فى رحاب الصحابيات 4

 

نعود اليوم لنكمل حديثنا عن السيرة العطرة التى بدءناها مع صحابيات النبى باستعراض مبسط عن تربيتهن لأولادهن ورعايتهم لأخواتهن المسلمات ومن خلال جهادهن فى الحرب والسلم.

فقد حرصت الصحابيات على تربية أبنائهن على حب الإسلام والدفاع عنه والاتصاف بالشجاعة فى مواجهة الخصوم، ومن هؤلاء الصحابيات خنساء بنت عمرو بن الحارث، المشهورة بالخنساء، والتى ذكرنا لها سابقا ما شهدت حرب القادسية بقيادة سعد بن أبى وقاص ومعها أبناؤها الأربعة الذين بقوا لها من الدنيا، بعد أن امتد بها العمر، وطال بها السن. ويحفظ التاريخ ما قالته الخنساء لأبنائها قبل المعركة والذين ربتهم على العزة والكرامة، فقالت لهم: "يا بنى أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذى لا إله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها فيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة". وانطلق الأبناء الأربعة على هدى هذه الكلمات النيرات التي سمعوها من أمهم، وأبلوا في المعركة بلاء حسنا، حتى استشهدوا واحدا وراء الآَخر. وحين علمت السيدة الجليلة باستشهاد أبنائها الأربعة لم تجزع ولم تلن، وإنما قالت كلمات لا تزال تتردد فى مسامع الدنيا إلى يومنا هذا، وهى: "الحمد لله الذى شرفنى بقتلهم، وأرجو من ربى أن يجمعنى بهم فى مستقر رحمته". من كتاب الإصابة فى تمييز الصحابة.

والموقف الثانى المشهور والأشرنا له سابقا هو للسيدة أسماء بنت أبى بكر مع ولدها عبد الله بن الزبير حين حاقت به المكاره، وحوصر بواسطة الحجاج بن يوسف داخل مكة، وتفرق عنه أكثر من كان معه - وقد كان بويع قبل ذلك بالخلافة وظل ينادى بأمير المؤمنين فترة من الزمن فى كثير من البلدان الإسلامية - وحين رأى عبد الله بن الزبير هذا الذى حدث دخل على أمه وقال لها. "يا أماه خذلنى الناس حتى ولدى وأهلى، فلم يبق معى إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطوننى ما أردت من الدنيا، فما ترين"؟ فقالت له الأم الصبورة ذات القلب الكبير: "أنت - والله - يا بنى أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك غلمان بنى أمية يلعبون بها، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك، وإن قلت: كنت على حق، فلما وهن أصحابى ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك فى الدنيا؟ القتل أحسن". وجعلت تذكره بأبيه الزبير، وجده أبى بكر الصديق، وجدته صفية بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله ، وترجيه القدوم عليهم إذا هو قتل شهيداً، فوافقت هذه الكلمات ما كان فى نفس ولدها، فقام وقبل رأسها، واستودعها الله سبحانه وتعالى، وقال لها - ليزداد يقينه من صبرها وثباتها -: أخاف أن يمثلوا بجثتى بعد موتى؟ فنطق لسانها بكلمة صارت مثلاً يضرب فى مواطن الشجاعة والثبات، وقالت: "يا بنى، إن الشاة لا يضرها سلخها بعد ذبحها".

وانظرى كيف كانت رعاية الصحابيات للعدل بين أولادهن حتى تكون الألفة والمحبة سائدة بينهم، فأخرج أبو نعيم عن الشعبى قال: تزوج سيدنا على أسماء بنت عميس بعد أبى بكر فتفاخر ابناها محمد بن أبى بكر وعبد الله بن جعفر، فقال كل واحد منهما: أنا خير منك، وأبى خير من أبيك. فقال على لأسماء: اقضى يبنهما. فقالت لابن جعفر: أما أنت يا بنى فما رأيت شابا من العرب كان خيرا من أبيك، وأما أنت يا بنى - تعنى محمد بن أبى بكر - فما رأيت كهلا من العرب خيرا من أبيك. فقال لها الإمام على: ما تركت لنا شيئا، ولو قلت غير هذا لمقتك. من كتاب حلية الأولياء. وهنا تعطينا تلك الصحابية الجليلة نموذجا فى الحكمة عند التعامل مع الأولاد، بحيث لا يشعر أحدهم بتفضيل والديه لغيره عليه.

