نشرنا فى صفحات القواطع عن موضوع القواطع عن المهيمن من كتاب المرشد الوجيز، وها نحن فى هذا الباب نستكمل الموضوع بجوانب أخرى تكمله حتى تعم الفائدة:

 

 

الدنيا

الحمد لله الذى عرف أوليائه غوافل الدنيا وآفاتها، وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها حتى نظروا شواهدها وآياتها، ووزنوا بحسناتها سيئاتها فعلموا أنه يزيد منكرها على معروفها، فهى كصورة لامرأة مليحة تستميل الناس بجمالها، وهى فى فرار عن طلابها، شحيحة بإقبالها، وإذا أقبلت لم يؤمن شرها، فكل مغرور بها إلى الذل مصيره وكل متكبر بها إلى التحسر مسيره، من خدمها فاتته، ومن أعرض عنها واتته، فالدنيا عدوة لله، وعدوة لأولياء الله، وعدوة لأعداء الله، وتتضح عداوتها لله أنها قطعت الطريق على عباد الله ولذلك لم ينظروا إليها منذ خلقت وعن رسول الله أنه قال (إن الله لم يخلق خلقاً هو أبغض إليه من الدنيا، وما نظر إليها منذ خلقها بغضاً لها)، وأما عداوتها لأولياء الله فإنها ترينت لهم وعمتهم بزهرتها ونضارتها حتى تجرعوا مرارة الصبر فى مقاطعتها عاملين بما جاء عن رسول الله أنه قال (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان فيها لله ) وقال أيضاً (من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى).

وروى عن زيد بن أرقم : كنا مع أبى بكر الصديق فدعا بشراب فأتى بماء وعسل، فلما أدناه من فيه، بكى حتى أبكى أصحابه، وسكتوا وماسكت، ثم عاد وبكى حتى ظنوا أنهم لا يقدرون على مسألته، قال ثم مسح عينيه، فقالوا: يا خليفة رسول الله ما أبكاك؟ قال كنت مع رسول الله فرأيته يدفع عن نفسه شيئاً ولم أر معه أحداً، فقلت: يا رسول الله ما الذى تدفع عن نفسك؟ قال (هذه الدنيا مثلت لى فقلت: لها إليك عنى، ثم رجعت، فقالت: إنك إن أفلت منى، لم يفلت منى من بعدك).

وأما عداوتها لأعداء الله فإنها استدرجتهم بمكرها وكيدها، فوقعوا فى شباكها، فوثقوا بها واعتمدوا عليها فخذلتهم فاجتنوا منها حسرات، فهم على فراقها يتحسرون ومن مكايدها يستغيثون ولا يغاثون.

وروى عن رسول الله أنه وقف على مزبلة فقال (هلموا إلى الدنيا، وأخذ خرقاً قد بليت على تلك المزبلة وعظاماً قد نخرت فقال: هذه الدنيا).

وقال (إن الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وعليها يعادى من لا علم له، وعليها يحسد من لا فقه له، ولها يسعى من لا يقين له). وقال أيضاً صلوات الله وتسليمه عليه وآله أجمعين (من أصبح والدنيا أكبر همه فليس من الله فى شيئ، وألزم الله قلبه أربع خصال: هماً لا ينقطع عنه أبداً، وشغلاً لا يتفرغ منه أبداً، وفقراً لا يبلغ غناه أبداً، وأملاً لا يبلغ منتهاه أبداً).

وروى عن رابعة العدوية  أنها زارها أصحابها يوماً فذكروا الدنيا فأقبلوا على ذمها فقالت: اسكتوا عن ذكرها فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها، ألا من أحب شيئا أكثر من ذكره.

وقال رجل لعلى : يا أمير المؤمنين صف لنا الدنيا قال: وما أصف لك مِن دار مَن صح فيها سقم، ومن أمن فيها ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها افتتن، فى حلالها الحساب، وفى حرامها العقاب، ومتشابهها العتاب.

