من ضوئها قبس

 

كَفَى مِنْ ضَوْئِهَا قَبَسٌ وَلَكِنْ        بِحُسْنِ الْقَصْدِ أَحْبُوكُمْ ضِيَاهَا (29/30)

من درر الإمام فخر الدين التى تجل عن الأفهام والعقول والقلوب والتى يقول عنها :

وَمَنْ يَرْجُو الْحِمَايَةَ مِنْ خُطُوبٍ               فَأَرْكَانُ الْحِمَايَةِ فِى حِمَاهَا (29/26)

وَأَوَّلُ بُغْيَةِ الْأَرْوَاحِ شِرْبُ                    وَإِنْ ظَمِئَتْ فَمَا نَالَتْ مُنَاهَا (29/27)

فَلَا هِىَ لِلْقُلُوبِ وَلِلْعُقُولِ                        بِمُدْرَكَةٍ وَلَا بَدْءِ انْتِهَاهَا (29/28)

وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ غَيْرِى عَلِيمُ                    بِمَا تَحْوِى وَمَا هُوَ مُحْتَوَاهَا (29/29)

كَفَى مِنْ ضَوْئِهَا قَبَسُ وَلَكِنْ              بِحُسْنِ الْقَصْدِ أَحْبُوكُمْ ضِيَاهَا (29/30)

فالخطوب بمعنى الأمور والشئون والذى يرجو الحماية من أمور الدهر سواء كانت عظيمة أم بسيطة فيكفينا أن نعرف أن أركان الحماية فى حمى هذه القصائد لأن معانيها مستقاة من القرآن ساقها لنا عارف بالله من الذين قال عنهم المولى تبارك وتعالى فى سورة ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ الحجرات 7 فهؤلاء فيهم رسول الله بسنته وبعلمه وبحكمته وبأخلاقه وهم الراشدون، فالرسول معهم يعلمهم وإن شئت قرأت الآية الكريمه ﴿هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ • وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ • ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ الجمعة 4-2 أنظر فى الكلمات ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ وانظر إلى ﴿وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ يعنى لم يأتوا بعد ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ فما ظلمنا فى هذه الحياة الدنيا أبداً والله، فقد جاءنا من ورث الرسول والحديث يقول (العلماء ورثة الأنبياء) والحديث الآخر يقول (علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل) وحديث آخر يقول (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى عضو عليها بالنواجز) وحديث آخر فى مسند الإمام أحمد صاحب المذهب الشرعى يقول: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ فُرَاتٍ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ قَالَ قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ خَمْسَ سِنِينَ فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِىِّ أَنَّهُ قَالَ (إِنَّ بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَتْ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِىٌّ خَلَفَ نَبِىٌّ وَإِنَّهُ لَا نَبِىَّ بَعْدِى إِنَّهُ سَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ) قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ (فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ الَّذِى جَعَلَ اللهُ لَهُمْ فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ) وحديث آخر يقول (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها). قال أبو أحمد: قال محمد بن على بن الحسين، سمعت أصحابنا يقولون: كان من المائة الأولى عمر بن عبد العزيز. وفى المائة الثانية محمد بن إدريس الشافعى. قال الشيخ أحمد: وروينا عن أحمد بن حنبل أنه قال: فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة. وأرجو أن يكون الشافعى على رأس المائة الأخرى. فعندما يتكلم هذا الإمام يجب أن يسمع الجميع وقد جاء ومعه مواصفاته وعلاماته ومن علاماته هذه القصائد التى بين أيدينا التى يعجز البيان عنها والتى أعجزت الفصحاء والبلغاء والنحويين وذلك لأن قائلها وارث من أوتى جوامع الكلم ولأن قائلها بعثه الله ليجدد، ومادام بعثه الله فما القول بعد ذلك؟

معذرة للإطالة، ونرجع للأبيات: فإن قلنا أن أركان الحماية هى أركان الإسلام الخمس مثلاً كمعنى من المعانى فنجد أن من احتمى بأن دخل الإسلام وأقر بالأركان الخمس فعلينا أن نعلم أن الإسلام بنى على خمس ولم تكن الاركان هى الإسلام كله ثم أين المنهج هل ينفع الإقرار بالأركان مع ترك المنهج؟ فالأركان التى أقررت بها لابد بأن يحميها العمل بالمنهج وهو القرآن، والقرآن لابد وأن تأخذ معناه من صاحب بصيرة وهاهو صاحب البصيرة يأتينا بالمعنى فى صورة  نظم بديع حتى يسهل علينا حفظه ويرسم لنا منهجاً وطريقاً نسير عليه وحتى يسهل علينا كشف ما ليس منه.