وعن الربيع بنت معوذ قالت فى شأن صيامهم يوم عاشوراء: "كنا نصوم، ونصوم صبياننا الصغار، ونجعل لهم اللعبة من العهن - أى الصوف - فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار". البخارى ومسلم. وبالتأمل فى هذا الخبر يتضح لنا أن تعهد النساء المسلمات من هذا الجيل لأولادهن حتى يشبوا على الطاعة كان أمرا شائعا بينهن، وذلك فى الطاعات والعبادات الشديدة مما يدل على قيامهن بذلك فيما عداها وحرصهن على تنشئة أبنائهن على الطاعة والعبادة.

ولم يكن الصيام فقط هو مجال تعويد الأطفال على فعل الخيرات، فقد دلت السنة على أن امرأة رفعت للنبى صبيا لها، فقالت: ألهذا حج؟ قال: (نعم، ولك أجر). رواه مسلم. فهذه امرأة تبغى مشاركة صبيها لها فى الخير بأداء الحج، وقد زادها الرسول بقوله: (ولك أجر)؟ ليدفع بذلك كل أم أن تقوم بدورها فى دلالة أبنائها على وجوه الخيرات جميعها.

ولم تقتصر رعاية الصحابيات على أزواجهن وأبنائهن بل امتدت إلى أخواتهن أجمعين، ونشير فى هذا الصدد إلى أخرج أبو نعيم عن ابن عباس قال: لما زوج رسول الله فاطمة عليا دخل، فلما رآه النساء وثبن وبينهن وبين رسول الله سترة، فتخلفت أسماء بنت عميس ، فقال لها رسول الله : (كما أنت على رسلك، من أنت)؟ قالت: التى أحرس ابنتك، فإن الفتاة ليلة يبنى بها، لابد لها من امرأة تكون قريبة منها، إن عرضت لها حاجة أو أرادت شيئا أفضت بذلك إليها. فسُر النبى من ذلك، ودعا لها بأن يحرسها الله عز وجل فقال: (فإنى أسأل إلهى أن يحرسك من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك من الشيطان الرجيم). فكانت هذه هى مساعدة المرأة الصحابية لأختها ليلة عرسها حتى لا تستوحش. من كتاب حلية الأولياء. وما أكثر ما كان ذلك بين الأخوات المسلمات.

ونأتى إلى محافظة هؤلاء الصحابيات على دينهن، والتضحية فى سبيل ذلك بكل شيئ، وعلى الرغم من أن الرسول قد أخبرهم عن بدائل الجهاد حيث تقول أم المؤمنين عائشة : قلت للنبى . ألا نغزو نجاهد معكم؟ فقالت: قال رسول الله : (لكِن أحسن الجهاد وأجمله: الحج، حج مبرور). قالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله . الإمام أحمد والبخارى.

فمن الجهاد فى سبيل العقيدة الذى يروى فيه عثمان بن القاسم قال: خرجت أم أيمن مهاجرة إلى رسول الله من مكة إلى المدينة وهى ماشية ليس معها زاد، وهي صائمة فى يوم شديد الحر، فأصابها عطش شديد حتى كادت تموت من شدة العطش. قال: وهى بالروحاء أو قريبا منها. قالت: فلما غابت الشمس إذا أنا بحفيف شيئ فوق رأسى، فرفعت رأسى فإذا أنا بدلو من السماء مدلى برشاء - حبل - أبيض. قالت: فدنا منى حتى إذا كان بحيث أستمكن منه تناولته، فشربت منه حتى رويت. قالت: فلقد كنت بعد ذلك فى اليوم الحار أطوف فى الشمس كى أعطش فما عطشت بعدها. من كتاب صفة الصفوة.

