نشرنا فى صفحات القواطع عن موضوع القواطع عن المهيمن من كتاب المرشد الوجيز، وها نحن فى هذا الباب نستكمل الموضوع بجوانب أخرى تكمله حتى تعم الفائدة:

 

 

فيه شركاء

 

بين لنا الحق سبحانه وتعالى فى كتابه العزيز الفرق بين الإنسان الذى تسيطر عليه القواطع عن الله وبين الإنسان الذى ليس للقواطع عليه سبيل، فقد قال تبارك وتعالى فى سورة الزمر الآية 29 ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ وللنظر إلى قول الحق جيداً ﴿فِيهِ شُرَكَاءُ﴾ ولم يقل "معه شركاء" أى الشركاء بداخله، فهو تتجاذبه القواطع فتارة ينشغل بالدنيا وما فيها من ملذات وغير ذلك من الخواطر، وتارة ينشغل بارتكاب المعاصى، وتارة يميل إلى هواه فهو يقوده حيث شاء، فكان الشركاء فى الآية كلٌ يعمل على استخلاصه له وفقط، وقد قيل:

إنى بُلِيتُ بأربع يرميننى                   بالنبل عن قوس له توتير

إبليس والدنيا ونفسى والهوى    يا رب أنت على الخلاص قدير

وقال سيدى فخر الدين :

والقاطعات عن المهيمن أربع         بئس البضاعة عيرهن نفـير

فإبليس دائماً يأمره بارتكاب المعاصى، والدنيا تريده منغمساً فى شهواتها وملذاتها، ونفسه متشعبة فهو بين أمارة بالسوء أو لوامة أو مطمئنة أو غير ذلك من الأنفس التى ذكرت فى كتاب الله، وأما الهوى فكان هذا الأخير هو أخطر القواطع فهو دائما يأمره بمخالفة النص وعدم اتباعه، وعن أحمد بن سهل قال: أعداؤك أربعة:

  • أولها: الدنيا وسلاحها لقاء الخلق وسجنها الخلوة.

  • الثانى: الهوى وسلاحه الكلام وسجنه الصمت.

  • الثالث: الشيطان وسلاحه الشبع وسجنه الجوع.

  • الرابع: النفس وسلاحها النوم وسجنها السهر.

أما الرجل الثانى فى الآية ﴿وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ قالوا عنه: هو خالص لله ليس للخلق فيه نصيب ولا للدنيا نسيب وهو من الآخرة غريب وإلى الله قريب منيب، فالزاهد قد تفرغ من جميع أشغال الدنيا فهو يعبد ربه خوفا وطمعا، والعارف قد تفرغ من الكونين فهو يعبد ربه شوقاً إلى لقائه فلا استواء بين البطالين والطالبين وبين المنقطعين والواصلين.

وفى عدم مساويتهما ببعض قالوا: لا يستوى القلب المشترك مع القلب المفرد الخالص لله، القلب المشترك تفرّقت همومه، وتشتت أنواره بتشتيت شواغِله وعلائقه، وتفرّقت محبته بتفرُّق أهوائه وحظوظه، والقلب المفرد اجتمعت محبته، وتوفرت أنواره وأسراره بقدر تفرُّغه من شواغله وعلائقه.

وفى الحِكَم: "كما لا يحب العمل المشترك، لا يحب القلب المشترك، العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشترك لا يُقبل عليه" وقيل أيضاً: "فرِّغ قلبك من الأغيار تملؤه بالمعارف والأسرار".

وسئل الإمام الجنيد: كيف السبيل إلى الوصول؟ فقال: بتوبة تزيل الإصرار، وخوف يقطع التسويف، ورجاء يبعث على مسالك العمل، وبإهانة النفس بقربها من الأجل، وبُعدها من الأمل، قيل له: وبمَ يتوصل إلى هذا؟ فقال: بقلب مفرد، فيه توحيد مجرد.

وفى الحديث المروى فى سنن الإمام ابن ماجه عن سيدنا عبد الله بن مسعود أنه سمع رسول الله يقول (مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا؛ هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللهُ هَمَّ دُنْيَاهُ وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِى أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللهُ فِى أَىِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ).

وفى سنن الإمام ابن ماجه أيضاً عن سيدنا عثمان ابن عفان أن رسول الله قال (مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلا مَا كُتِبَ لَهُ وَمَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ).

من مجموعة المرشد الوجيز

 

 

النص والرأى

 

روى أن سيدنا موسى عليه السلام مرض واشتد وجع بطنه فشكا إلى الله تعالى فدله على عشب فى مغارة فأكله فعوفى بإذن الله ثم عاوده ذلك المرض فى وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه فكلم ربه فقال يارب أكلته أولا فانتفعت به وأكلته ثانيا فضرنى، فقال له لأنك فى المرة الأولى ذهبت منى إلى الكلأ فحصل لك الشفاء وفى المرة الثانية ذهبت منك إلى الكلأ أما علمت أن الدنيا سم قاتل وترياقها اسمى.

 

عبد الباسط محمد