كان .. ما .. كان

سيدنا إبراهيم 5

أبو الأنبياء وثانى أولى العزم

 

انطلق سيدنا إبراهيم تاركاً وراءه السيدة هاجر وسيدنا إسماعيل مطمئناً عالماً بما سيحدث لهما، ولهذا قال ﴿رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ إبراهيم 14: 37، فنجد الخليل يقول ﴿رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى﴾ فقوله أسكنت ولم يقل تركت أو أى كلمة تفيد أو تعبر عن البعد مع الخوف، دلالة منه أنه مطمئن عليهما، والسكون فى اللغة ثبوت الشئ بعد تحرك، وجاء منه السُكنة والسكينة، وتستعمل هذه الكلمة لبيان الاستيطان، والدلالة الأخرى على علمه أنه قال ﴿مِنْ ذُرِّيَّتِى﴾ ولم يقل ذريتى لأن فى ذلك الوقت لم يكن له ذرية سوى سيدنا إسماعيل كما أن قوله ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ﴾ ولم يقل بواد ليس فيه ماء رغم أن الوادى الذى تركهما فيه واد صخرى والصخر لا يزرع فيه ولم ينفى وجود الماء، ثم قال ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ مؤكداً يقينه بالله ومرسل رسالة إلينا جميعاً كأنه يقول فيها إذا شككت فى علمى بما سيحدث فلا تشك فى قدرة الله ورحمته وكرمه، ولهذا قالت السيدة هاجر عندما أخبرها الخليل إبراهيم إنه أمر الله، قالت: إذن لا يضيعنا، يكمل سيدنا إبراهيم كلامه فيقول ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ تحدث هنا بصفة الجمع ﴿لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ رغم أنهما كانا اثنين، دلالة أخرى على معرفته أنه سوف تأتى من ابنه سيدنا إسماعيل ذرية يعبدون الله، أى سبب وجودهم العبادة، ثم قال ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ أى فاجعل بعض الناس تُسرع إليهم شوقاً ومحبة، وقيل لو قال أفئدة الناس لازدحمت من فارس والروم ولحجت اليهود والنصارى، ولاحظ معى استخدام حرف الفاء فى كلمة ﴿فَاجْعَلْ﴾ راجياً سرعة تحقيق هذا المطلب، وعندما طلب الأكل والشراب طلبه عن تراخى وليس عن سرعة أو إلحاح، لعلمه أن الله سبحانه وتعالى كافلهم ورازقهم فأجاب الله سبحانه وتعالى دعوتيه الأولى والثانية، فنجد أن الثمار مختلفة أشكالها وألوانها ومواسمها متوفرة دائماً فى مكة فى أى وقت، هذا مما عرفناه عن الآية من معنى ظاهرى، وأما أهل التأويل فقالوا ﴿رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى﴾ فيه تعليم اليقين لمن طلب تربية اليقين، وقالوا أيضاً: فيه إشارة إلى تربية أهله بحقائق التوكل والرضا والتسليم، ونِعْمت التربية هذه، فأعلمنا بسنته القائمة الحنيفية السمحة السهلة الخليلية، فالعارف الصادق ينبغى له ألا يكون معوله على الأملاك والأسباب فى حياته وبعد وفاته لتربية عياله، فإنه تعالى حسبه، وزاد فى تربيتهم بأن يؤدبِّهم بإقامة الصلاة إظهاراً للعبودية، وإخلاصاً فى المعرفة، وطلباً للمشاهدة، ومناجاة فى القربة، وقالوا أيضاً: أخبر عن صدق توكله وتفويضه، أى: أسكنت قوماً من ذريتى ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ وإنما رد الرِّفق لهم فى الجِوارِ فقال ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ ثم قال ﴿لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أى: أسكنتُهم لإقامة حقَّكَ، لا لِطَلَبِ حظوظهم، ويقال: اكتفى بأن يكونوا فى ظلال عنايته، عن أن يكونوا فى ظلال نعيمهم، ثم قال: قوله ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ﴾ أى: أسكنتُهم هذا الوادى، ولا متعلق من الأغيار لقلوبهم، ولا متناول لأفكارهم وأسرارهم، فهم مطروحون ببابِكَ مُقيمون بحضرتك، جار فيهم حُكمك، إن رَاعَيتَهُم كَفَيْتَهم، وكانوا أعَزَّ خلقِ اللهِ، وإن أقصيتهم وأوبقتهم كانوا أضعف وأذلَّ خَلْقِكَ، وقوله تعالى ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ﴾ قالوا: ليشتغلوا بعبادتك، فَأَفْرِدْ قوماً يقومون لهم بكفايتهم، وارزقهم من الثمرات، فإنَّ من قام بحقِّ الله قام الله بحقِّه، فاستجاب الله دعاءَه فيهم، فصارت القلوبُ من أهل كل بَر وبحرٍ كالمجبولة على محبة ذلك البيت، ومحبة أولئك المصلين من سُكانه، وقالوا أيضاً: سأل أن يجعلهم مرادى جلاله وجماله، ويجعلهم آية الصادقين والعاشقين، بقوله ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ﴾ تميل بوصف الإرادة والمحبة لك، والاقتداء بهم فى إقامة سُنتك، وألبسهم لباس أنوارك، وألق فى قلوب خلقك محبتهم بمحبتك، ومعنى قوله: مرادى جلاله وجماله أى: مظهراً لجلاله وجماله، يعشقهم البَرُّ والفاجر، والكامل والناقص، فقد ظهر فيهم الجلال والجمال.

أما الدعوة الأولى فقد تحققت بعد أن تركهما الخليل ومعهما السقاية وجراب مملوء بالطعام، فقد روى أن السيدة هاجر مكثت ثلاثة أيام حتى فرغ ما معها من زاد وماء، فعطشت ولم تجد لها أو لابنها ما تطعمه، وكان سيدنا إسماعيل يضرب الأرض برجليه وهو يبكى، فلما رأته أمه على هذا الحال لم تحتمل وأخذت تهرول حتى صعدت الصفا لتنظر علها ترى شيئاً أو تسمع شيئاً، فلم تر شيئاً فانحدرت إلى الوادى فسعت حتى أتت المروة فجعلت تنصت وتنظر فلم تر شيئاً، ففعلت ذلك سبع مرات من الذهاب والعودة فكان ذلك أصل السعى، ثم عادت إلى سيدنا إسماعيل وقد نبعت عين ماء تحت قدميه فخافت السيدة هاجر أن تفيض العين ويذهب الماء فى الصحراء فصارت تجمعه بيديها وتقول زم زم، وفى اللغة حينما يُقال: زمزم الشئ إِذا جمعه وردد أَطراف ما انتشر منه، ولقول سيدتنا هاجر سُمّيَت زمزم، وفى هذا الأمر قال الحبيب المصطفى فى الحديث المروى فى السنن الكبرى للإمام النسائى (رحم الله هاجر لو تركتها كان عينا معينا).

وكانت هناك جماعة من بنى خزاعة من أولاد جرهم قد نزلوا بالقرب من مكة، فلما رأوا الطير قد كثرت ولزمت الوادى عرفوا أن فيه ماء، فجاءوا إلى السيدة هاجر فقالوا لها: لو شئتِ لكنا معك فآنسناكِ والماء ماؤك قالت: نعم.

فماذا حدث بعد ذلك فى مكة؟ وماذا حدث فى الشام؟ هذا ما سنعرفه فى العدد القادم إن شاء الله تعالى.

أحمد نور الدين عباس