أم المؤمنين: جويرية بنت الحارث

نــشـأة جويرية أم المؤمنين :

هى برة بنت الحارث بن أبى ضرار بن حبيب بن عائذ بن مالك من خزاعة، كان أبوها سيد وزعيم بنى المصطلق. عاشت برة فى بيت والدها معززة مكرمة فى ترف وعز وفى بيت تسوده العراقة والأصالة، وفى حداثة سنها تزوجت برة من مسافع بن صفوان أحد فتيان خزاعة وكانت لم تتجاوز العشرين من عمرها.

بدايات النور:

ذكر ابن كثير أن بنى المصطلق كانوا أكبر بطون خزاعة، وكانوا حلفاء لأبى سفيان بن حرب على رسول الله ، وكانوا ذوو تأثير كبير على من حولهم من القبائل. روى الطبري: بلغ رسول الله أن بنى المصطلق يجتمعون له، وقائدهم الحارث بن ضرار أبو جويرية بنت الحارث، فلما سمع بهم رسول الله ، خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقول له: المريسيع، من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا قتالًا شديدًا، فهزم الله بنى المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونفل رسول الله أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فأفاءهم الله عنه، وكان مسافع بن صفوان زوج جويرية من الذين قتلتهم السيوف المسلمة وقد كانت السيدة جويرية بنت الحارث من النساء اللاتى وقعن فى السبى فوقعت فى سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصارى ، عندها اتفقت معه على مبلغ من المال تدفعه له مقابل عتقها؛ لأنها كانت تتوق للحرية.

زواج جويرية من الرسول :

شاءت الأقدار أن تذهب السيدة جويرية إلى رسول الله فرأتها السيدة عائشة أم المؤمنين فقالت تصفها: كانت حلوة ملاحة. وقالت: فو الله ما رأيتها على باب حجرتى إلا كرهتها، وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت. جاءت جويرية رسول الله وقالت: "أنا جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار سيد قومه، وقد أصابنى من الأمر ما قد علمت، فوقعت فى سهم ثابت بن قيس فكاتبنى على نفسه تسع أوراق فأعنى على فكاكى" ولأن بنى المصطلق كانوا من أعز العرب دارا وأكرمهم حسبا، ولحكمة النبى قال لجويرية (فهل لك فى خير من ذلك؟( قالت "وما هو يا رسول الله؟" قال (أقضى عنك كتابتك وأتزوجك) وكانت قبل قليل تتحرق طلبا لاستنشاق عبير الحرية، ولكنها وجدت الأعظم من ذلك. ففرحت جويرية فرحا شديدا وتألق وجهها لما سمعته من رسول الله ، ومن غاية العز به بعد الضياع والهوان فأجابته بدون تردد أو تلعثم "نعم يا رسول الله". فتزوجها النبى وأصدقها 400 درهم.

قال ابن إسحاق: حدثنى محمد بن جعفر بن الزبير، عن عمه عروة بن الزبير, عن خالته عائشة, قالت: لما قسم النبى سبايا بنى المصطلق, وقعت جويرية بالسهم لحارث بن قيس بن شماس، أو لابن عم لها, فكاتبته على نفسها, دائماً ابنة سيد القوم لها عزة وكرامة، فكاتبته أن تعطيه شيئاً من المال على أن يعتقها، فأتت رسول الله, تستعينه فى كتابتها، فلو تعيننى على أن أدفع المال لهذا الذى كنت نصيبه لعله يعتقنى. طبعاً رسول الله كان بإمكانه أن يطلق سراحها، أن يطلقها بلا فداء، وهو ضامن، -فماذا فعل؟- فقال : (أو خير من ذلك، أتحبين شيئاً خيرًا من ذلك؟) قالت: ماذا؟ قال: (أؤدى عنك كتابك، وأتزوجك) قالت: نعم. ففعل ذلك.

قال أبو عمر القرطبى فى الاستيعاب: كان اسمها برة فغير رسول اسمها وسماها جويرية. فأصبحت جويرية بعدها أما للمؤمنين وزوجة لسيد الأولين والآخرين .

فعن ابن عباس قال: كان اسمها برّة، فحوّل رسول الله اسمها وسماها جويرية، وكان يكره أن يقال: خرج من عند برّةّ. اخرجه مسلم.

