نشرنا فى صفحات القواطع عن موضوع القواطع عن المهيمن من كتاب المرشد الوجيز، وها نحن فى هذا الباب نستكمل الموضوع بجوانب أخرى تكمله حتى تعم الفائدة:

 

 

ماذا تفعل لو كنت مكانى؟

 

كان هذا العنوان لبرنامج يذاع فى إذاعة مصر، يعرض مشكلة من مشاكل الناس، يستضيف البعض منهم ليسألهم عن حل هذه المشكلة المطروحة أمامهم، فأخذت هذا العنوان لأطرح عليكم مشكلتى التى تعرضت لها ويتعرض لها غيرى مع إختلاف الشكل وليس المضمون، فالمشاكل التى يتعرض لها الإنسان منذ خُلق إلى نهايته لم يتغير مضمومنها أو سببها الذى أوجدها ولكن تغير شكلها حسب كل عصر، وتغيرت أدواتها، وهذه المشاكل تقع بسبب صفات مذمومة فى الإنسان أفظعها بدون ترتيب الطمع، الكره، الحسد، الحقد، ووجدت أنهن سبب كل بلاءٍ ووباءٍ، فماذا نفعل لمقاومة هذه الأوبئة ومعالجة أمراضها المزمنة، وجلست بينى وبين نفسى أفكر لعلى أصل إلى حل لهذه المشكلة الأزلية، ولمعت فى رأسى فكرة، وسألت نفسى أليس لكل داء دواء؟ وبدءت رحلتى فى البحث عن سبب يؤدى إلى الشفاء من أمراض البشرية المستعصية، وبعد جهد وسؤال أطباء الدنيا وفلاسفة العصر، لم أجد مايروى عطشى أو يريح قلبى، فأشار على صديق قائلاً: لقد ذهبت إلى الدنيا ولم تجد حلاً لمشكلتك، فلتذهب إلى الآخرةِ، ونظرت إليه غضباً قائلاً: انت عاوز تموتنى؟ فقال: لا أقصد هذا المعنى، ولكن أقول لك لقد جربت علاج الدنيا ولم ينفع، فلتذهب إلى علاج الآخرة، أى إذهب إلى علماء الآخرة الذين قدموا أُخراهم عن أى شئ واعتنوا بهذا الأمر جيداً، الذين يعرفون الله، وستجد علاجك عندهم، فلم أمانع وقررت بينى وبين نفسى قبل أن أذهب أو أبحث عن هؤلاء العلماء أن أقرأ فى كتبهم المتاحة أمامى لأعرف عنهم وعن مرضى وعلاجه، ولو كان هناك شئ يحتاج النقاش ناقشت وأنا على علم بما يقولون، وسارعت إلى كتب أماجد الأعلام، وليتنى كنت ذهبت دون قراءة وإعمال العقل، وشدنى عنوان فى أول كتاب أفتحه يقول "آفات اللسان" وفرحت جداً لأن هذا الموضوع يشير إلى الأمراض المتوطنة فى الإنسان، وجاء فى مقدمة هذا الموضوع كلمات بسيطة وهى: إن اللسان من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، فإنه صغير جرمه، عظيم طاعته وجرمه، إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان، ثم إنه ما من موجود أو معدوم، خالق أو مخلوق، متخيل أو معلوم، مظنون أو موهوم إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفى، فإن كل مايتناوله العلم يعرب عنه اللسان إما بحق أو باطل، ولا شئ إلا والعلم متناول له، وهذه خاصية لا توجد فى سائر الأعضاء، فإن العين لا تصل إلى غير الألوان والصور، والآذان لا تصل إلى غير الأصوات، واللسان رحب الميدان ليس له مرد، ولا لمجاله منتهى وحد، له فى الخير مجال رحب، وله فى الشر ذيل سحب، ولا يكب الناس فى النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ...، وَصَمَتُّ فترة ولم أكمل المقدمة، وقلت فى نفسى أنا جاى عايز حل ولا جسمى ينحل؟! فقلبت الصفحة علّى أجد ما يريح قلبى وتهدأ به نفسى، فكان أول ما طلعته، اعلم أن خطر اللسان عظيم ولا نجاة من خطره إلا بالصمت، وفى الحديث المروى فى شعب الإيمان للإمام البيهقى ومسند الإمام أحمد وسنن الترمذى عنه أنه قال (من صمت نجا) وروى الترمذى فى سننه عن أبى أمامة عن عقبة بن عامر قال قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال (أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك).

فياله من تشخيص للمرض وعلاجه الشافى، فالمرض هو اللسان وعلاجه إمساكه عن ... عن إيه؟ عشرون آفة أو مرض ينتج عن إطلاق العنان لهذا اللسان، أولها الكلام فيما لا يعنيك، وهذا هو الموضوع الذى أتصفحه كى يرتاح قلبى! فاسمع معى كى يرتاح قلبك انت الآخر، قال رسول الله (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) واسمع عن محمد بن كعب قال: قال رسول الله (إن أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة) فدخل عبد الله بن سلام، فقام إليه ناس من أصحاب رسول الله فأخبروه بذلك، وقالوا: أخبرنا بأوثق عمل فى نفسك ترجو به، فقال: إنى لضعيف، وإن أوثق ما أرجو به الله سلامة الصدر وترك ما لا يعنينى، وسمع ابن عباس يقول: خمس لهن أحب إلىّ من الدهم الموقوفة: لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعاً فإنه رب متكلم فى أمر يعنيه قد وضعه فى غير موضعه فعنت، ولا تمار حليماً ولا سفيهاً فإن الحليم يقليك والسفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به واعفه مما تحب أن يعفيك منه وعامل أخاك بما تحب أن يعاملك به، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالاحترام، ومعنى الدهم الموقفة: هى خيل فى أرساغها بياض، والرساغ هو مفصل ما بين الساعد والكف والساق والقدم.

وعن سيدنا عمر قال: لا تتعرض لما لا يعنيك واعتزل عدوك، واحذر صديقك من القوم إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشى الله تعالى، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه سرك، واستشر أمرك الذين يخشون الله تعالى.

وروى أن سيدنا لقمان الحكيم دخل على سيدنا داود وهو يصنع درعاً، ولم يكن رآها قبل ذلك اليوم فجعل يتعجب مما رآه، فأراد أن يسأله عن ذلك، فمنعته حكمته فأمسك نفسه ولم يسأله، فلما فرغ قام سيدنا داود ولبسه، ثم قال: نعم الدرع للحرب، فقال سيدنا لقمان: "الصمت حكم قليل فاعله".

هذه نبذة صغيرة عن أول آفات اللسان، ولست من القليل الذين ذكرهم سيدنا لقمان أنهم قادرون على الصمت، أى علاجهم بأيديهم، ولا استطيع قطع هذا اللسان كى آمن شره لأن فيه أيضاً الخير الكثير، حيرة بعد حيرة.

فماذا تفعل لو كنت مكانى؟

أحمد نور الدين عباس