وعن الحسن قال: خرج رسول الله ذات يوم على أصحابه فقال (هل منكم من يريد أن يذهب الله عنه العمى، ويجعله بصيراً، ألا إنه من رغب فى الدنيا وطال أمله فيها أعمى الله قلبه على قدر ذلك، ومن زهد فى الدنيا وقصر فيها أمله أعطاه الله علماً بغير تعلم، وهدى بغير هداية، ألا إنه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتجبر، ولا الغنى إلا بالفخر والبخل، ولا المحبة إلا باتباع الهوى، ألا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على البغضاء وهو يقدر على المحبة، وصبر على الذل وهو يقدر على العز لا يريد بذلك إلا وجه الله تعالى أعطاه الله ثواب خمسين صديقاً).

أحمد نور الدين عباس

 

 

فى أيدينا أم فى قلوبنا

 

وبعد أن عرفنا خطر الدنيا، فهل نقبل عليها أم نتركها بالكلية حتى نصير عالة على غيرنا؟ وهل نزهد فيما لا نملك أم نملك ما نزهذ فيه؟ ثم ما هو حد الزهد؟ وما هو حد السعى فى طلب الدنيا؟ وهل نتكالب عليها أم نتركها؟ وهل نأكل من كسب أيدينا أم نتسول الناس؟ وهل الدنيا مذمومة فى ذاتها؟ أم أنها مذمومة فى حبها والانشغال بها؟

كان هذا هو أحد محاور خطاب الشيخ محمد إبراهيم للحولية لهذا العام، واترككم تقرأون مقتطفات منه وتحصلون على إجابات هذه الأسئلة، ثم تبعثون لى بتعليقاتكم. يقول الشيخ محمد إبراهيم:

يقول الحق تبارك وتعالى فى محكم تنزيله ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ الأعراف 32. وقد بدأت الآية الكريمة من الكتاب العزيز باستفهام إستنكارى، يقول الحق: من ذا الذى ينكر أو يحرم ﴿زِينَةَ اللَّهِ﴾ وهى كل ما يُتجمل به من الثياب وغيرها ﴿الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾ من النبات كالقطن والكتان، أو من الحيوان كالصوف والوبر والحرير، ﴿وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ أى المستلذات من المأكل والمشرب والمنكح. وبهذه الآية رد الإمام مالك بن أنس على من قال له: إتق الله يا مالك فإنك تلبس الرقيق وتأكل الرقاق، فرد عليه: ﴿قُلْ هِى لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ويشاركهم فيها الكفار، ويوم القيامة تكون خالصة للمؤمنين دون غيرهم.

وقد اهتم الناس بالأحاديث والآيات وأقوال العلماء فى ذم الدنيا، وتركوا كل شيئ مدحها، حتى آوى الناس إلى الكسل وترك العمل، ولكنا نستعرض النصوص التى تحدثت عن الوجه الجميل للدنيا، والحث على العمل فيما يرضى الله ورسوله وهو قوله (الدنيا حلوة خضرة، فمن أخذها بحقها بورك له فيها) رواه أبو يعلى الموصلى.

فهل حق الدنيا هو القعود عن العمل فيها بدعوى التفرغ للذكر، ومن أين تكتسب قوتك الذى بدونه تنشغل عن الذكر؟! هل تسأل الناس ليعطوك بدعوى أنك من الذاكرين، فقد كان النبى جالساً مع أصحابه فنظروا إلى شاب ذو جلد وقوة وقد بَكر يسعى، فقالوا ويح هذا لو كان شبابه وجلده فى سبيل الله، فقال (لا تقولوا هذا فإنه إن كان يسعى على نفسه ليكفها عن المسألة ويغنيها عن الناس فهو فى سبيل الله، وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعاف ليكفيهم ويغنيهم فهو فى سبيل الله، وإن كان يسعى تفاخراً أو تكاثراً فهو فى سبيل الشيطان) الطبرانى من حديث كعب بن عجرة.

