كان .. ما .. كان

نبى الله: صالح

يقول المولى تبارك وتعالى فى محكم التنزيل مخبراً عن قوم ثمود: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ هود 11: 61.

هو صالح بن عبيد بن أسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود بن إرم بن سام، أُرسل إلى قوم ثمود، بعد قوم عاد وعمروا بلادهم وخلفوهم وقد سموا بهذا الاسم لقلة ما بهم من التثميد وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادى القرى، وقد دخلها رسول الله وأصحابه فقال لهم: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين مخافة أن يصيبكم مثل ما أصابهم).

واشتهر قوم ثمود بطول العمر، فكانت بيوتهم تتهدم وهم ما زالوا أحياء، فنحتوا البيوت فى الجبال حتى لا تتأثر بمرور الزمن عليها، وكانوا ذوى خصب وسعة، فعتوا وأفسدوا فى الأرض وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحًا من أشرافهم، فأنذرهم فكذبوه كما ذكر فى كتاب الله فى قوله تعالى ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ • إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ • إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ • فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ • وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الشعراء 26: 141-145، وحذرهم بأن ما يعيشون فيه من جنات وعيون وزروع ونخل ونحتهم من الجبال بيوتاً لن ينجيهم من عذاب الله إلا بالتقوى وطاعة الله سبحانه وتعالى ولا يتبعوا المفسدين، قالوا له: كنا نحسبك فينا ذو شأن عظيم، أتنهانا عن عبادة الأصنام التى وجدنا آباؤنا يعبدونها، إنك من المسحرين - أى أصابك السحر حتى غلب على عقلك - لإن كنت صادق فيما تقول فأت بآية وهذا كما بين فى قول تعالى ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ • مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ الشعراء 26: 153-154، فلما طلبوا منه الآية، قال لهم: أى آية تريدون؟ فقالوا: أخرج معنا إلى عيدنا فتدعو إلهك وندعوا آلهتنا، فمن استجيب له اتبع، فخرج معهم، فدعوا أصنامهم فلم تجيبهم، ثم أشار سيدهم جندع بن عمرو إلى صخرة منفردة يقال لها "الكاثبة" قائلا له: أخرج من هذه الصخرة ناقة عشراء مخترجة جوفاء وبراء، فإن فعلت صدقناك، فأخذ عليهم سيدنا صالح العهد لئن فعلت ذلك لتؤمنن؟ قال جندع: نعم.

فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة وانشقت عن ناقة عشراء تحمل نفس الأوصاف التى وصفوها، ثم أنتجت ولدًا مثلها فى العظم، فآمن به جندع فى جماعة، ومنع الناس من الإيمان ذُؤاب بن عمرو، والحباب صاحب أصنامهم، ورباب كاهنهم، وقال لهم سيدنا صالح كما ذكر فى القرآن على لسانه ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ الشعراء 26: 155، ﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾ هود 11: 64.

فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر، وترد الماء غباً، فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها، ثم تباعد ما بين الفخذين، فيحلبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم فيشربون ويدخرون، وكانت تخرج فى الصيف إلى ظهر الوادى فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه، وفى الشتاء تذهب لبطن الوادى فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشق ذلك عليهم فزينت عقرها لهم إمرأة تدعى "عنيزة أم غنم" وأخرى تدعى "صدفة بنت المختار" واتفقوا مع رجل يدعى "قدار" كى يعقر الناقة، وروى أنه قال: لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين، فكانوا يدخلون على المرأة فى خدرها فيقولون أترضين بعقر الناقة فتقول نعم، وكذلك صبيانهم، واستعان قدار برجل آخر ليساعده فى عقر الناقة، فلما شربت إختبأ لها فى جانب تل، فضربها صاحبه بالسهم، وعقرها قدار بالسيف، فهرب ولدها وارتقى جبل اسمه "قارة" فرغى ثلاثًا ودخل صخرة أمه، فلما شاع خبر عقر الناقة تسارع القوم إليها وصاروا يقطعون من لحمها فلم يبق بيت إلا ودخله من ذلك اللحم، وصاروا يأكلون ويضحكون، فلما أتى سيدنا صالح وكان غائباً، أخبروه بعقر الناقة وقال له جماعة من القوم لا ذنب لنا فى عقر الناقة، وإنما عقرها قدار، فقال لهم سيدنا صالح: أدركوا الفصيل، عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه حيث دخل الصخرة، فقال لهم سيدنا صالح: تصبح وجوهكم غدًا مصفرة، وبعد غد محمرة، واليوم الثالث مسودة، ويصبحكم العذاب، وقيل أيضاً أن سيدنا صالح قال لهم: أنظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يُرفع عنكم العذاب. فخرجوا يطلبونه فلمّا رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه فأوحى الله عزّ وجلّ إلى الجبل فتطاول فى السماء حتّى لا تناله الطير. وجاءَ سيدنا صالح فلمّا رآه الفصيل بكى حتّى سالت دموعه ثمّ استقبل صالحاً فرغا رغوة ثم رغا أُخرى ثم رغا أُخرى، فقال سيدنا صالح: لكل رغاة أجل يومكم تمتّعوا فى داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب، وقال الحق تبارك وتعالى ﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ هود 11: 65، فلما رأوا العلامات سعوا لقتل سيدنا صالح فأنجاه الله إلى أرض فلسطين، فلما كان صحوة اليوم الرابع تحنطوا وتكفنوا وانتظروا نزول العذاب، فآتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا أجمعين كبيرًا وصغيرًا. ﴿فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ الشعراء 26: 158.

