عباسية واحد

 

كنت جالساً فى ميكروباس فى طريقى إلى شارع الأزهر وكان يجلس بجانبى رجل يكبرنى سناً، وكعادة المصريين دار بيننا حديث دون سابق معرفة، تكلمنا فى أشياء كثيرة فقد كان الوقت أمامنا كثير، فالشوارع مزدحمة، والسيارات تسير كالسلحفاة، وكأننا نعرف بعض من زمن طويل، فسألنى فى بساطة شديدة إلى أين تذهب؟ فأجبت: إلى شارع الأزهر، فقال: دى صدفة سعيدة، أنا ذاهب إلى هناك أيضاً، فسألته عن سبب ذهابه، فقال: للزيارة والصلاة. فقلت: فى جامع الأزهر؟ قال: بل عند سيدنا الحسين، فقلت فى سخرية: سيدنا ... حسألك سؤال بدون زعل ... السيادة دى مش لله؟ ليه بتقول سيدنا كذا ... وسيدنا كذا؟ وكتمت الضحك فى داخلى، فرد علىَّ قائلاً: بدون زعل ... الاعتراف بالجهل مش عيب، ولكن العيب أن تدّعى العلم، وكأنه قد ضربنى على وجهى، وتمالكت نفسى، ونويت أن أرد له هذا القلم اثنين، والتفت إليه قائلاً: طيب قول، منك نستفيد، فقال: ألم تسمع قوله (أنا سيد ولد آدم) ... فقاطعته: يوم القيامة، فنظر إلىَّ قائلاً: هناك روايتان واحدة ذكر فيها يوم القيامة، والثانية لم يذكر فيها، طيب، ناخد بروايتك اللى انت عارفها، انت مقر بالحديث بدليل أنك تحفظه، إذا كانت السيادة الآن فى الدنيا كما تعتقد لله سبحانه وتعالى، فهل من المعقول أن يعطيها لرسوله يوم القيامة، المفروض أن يكون العكس والدليل على هذا قصة المُلك، إحنا فى الدنيا بنقول: القصر ده ملك فلان، الأرض ده ملك فلان، البلد ده ملك فلان وهكذا، يوم القيامة لما ربنا يأمُر فيهلك كل من فى الأرض والسموات ولا يبقى شئ فيقول ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾، فيرد على نفسه ﴿للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ غافر 16. صح الكلام؟ وكرر نفس السؤال علىَّ؟ ولكنى لم أنطق بكلمة، فقد اصابنى كلامه بصدمة فقد كنت متوقع أن يجيب علىَّ بكلام فلسفى أو نظريات يمكن أن أناقشه معه وأغلبه فيها، لكنه كشفنى أمام نفسى مبيناً لها مدى جهلى، ولم يتركنى أفيق وأسترِدُ مابقى منى، بل قال: ألم يقل سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم مخاطباً سيدنا زكريا عندما دعاه وطلب منه أن يهبه ذرية صالحة ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ آل عمران 39، الكلام ده مش قرآن؟ ربنا بنفسه قال إنه سيد، ولم أرد من فوق أو ... لا داعى للكلام، وسألنى: أنت تعرف معنى كلمة سيد، ولمن تقال؟ فوجدتها فرصة أن أبين له أنى عارف، مش جاهل، فقلت وأنا أنتقى الكلمات: السيد فى اللغة هو المولى ذو الأتباع والخدم والمتولى أمرهم وكل من افترضت طاعته، ونظرت إليه، كأنى أقول بها زنقتك ... مش حتعرف ترد؟ ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، فقال: انت نظرت لكملة المولى على أنها لا تطلق إلا على الله، ونسيت أنك رددت على نفسك فى كلامك بقولك المتولى الذى افترضت طاعته، يعنى إيه؟ فيه ناس كتير لا تطيع الله، بنص كلامك يبقى هو مش سيد عليهم، يعنى انت قلت السيادة لله، ثم رجعت ونفيت ماقلت، وأحسست بأن دُش بارد نزل علىَّ، ولم يتركنى حتى لأهنأ بهذا الدُش، بل استمر فى الكلام ... أنت تعرف فى البلاد العربية التى يحكمها الملوك، عندما يحضر الملك إلى مكان يقف حاجب على باب المكان ليعلن قدومه قائلاً: مولانا الملك أو جلالة الملك، ولم يعترض أحد على هذا القول أو ذاك، ولم يقال أنهم يعبدوه، فما رأيك؟ وشعرت بأنى أتنفس بصعوبة، وحاولت أن أهرب من هذا النقاش، ولكن فات الوقت، فالركاب من حولنا حتى السائق انتبهوا لما يدور بيننا، وكانوا يستمعون فى شغف انتظاراً لما يصل إليه النقاش، فقررت أن أستمر فى المناقشة منتظراً منه أن يخطئ، فأمسكها عليه وأستعيد توازنى، وأشرت إليه أن يكمل، فقال: التفاسير قالت: أن كلمة سيد تعنى الحليم، التقى، الكريم على الله، الشريف، الفقيه العالم، الذى لا يغلبه غضبه، وقالوا أيضاً: السيد هو المتقدم المرجوع إليه، والسيد من فاق أهل عصره، وقيل سيد لأنه يسود قومه، والسيد من ليس فى رق مخلوق يعنى مش عبد لمخلوق ولكن عبداً لله، عرفت؟ ... قلت: سيدنا الحسين ليه؟ وتدخل السائق قائلاً: وحياة سيدنا النبى ياشيخ وضح وقول لنا ليه؟ ولأول مرة أُلاحظ أن السيارات تمر بسرعة بجوارنا، ونحن نسير ببطئ، ولم يعترض أحد من الركاب، فالكل يريد أن يعرف ماسينتهى إليه الحديث، واستكمل الرجل كلامه قائلاً: ألم يقل رسول الله (أنا سيد ولد آم ولا فخر)، ابن السيد يبقى إيه؟ فأجاب من فى السيارة جميعاً: يبقى سيد، فضحك الرجل، وقال: ألم يقل سيدنا محمد (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) أنت مش عاوز تعترف بسيادتهم لك فى الدنيا، فكيف يعرفونك فى الآخرة؟ وسكت، ثم نظر من النافذة، فانتهزت فرصة سكوته، وخاطبت السائق: لو سمحت ياأسطى بسرعة أرجوك عاوز ألحق صلاة الظهر فى جامع الأزهر ... والتفت إلى الرجل وقلت له: ماتيجى تصلى معايا فى جامع الأزهر ... فسألنى: ليه جامع الأزهر؟ فقلت: ده مش جامع وبس، ده جامعة تخرج منها علماء كثيرون فقاطعنى سائلاً: فيه إيه من جوه؟ فقلت: فيه ناس و... فقال: ماكل الجوامع فيها ناس، وفيها علماء، أنا بكلمك على الجوهر ... فيه إيه تانى جوه؟ ولأول مرة أقابل مثل هذا السؤال، ونظرت إليه فى غيظ قائلاً: قولى إنت المسجد اللى حتصلى فيه إيه جواه غير اللى قلته؟ فقال: نور فضحكت، وقلت: كل الجوامع فيها كهرباء، فقال: أنا بتكلم عن نور القلوب، نور الهداية، نور الإيمان، بتكلم عن سيدنا الحسين، فقلت: هو نور إزاى؟ فرد قائلاً: ماتيجى تصلى معى، وبعدين أقولك إزاى، وعندما لاحظ ترددى قال: انت خايف من إيه؟ براحتك، فقلت: خايف! ... أنا جاى معاك، وقبل دخول المسجد قابلنا رجل يرتدى ألوان مختلفة، ووقف أمامنا ونظر بشدة فى وجهى، ثم فى وجه الرجل، ثم قال: عباسية واحد ... عباسية واحد، وكأنه منادى فى موقف عبود ينادى على المسافرين إلى طنطا أو كفر الشيخ أو الإسكندرية، وأدهشنى قوله ذلك، وأدهشنى أكثر رد الرجل عليه قائلاً: ماجالنا إلا ماجالنا، ونظر إلىَّ مبتسماً كأنه يقول: متفكرش كثير، ودخلنا المسجد، وصلينا، والتفت إليه، فأخذ بيدى وقال: نزور الأول وبعدين نتكلم، وعند المقام وجدت من يقبل الأرض، ومن يقبل الحديد، ومن يطلب من صاحب المقام أن يعطيه مايريد أو يشفيه من مرض، ولم أتكلم أو أفعل أى شئ، وقلت أسمع منه الأول وبعدين الحساب يجمع، وخرجنا من المقام إلى صحن المسجد، وجلسنا فى ركن هادئ، وبدأ الكلام: أنت بتقرأ قرآن كثير؟ فقلت: أحفظ بعض السور، وأستمع لإذاعة القرآن، وأشاهد القنوات الدينية فى التليفزيون، فسألنى: ألم تسمع قوله تعالى ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ المائدة 15، فقلت: نعم. فقال: أتعرف بماذا فسرت هذه الكلمات فى معظم كتب التفاسير، فهززت رأسى بمعنى لأ، فقال: كلمة نور المقصود بها سيدنا محمد وكتاب مبين هو القرآن، فقلت: سمعت مثل هذا الكلام من قبل، فسألنى: يعنى مش معترض على الكلام ده؟ قلت: مش معترض، بس ده كلام عن رسول الله، رسول الله فى المدينة فى السعودية، وأنت بتقول هنا نور إزاى؟ فقال: وانت داخل للمسجد شفت الحديث اللى مكتوب على الباب؟ قلت أيوه (أنا من الحسين والحسين منى) فيه إيه يعنى؟ فقال: بما أن سيدنا النبى نور كما اتفقنا، فلما يقول (أنا من الحسين) يعنى أن نوره خارج من سيدنا الحسين، وعلشان لا يترك لأى واحد فرصة لتفنيد هذا الكلام قفل عليهم الطريق بقوله (والحسين منى) يعنى سيدنا الحسين من نوره ... يبقى الموجود فى المسجد إيه؟ وكانت هذه أخ كلمات سمعتها وأنا فى وعىِ، ولم أعرف هل تركت الرجل وخرجت أم هو الذى أوصلنى إلى باب المسجد، فقد أصابتنى الحيرة وأنا أردد: نور؟ ... إزاى؟ ... أيوه نور ... إذا كان سيدنا الحسين من سيدنا النبى، وسيدنا النبى نور يبقى سيدنا الحسين نور ... أيوه نور ... صح نور، واصطدم بى رجل فنظرت إليه، فوجدته الرجل صاحب الألوان المختلفة الذى قابلنا عند دخولنا، فنظر فى وجهى ثم ضحك وصاح عباسية ... هأ هأ ... عباسية اثنين، عباسية اثنين ولم أهتم به أو بما يقول فقد كنت مشغول بالنور ...

أحمد نور الدين عباس

 

 

 

 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصوفية فى موقع الطريقة البرهانية.

أسرة التحرير