46/17)

من لم يحكمنى: إلا المودة جاء حكمى فى منهجى المضمون فلا تحيدوا عنه حتى تغنموا كما غنم الصحابة عندما نزلوا عند حكم مليكهم الرسول صلوات ربى وسلامه عليه.فمن حاد عن حكمى الذى هو حكم الله ورسوله فقد عاث ضلالة: من عثَّهُ يعُثّهُ عثاً، أى رد عليه الكلام، ولأن كلامنا -كلام الشيخ- هو الحق فما بعده إلا الضلال، ورَدُّ كلامنا هو عين الضلال لذلك قال وعاث ضلالة، واختيار لفظ عاث يشعرنا بالعُثّة، التى هى السوسة أو الأرضة التى تلحس الصوف كما جاء باللسان والذى يرد كلام الحق يعمل عمل العثة فى الصوف، فهو يخرب فى دين الله عز وجل، ويجعل العلم الحق الذى يكسو العبد أجمل حلة يبلى ويتآكل ويذوب ويذهب مع الريح، وإذ كانت العثة تخرب فى الصوف فهو يخرب فى الصوف المنسوب إلى الله تعالى (صوفى) فالصاد منه الصفى والواو منه الوفى والفاء منه الفنا والياء منه النسبة إلى الله تعالى، صوفى فصفاؤه لله ووفاؤه لله ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى النجم 37، وفناؤه فى الله حيث التخلى عن صفاته بالكليه والتحلى بصفات الله -كنت سمعه وبصره- ثم لاينسب شيئاً من هذا إلا لله تعالى.

لَاخَيْرَ فِيهِ: هذا الذى عاث ضلالة ورد كلام الحق من أين يأتى بالخير؟

وَمَا لَدَيْهِ وِهَادُ: أى الذى لديه من علوم وأفكار ماهى إلا حفر تقع الناس فيها كالأرض بها الوهاد وهو جمع وهدة وهى الهوة فى الأرض، فمعلوماته تخفض ولاترفع كالحُفر تماماً أما علم الصالحين فيقول عنه المولى تبارك وتعالى ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ الأنعام 83، ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ يوسف 76، رفعنا الله بعلوم مشايخنا ورقانا ونجانا من حفر الضالين آمين.

مَنْ شَذَّ عَنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ طَرِيقَتِى               مِنْهُمْ، فَإِنَّ شَرَابَهُ الْأَحْقَادُ (46/18)

يقول الحبيب المصطفى (سَأَلْتُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يَجْمَعَ أُمَّتِى عَلَى ضَلَالَةٍ فَأَعْطَانِيها) كما جاء بمسند الصحابة فى الكتب التسعة، وذكره السيوطى والحاكم فى المستدرك على الصحيحين والإمام أحمد فى مسنده وجاء أيضاً فى الدر المنثور وكنز العمال وتحفة الأشراف والمقاصد الحسنة للسخاوى ومجمع الزوائد وكشف الخفا ولكن بروايات منها:

(لن يجمع الله أمتى على ضلالة أبداً ويد الله على الجماعة هكذا -ورفع يديه- فإنه من شذ شذ فى النار)، ومنها (إن الله تعالى لا يجمع أمتى على ضلالة، ويد الله تعالى مع الجماعة، من شذ شذ إلى النار) عن ابن عمر.

والجدير بالذكر أن نوضح شيئاً فى غاية الأهميه لايفطن إليه الناس، ولا يُقرأ إلا ما بين السطور، وهو المراد فهمه من الحديث، ألا وهو أن المقصود ليس عامة الأمة أو جهلاؤها، وإنما المقصود جمع علماء الأمة من السلف الصالح أهل القرون الثلاثة الأولى فى الإسلام، ومن اتبعه من العلماء أهل البصيرة إلى يوم القيامة.

وقد أوضح لنا إجماع الأمة فقال:

قَضَتْ سُنَّةُ الْمَوْلَى الْعَظِيمِ عَلَيْهِمُ              فَرَاحُوا ثَلَاثًا فَوْقَ سَبْعِينَ شُعْبَةِ (1/229)

فَلَمْ تَنْجُ إِلَّا فِرْقَةٌ لِوُقُوفِهَا                     بِأَعْتَابِ آلِ الْبَيْتِ أَهْلِ الْحِمَايَةِ (1/230)

فَأَىُّ نَجَاةٍ فِى الْحَيَاةِ بِدُونِهِم                  إليهمْ يَسِيرُ الرَّكْبُ حَجًّا وَعُمْرَة (1/231)

فمن لم يجتمع على محبة أهل البيت رضوان الله عليهم أجمعين كما اجتمع على ذلك علماء الأمة، فإنه من الفرق الضالة الاثنان وسبعين فرقة التى لم تجتمع على هدى العلماء، فالمقصود من الحديث إجماع العلماء من الأمة وليس جهلائها الشاذين عن الاجماع.