ثم يقول :

وَأَوَّلُ بُغْيَةِ الْأَرْوَاحِ شِرْبٌ                  وَإِنْ ظَمِئَتْ فَمَا نَالَتْ مُنَاهَا

والشِرب هو النصيب فى اللغة فأول ما تتمناه الأرواح هو أن يكون لها نصيب من معانى كتاب الله تستقيم بها فى العبادة وإلا فهى ظمئى فى سحائب من الأنوار وما نالت إستقامتها فاهتدت إلى الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

ثم يقول :

فَلَا هِىَ لِلْقُلُوبِ وَلِلْعُقُولِ                  بِمُدْرَكَةٍ وَلَا بَدْءِ انْتِهَاهَا

كيف ندرك المعانى التى أفاض بها الله على رسوله وأصحاب البصائر ممن اصطفاهم لنشر الدين وتجديده قبل أن ينطقوا بها، ومادامت القلوب لاتزال قلوب تتقلب ولم تسكن وتصبح فؤاد فإن معانى هذه القصائد العالية المستقاة من القرآن الكريم مشرب للأرواح وصلاً كما قال :

كَلَامِى مَشْرَبُ الْأَرْواحِ وَصْلًا    إِذَا لَمْ تَشْرَبُوا مِنْهُ فَأَىْ (30/17)

ثم يقول :

وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ غَيْرِى عَلِيمُ               بِمَا تَحْوِى وَمَا هُوَ مُحْتَوَاهَا

كَفَى مِنْ ضَوْئِهَا قَبَسُ وَلَكِنْ        بِحُسْنِ الْقَصْدِ أَحْبُوكُمْ ضِيَاهَا

نحن نسمع دائماً جملة "المعنى فى بطن الشاعر" فما بالنا بصاحب الدر المنظوم وليس بشاعر، لأنه يقول ما يراه بالبصيرة ولا يقول إلا حقاً.

كَفَى مِنْ ضَوْئِهَا قَبَسُ وَلَكِنْ        بِحُسْنِ الْقَصْدِ أَحْبُوكُمْ ضِيَاهَا

كفى من معانيها وحقائقها العظيمة العالية قبس من النور يضيىء لنا الطريق ولقد أوّل لنا السيد جلال الدين السيوطى فى بيته المشهور وذلك بعد الإقرار بالمعنى الشرعى قال:

يا آل طه أنتم النور الذ                 ى ظن موسى أنه نار قبس

أى أن أهل البيت هم ذلك القبس وذلك لأن تأويل الراسخين فى العلم يأولون موسى بالقلب مثل السيد محيى الدين بن العربى وغيره من العارفين رضوان الله عليم أجمعين وليس غريب علينا هذا المعنى إذا علمنا الحديث عن الإمام على والقائل حدثنا معاوية بن هشام قال حدثنا عمار عن الأعمش عن المنهال عن عبد الله بن الحارث عن على قال "إنما مثلنا فى هذه الأمة كسفينة نوح وكتاب حطة فى بنى إسرائيل" فى السنن الكبرى للنسائى، وحديث آخر فى سنن الترمذى يقول: حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ الْمُنْذِرِ -كُوفِىٌّ- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ وَالأَعْمَشُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِى ثَابِتٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالاَ قَالَ رَسُولُ اللهِ (إِنِّى تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِى أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ وَعِتْرَتِى أَهْلُ بَيْتِى وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَىَّ الْحَوْضَ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِى فِيهِمَا). قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

فإذا أحسنا القصد إلى من بعثه الله وأحببنا أهل بيته الذين هم أهل بيت الحبيب المصطفى وأخذنا عنهم، حبانا ضياها ونورنا بأنوارها.

نفعنا الله بهم وحشرنا فى زمرتهم ورضى الله عن ساداتنا أجمعين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

 

محمد مقبول