قال ابن هشام: لما انصرف النبى من غزوة بنى المصطلق، ومعه جويرية بنت الحارث، وكان بذات الجيش دفع جويرية إلى رجل من الأنصار، وأمره بالاحتفاظ بها, لكونها بنت سيد قومها، وكان هذا قبل توزيع الغنائم، وقدم النبى المدينة، فأقبل أبوها الحارث بن أبى ضرار بفداء ابنته، وكان أبوها سيد قومه, أخذ إبل له ليجلب قومه، فلما كان بالعقيق, نظر أبوها إلى الإبل التى جاء بها, ليفدى لابنته، فرغب فى بعيرين منها، فغيبهما فى شعب من شعاب العقيق فى الطريق غيب ناقتين، أعجبه منهما سمنهما، ثم أتى النبى ، وقال: يا محمد, لقد أصبتم ابنتى، وهذا فداؤها، فقال : أين البعيران اللذان غيبتهما فى العقيق فى شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: أشهد ألا إله إلا الله, وأنك رسول الله، فو الله ما اطلع على ذلك إلا الله، أسلم الحارث، وأسلم معه ابنان له، وناس من قومه، وأرسل البعيرين فجاء بهما.

بركة جويرية :

وخرج الخبر إلى مسامع المسلمين فأرسلوا ما فى أيديهم من السبى وقالوا متعاظمين: هم أصهار رسول الله . فكانت بركة جويرية من أعظم البركات على قومها. قالت عنها السيدة عائشة : فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بنى المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة منها.

صفاتها وأهم ملامحها :

كانت السيدة جويرية من أجمل النساء، كما أنها تتصف بالعقل الحصيف والرأى السديد الموفق الرصين، والخلق الكريم والفصاحة ومواقع الكلام كما كانت تعرف بصفاء قلبها ونقاء سريرتها، وزيادة على ذلك فقد كانت واعية، تقية، نقية، ورعة، فقيهة، مشرقة الروح مضيئة القلب والعقل.

راحت السيدة جويرية تحذو حذو أمهات المؤمنين فى الصلاة والعبادة وتقتبس من الرسول ومن أخلاقه وصفاته الحميدة حتى أصبحت مثلا فى الفضل والفضيلة، فكانت أم المؤمنين جويرية من العابدات القانتات السابحات الصابرات، وكانت مواظبة على تحميد العلى القدير وتسبيحه وذكره.

ناقلة الحديث :

حـــدث عنـــها ابن عبــــاس، وعبـــيد بن السباق، وكريب مولى ابن عباس ومجاهد وأبو أيوب يحيى بن مالك الأزدى وجابر بن عبد الله. بلغ مسندها فى كتاب بقى بن مخلد سبعة أحاديث منها أربعة فى الكتب الستة، عند البخارى حديث وعند مسلم حديثان. وقد تضمنت مروياتها أحاديث فى الصوم، فى عدم تخصيص يوم الجمعة بالصوم، وحديث فى الدعوات فى ثواب التسبيح، وفى الزكاة فى إباحة الهدية للنبى صلى الله عليه وسلم إن كان المهدى ملكها بطريق الصدقة، كما روت فى العتق.

وهكذا وبسبعة أحاديث شريفة خلدت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث اسمها فى عالم الرواية، لتضيف إلى شرف صحبتها للنبى وأمومتها للمسلمين، تبليغها الأمة سنن المصطفى ، ما تيسر لها ذلك.

ومن الأحاديث التى أخرجها الإمام البخارى رحمه الله عن قتادة عن أيوب عن جويرية بنت الحارث أن النبى دخل عليها يوم الجمعة، وهى صائمة فقال (أصمت أمس)؟ قالت: لا. قال (تريدين أن تصومى غدا)؟ قالت: لا. قال (فأفطرى)، وهذا يدل على كراهية تخصيص يوم الجمعة بالصوم والنهى عن صيامه.

وعرفت السيدة جويرية بكثرة صيامها وذكرها وتسبيحها لله .

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ, قَالَت: أَتَى عَلَى رَسُولُ اللهِ غُدْوَةً، وَأَنَا أُسَبِّحُ, ثُمَّ انْطَلَقَ لِحَاجَةٍ, ثُمَّ رَجَعَ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ, فَقَالَ: (مَا زِلْتِ قَاعِدَةً) قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: (أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ لَوْ عُدِلْنَ بِهِنَّ عَدَلَتْهُنَّ - أَوْ لَوْ وُزِنَّ بِهِنَّ وَزَنَتْهُنَّ, يَعْنِى بِجَمِيعِ مَا سَبَّحَتْ - سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, سُبْحَانَ اللهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ). أخرجه أحمد فى السند.

لقاء الله: وفاتها :

عاشت السيدة جويرية بعد رسول الله راضية مرضية، وامتدت حياتها إلى خلافة سيدنا معاوية بن أبى سفيان . وتوفيت أم المؤمنين فى شهر ربيع الأول من السنة الخمسين للهجرة النبوية الشريفة، وهى بنت خمس وستين وشيع جثمانها فى البقيع وصلى عليها مروان بن الحكم.

رضى الله عنها وأرضاها، وجعل الفردوس الأعلى مأواها، وجمعنا بها فى أعلى عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا.

راوية رمضان