المتحابين فى الله 2

 

 مازلنا معاً فى الحديث عن المحبة فى الله لما لها من أثر كبير إصلاح الفرد الذى يعود علينا أيضاً بإصلاح المجتمع ذاته، فلا شك إذا نبذ كل مِنّا الأخلاق الذميمة التى هى مصدر كل رذيلة، وتحلى بالأخلاق الكريمة واقتدى بهدى الحبيب المصطفى ، أن هذا يؤدى تلقائياً إلى صلاح المجتمع، ومن هدى الحبيب عن المحبة فى الله وردت أحاديث نبوية كثيرة ترغب المؤمنين كى يتحابوا فى الله، كما تبين لهم فضل المتحابين فى الله على غيرهم ومكانتهم وأجرهم عند الله تعالى، وتبين لهم أيضاً شروط هذه المحبة وأثرها على المتحابين.

فقد روى الإمامين البخارى ومسلم فى صحيحيهما عنه أنه قال (ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ) فكانت المحبة فى الله أحد ثلاث ركائز يجد بها الإنسان حلاوة الإيمان فى قلبه.

وفى صحيح الإمام عنه أنه قال (أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِى قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِى فِى هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لاَ غَيْرَ أَنِّى أَحْبَبْتُهُ فِى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّى رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ) فكانت المحبة خالصة لله من غير أى عَرَضٍ زائل من عوارض الدنيا، لله خالصاً.

وكان الفضيل بن عياض رحمه الله وغيره يقول: نظر الأخ إلى وجه أخيه على المودة والرحمة عبادة، فلا تصح المحبة فى الله عزّ وجلّ إلاّ بما شرط فيها من الرحمة فى الاجتماع، والخلطة عند الافتراق بظهور النصيحة، واجتناب الغيبة، وتمام الوفاء، ووجود الأنس، وفقد الجفاء، وإرتفاع الوحشة، ووجد الانبساط، وزوال الاحتشام، وكان الفضيل يقول: إذا وقعت الغيبة، ارتفعت الأخوة.

وقال الجنيد: ما تواخى اثنان فى الله عزّ وجلّ فاستوحش أحدهما من صاحبه واحتشم منه إلاّ لعلّة فى أحدهما، ومن ذلك ما روى عن النبى (ما تحاب اثنان فى الله عزّ وجلّ إلاّ كان أحبهما إلى الله عزّ وجلّ أشدهما حبّا لصاحبه).

وفى خبر: (كان أفضلهما) وفى الخبر الآخر (أحب الإخوان إلى الله عزّ وجل أرفقهما بصاحبه).

وروى الإمام أحمد فى مسنده عن مجاهد عن أبى ذر قال: خرج إلينا رسول الله فقال (أتدرون أى الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال قائل: الصلاة والزكاة، وقال قائل: الجهاد، قال: إن أحب الأعمال إلى الله عز وجل الحب فى الله والبغض فى الله).

وأورد ابن كثير فى تفسيره أن النسائى والحاكم رويا أن هذه الآية نزلت فى المتحابين فى الله ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ الأنفال 8: 63، وعن مجاهد عن قال: إذا تراءى المتحابان فى الله، فأخذ أحدهما بيد صاحبه، وضحك إليه، تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر.

فسبحان الله العزيز الحكيم، فإلى هذا الحد يكون جزاء التحابب فى الله وفائدته، فباللقاء والمصافحة فقط تتحاتت الخطايا والذنوب والآثام، ولكم يصرفنا إبليس اللعين وجنوده عن تلك الفائدة، ويبعدنا إلى دائرة الكراهية والعداوة والتباغض والتحاسد، كى لا نغنم هذه النعمة العظيمة ونجنى ثمارها، وهى التحابب فى الله، فلتنظروا معى أحباب الحبيب المصطفى إلى ما نحن فيه، وما أرادنا الحق أن نكون عليه، وتعالوا بنا نمتثل لأوامر الحق والحبيب المصطفى ونفوت الفرصة على إبليس اللعين، ونطرد العداوة والبغضاء والكراهية والقساوة من قلوبنا ونعمرها بالمحبة فى الله.

وكانت المحبة فى الله أيضاً من علامات الإيمان، فقد روى الطبرانى فى معجميه الأوسط والكبير والبيهقى فى شعب الإيمان عن ابن مسعود أنه وقال (إنَّ مِنْ الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ رَجُلًا لَا يُحِبُّهُ إلَّا للهِ مِنْ غَيْرِ مَالٍ أَعْطَاهُ فَذَلِكَ الْإِيمَانُ).

 وروى الترمذى والدارمى فى سننيهما والإمام أحمد فى مسنده أنه قال (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره).

وفى تفسير قولى تعالى ﴿وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ النساء 4: 69، فالحق سبحانه وتعالى يُعلِمنا بأنه من يرضى بأحكامه ورسوله ويمتثل بأوامرهما وينتهى بنهيهما فهو مع أكرم الخلق عند الله تعالى وقال الإمام  البيضاوى أن الحق سبحانه وتعالى قسمهم إلى أربعة أقسام بحسب منازلهم فى العلم والعمل، وحث كافة الناس على ألاَّ يتأخروا عنهم، وهم:

- الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل، المتجاوزون حد الكمال إلى درجة التكميل.

- الصديقون الذين صعِدت نفوسهم تارة بمراقى النظر فى الحجج والآيات، وأخرى بمعارج التصفية والرياضات إلى أوج العرفان، حتى اطلعوا على الأشياء وأخبروا عنها على ما هى عليها.

- الشهداء الذين أدى بهم الحرص على الطاعة والجد فى إظهار الحق، حتى بذلوا مُهَجَهُم فى أعلاء كلمة الله.

- الصالحون الذين صرفوا أعمارهم فى طاعته، وأحوالهم فى مرضاته، ولك أن تقول المُنعَمُ عليهم هم العارفون بالله، وهؤلاء إما أن يكونوا بالغين درجة العيان، أو واقفين فى مقام الاستدلال والبرهان.

وروى أن ثوبان مولى رسول أتاه يوماً وقد تغير وجهه ونحل جسمه، فسأله عن حاله، فقال: ما بى وجع، غير أنى إذا لم أرك اشتقت إليك، واستوحشت وحشةً شديدةً حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فخفت ألا أراك هناك، لأنى عرفت أنك ترفع مع النبيين، وإن دخلت الجنة، كنت فى منزل أدون من منزلك، وإن لم أدخل الجنة فذلك حَرِىّ ألا أراك أبدا فنزلت الآية ﴿وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَالرَّسُولَ ...﴾ إلى آخر الآية.

عبد الستار الفقى

 

 

 

 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصوفية فى موقع الطريقة البرهانية.

أسرة التحرير