أحمد نور الدين عباس

 

 

ماشطة فرعون

 

لما أسرى بالنبى شم ريحا طيبة فقال: (يا جبريل ما هذه الريح الطيبة)؟ فقال جبريل: هذه ريح قبر الماشطة وابنيها وزوجها. وقصتها أنها عندما انتشر أمر سيدنا موسى وكثر أتباعه وأصبح المؤمنون برسالته خطرا يهدد فرعون وملكه، ظل فرعون فى قصره فى حالة غليان مستمر يمشى ذهابا وإيابا، يفكر فى أمر موسى وماذا يفعل بشأنه وشأن أتباعه، فأرسل فى طلب رئيس وزرائه هامان ليبحثا ذلك الأمر، وقررا أن يقبض على كل من يؤمن بسيدنا موسى ويعذب حتى يرجع عن دينه، فسخر فرعون جنوده فى البحث عن المؤمنين بسيدنا موسى، وأصبح قصر فرعون مقبرة للأحياء من المؤمنين، وكانت صيحات المؤمنين وصرخاتهم ترتفع من شدة الألم، ووطأة التعذيب تلعن الظالمين وتشكو إلى ربها صنيعهم، وشمل التعذيب جميع المؤمنين حتى الطفل الرضيع لم ترحمه يد التعذيب، فزاد البلاء واشتد الكرب على المؤمنين، فاضطر كثير منهم إلى كتمان إيمانه خوفا من فرعون وجبروته واستعلائه فى الأرض، ولجأ الآخرون إلى الفرار بدينهم بعيدا عن أعين فرعون، وكان فى قصر فرعون امرأة تقوم بتمشيط شعر ابنته وتجميلها، وكانت من الذين كتموا إيمانهم فى قلوبهم، وذات مرة كانت المرأة تمشط ابنة فرعون كعادتها كل يوم، فسقط المشط من يدها على الأرض، ولما همت بأخذه من الأرض، قالت بسم الله، فقالت لها ابنة فرعون: أتقصدين أبى؟ فقالت: لا، ولكن ربى ورب أبيك الله، فغضبت ابنة فرعون من الماشطة وهددتها بإخبار أبيها بذلك، ولكن الماشطة لم تخف، فأسرعت البنت لتخبر أباها بأن هناك فى القصر من يكفر به، فلما سمع فرعون ذلك اشتعل غضبه وأعلن أنه سينتقم منها ومن أولادها، فدعاها وقال لها: أو لك رب غيرى؟! قالت: نعم، ربى وربك الله، وهنا جن جنونه، فأمر بإحضار وعاء ضخم من نحاس وإيقاد النار فيه، وإلقائها هى وأولادها فيه، فما كان من المرأة إلا أن قالت لفرعون: إن لى إليك حاجة، فقال لها: وماحاجتك؟ قالت: أحب أن تجمع عظامى وعظام ولدى فى ثوب واحد وتدفننا، فقال: ذلك علينا، ثم أمر بإلقاء أولادها واحدا تلو الآخر، والأم ترى ما يحدث لفلذات كبدها، وهى صابرة محتسبة، فالأولاد يصرخون أمامها، ثم يموتون حرقا، وهى لا تستطيع أن تفعل لهم شيئا، وأوشك الوهن أن يدب فى قلبها لما تراه وتسمعه، حتى أنطق الله عز وجل آخر أولادها وهو طفل رضيع وقال لها: يا أماه، اصبرى إنك على الحق، فاقتحمت المرأة مع أولادها النار، وهى تدعو الله أن يتقبل منها إسلامها، فضربت بذلك مثالا طيبا للمرأة المسلمة التى تعرف الله حق معرفته وتتمسك بدينها، وتصبر فى سبيله، وتمتحن بالإرهاب، فلا تخاف، وتبتلى بالعذاب فلا تهن أو تلين، وماتت ماشطة ابنة فرعون وأبناؤها شهداء فى سبيل الله، بعدما ضربوا أروع مثال فى التضحية والصبر والفداء.

الزهراء سمير ياسين