وشيخنا لأنه من علماء الأمة الذين أوصى بهم الرسول الكريم فى الحديث (على رأس كل مائة سنه يبعث الله للأمة من يجدد لها أمر دينها) أو كما قال ، وواحد من أئمة أهل البيت أحفاد المصطفى ، وله الكثير من الأتباع فى أنحاء العالم وطريقته مشهورة، ومشهود له بالكرامات، فطريقته تجمع على ما أجمع عليه السلف الصالح والعلماء المحققين من الأمة، ونسبه يشهد به المحبين الذين هم على طرق أخرى، لكنهم مجتمعين على ما اجتمع عليه علماء الأمة، ألا وهو الاجتماع على محبة ومودة أهل البيت الأحياء منهم والمنتقلين، فيقول : مَنْ شَذَّ عَنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ طَرِيقَتِى منهم، وانظر إلى كلمة منهم، فإنه ليس منا فإن شرابه الأحقاد، طبعاً إن لم يقبل الحب إن لم يسع قلبه حب أهل نبيه فان قلبه سوف يُملأُ بالحقد أعاذنا الله منهُ ومنهم.

مَنْ تَنْفَعِ الذِّكْرَى لَدَيْهِ يَفُزْ بِهَا               وَإِذَا تَوَلَّى مَا لَهُ حُسَّادُ (46/19)

﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ الذاريات 55، فان المنتفع بالذكرى هو المؤمن بما قلناه سابقاً، وأما الذى تولىّ وأدبر فإنه قد خلا من كل خير يحسده الناس عليه ويقول الحبيب المصطفى (لا حسد إلاّ فى اثنين: رجل آتاه الله حكمة فهو يبثها فى الناس ويعملها، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته فى الحق)، وفى لفظ حديث آخر (ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار فيقول الرجل: لو آتانى الله ما آتى هذا فعلت كما يفعل، فندب إلى الحسد على أعمال البرّ) فهذا الذى لم تنفعه الذكرى لايجد من هذا الخير ما يحسد، وقلنا هذا حتى لايتوهم القارىء شىء آخر فالحسد فى غير ما قاله الحبيب حرام ومذموم.

وختم القصيدة رضوان الله عليه بـ

يَا سَعْدُ لَقِّنْهُمْ حَلَاوَةَ طَاعَةٍ          كَمْ كَلَّ فِيهَا النُّصْحُ وَالإِرْشَادُ (46/20)

يقول ياسعد وكأنه ينادى سيدنا سعد بن معاذ الذى ضرب أروع مثل فى الطاعة لرسول الله عز وجل حينما قال للرسول "فوالذى بعثك بالحق نبياً لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك"، فإن هذه الطاعة لها حلاوة يعرفها من ذاقها وكأن شيخنا يدعونا من خلال نداءه لسيدنا سعد ليلقننا حلاوة هذه الطاعة لتسهل علينا طاعته التى كلّ فيها النصح والارشادُ، مشيراً بذلك إلى نصحه لنا حينما قال فى القصيدة التائية فى البيت 29:

نَصَحْتُ لِوَجْهِ اللهِ أَبْغِى رِضَاءَهُ         وَحُبَّ ذَوِى الْقُرْبَى وَبَرَّأْتُ ذِمَّتِى

وفى البيت 389:

لِذك مُرِيدِى كُنْ إلى اللهِ قَاصِدًا        نَصَحْتُكَ فَانْهَلْ شَاكِرًا بِنَصِيحَتِى

وفى القصيدة 41 البيت الأول:

وَلَا يَسْتَنْكِفُ الْأَحْبَابُ نُصْحِى              لِوَجْهِ اللهِ إِنِّى قَدْ نَصَحْتُ

وفى القصيدة 85 البيت 4:

نَصَحْتُكَ وَالنَّصِيحَةُ أَصْلُ دِينِى             فَحَاذِرْ أَنْ يَغُرَّكَ مَنْ تَجَنَّى

فما طلب منا إلا المودة قائلاً ماسألنا حبنا وهنا إشارة منه أن غير حِبَّنا لن يطيع وحِبَّنا هو الذى نحبه ويحبنا وذلك رعاية منه لنا فمحبة أهل البيت أصل الدين وفيها الرفعة لنا والرشاد.

نقول لك يامولانا سمعنا وأطعنا شاكرين على هذه النصيحة الغالية راجين من الله أن يجازيك عنا بأطيب ما جازا شيخاً عن مريديه. آمين.

والى العدد القادم نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

محمد مقبول