ومن أروع الأمثلة على ذلك أيضا السيدة سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر ، هذه المرأة التى تحملت العذاب مع عائلتها من مشركى مكة فى صدر الدعوة، ثم كان مسك الختام فى حياتها أن قتلت بيد عدو الله أبى جهل، لتتبوأ الصدارة فى شهداء هذه الأمة، فهى أول شهيدة فى الإسلام على الإطلاق.

ثم هذا موقف السيدة نسيبة بنت كعب أم عمارة ، وندعها تحكى ما حدث منها يوم أحد، فهى تقول: "رأيتنى وقد انكشف الناس عن رسول الله ، فما بقى إلا فى نفر ما يتمون عشرة، وأنا وابناى وزوجى بين يديه، نذب عنه والناس يمرون به منهزمين، ورآنى لا ترس معى، فرأى رجلا موليا معه ترس، فقال لصاحب الترس: ألق ترسك إلى من يقاتل، فألقى ترسه فأخذته، فجعلت أترس به عن رسول الله ، فيقبل رجل على فرس فيضربنى، وترست له، فلم يصنع سيفه شيئا وولى، فأضرب عرقوب فرسه، فوقع على ظهره، فجعل النبى يصيح: يا بن أم عمارة: أمك أمك، فقالت: فعاوننى عليه حتى أوردته شعوب - أى المنية. سيرة أعلام النبلاء والطبقات الكبرى. فانظرى إلى شجاعتها وقتالها.

ومن الأمثلة أيضا ما قامت به السيدة صفية بنت عبد المطلب عمة النبى حين أراد أحد اليهود الذين نقضوا العهد مع رسول الله فى غزوة الخندق، أراد أن يصعد الحصن الذي به نساء المسلمين وذراريهم - مستغلا انشغال المسلمين بمواجهة المشركين عند الخندق - فإذا بالسيدة صفية بنت عبد المطب تتصدى لهذا اليهودى بعمود من أعمدة الحصن، وتضربه به ضربة يخر من هولها ميتا، فأثارت الرعب فى نفوس اليهود الذين جاءوا من خلفه، وارتدوا على أعقابهم مذعورين. صلاح الأمة على علو الهمة. فأى شجاعة وقوة هذه التى ردت المقاتلين اليهود على أعقابهم.

ثم هذه أسماء بنت يزيد بن السكن، والتى شاركت المسلمين فى معركة اليرموك، وقتلت بعمود خيمتها - الذى لم تجد أمامها سواه - تسعة من الروم. الهيثمى فى مجمع الزوائد. فهذه قوة إيمان أيضا مع الشجاعة والثبات فى القتال.

ومن المجاهدات في سبيل الله أم حرام بنت ملحان خالة أنس بن مالك ، وقد خرجت مع زوجها عبادة بن الصامت فى غزو المسلمين لقبرص، وهناك ماتت ودفنت، وقبرها معروف فى جزيرة قبرص يقولون هذا قبر المرأة الصالحة .

وكانت هناك أيضا خدمة المقاتلين ومواساة الجرحى فى الحرب فعن أنس بن مالك قال: "لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبى بكر وأم سليم، وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما، وقال غيره: تنقلان القرب عن متونها، ثم تفرغانه فى أفواه القوم ثم ترجعان فتملأنها، ثم تجيئان فتفرغانها فى أفواه القوم". البخارى. وعن أم عطية قالت: "غزوت مع رسول الله سبع غزوات، أخلفهم فى رجالهم فأصنع لهم الطعام، وأداوى الجرحى، وأقوم على المرضى.

سامية السعيد