وعن أبى هريرة قال (سُبَّت العَجم بين يدى النبى فنهى عن ذلك وقال لا تَسُبُّوها فإنها عمرت بلاد الله فعاش فيها عباد الله) رواه الديلمى.

وها نحن مع باب مدينة العلم ودار الحكمة الإمام على ليصف لنا الدنيا فيقول (الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غِنَى لمن تَزَوّد منها، الدنيا مسجد أحِبّاء الله، ومُصلى ملائكة الله، ومَهبط وحيه، ومَتْجَر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة، وارِبحوا فيها الجنة، ومن ذا يذمها وقد آذنت ببينها، ونادت بفراقها، ونعَتْ نفسها وأهلها، ومثلت لهم ببلائها البلاء، وشوقت بسرورها إلى السرور، وراحت بفجيعة، وابتكرت بعافية؛ تحذيراً وترغيباً وتخويفاً، فَذَمّها رجال غبَّ الندامة، وحمدها آخرون غب المكافأة، ذكرتهم فذكروا تصاريفها، وصدقتهم فصدقوا حديثها، فيا أيها الذامُ للدنيا المغتر بغرورها، متى استدامت لك الدنيا؟ بل متى غرّتك من نفسها؛ أبمضاجع آبائك من البلى؟ أم بمصارع أمهاتك من الثرى؟ كم قد عللت بكفك ومَرضْتَ بيدك من تبغى له الشفاء وتستوصف له الدواء من الأطباء! لم تنفعه بشفائك، وقد مثلت ذلك به الدنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك: غداً لا ينفعك بكاؤك، ولا يغنى عنك أحِبِّاؤك) مروج الذهب وشرح نهج البلاغة.

ويقول أحد الصحابة من حكماء العرب، والذى تعلم منه كثير من الصحابة والتابعين الحكمة، وهو قيس بن عاصم، إِذْ كان مما قال لَمَّا حضرته الوفاة (... وَعَلَيْكُمْ بِاصْطِنَاعِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ مَنْبَهَةٌ لِلْكَرِيمِ، وَيُسْتَغْنَى بِهِ عَنِ اللَّئِيمِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّهَا آخِرُ كَسْبِ الرَّجُلِ، وَلا تُنَوّحُوا عَلَىّ، فَإِنَّ رَسُول الله لَمْ يُنَحْ عَلَيه) الخيرة المهرة ورواه مُسَدَّد ورجاله ثقات.

ومما تقدم فإن الفهم يقتضى أن الدنيا مذمومة وممدوحة تبعاً لحال الإنسان فيها، لا لذاتها وكنهها، وحال الإنسان فيها مَنوطٌ بحال قلبه الذى تَتْبعُهُ الجوارح، فقوله عز وجل ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ الحج 46.

وكما قال الإمام فخر الدين «حالة القلب إما هَم أو هِمّة، فإذا كان القلب مغلفاً بالهم، كانت جوارحه مشغولة بالتكاثر مالاً وولداً، للإفتخار والإستكبار وشُغِلَ بالسفاهة عن ذكر الله عز وجل، فعميت عيون قلبه، وإذا كان القلب مغلفاً بالهمة، يمتلئ القلب بحب النبى وأهل بيته وأصحابه وأولياء الله الصالحين، وشُغِلَتْ جوارحه بالذكر والصلاة على الحبيب، وأُعْطَى الفراسة لعيون قلبه».

أكرم الله شيخنا على هذا الكلام الجميل، فالهم كما أوضح لنا هو حب المال والدنيا، والهمة هى حب النبى وأهل بيته وأصحابه، وإذن فالفيصل هو القلب وبأى حب هو مشغول، فلا يصلح لنا ترك الدنيا بدون أن يكون لنا منها ما يكفينها سؤال اللئيم، ويعيننا على العبادة، فقد كانت أم المؤمنين زينب بنت جحش صناع ماهرة تصنع الجلد وتبيعه وهى لا تحتاج للمال ولكن لتتصدق بثمنه، فلا يعد عملها انشغالا عن الله بل هو إنشغال به.

سامر الليل