كتب السلف

لما كنا نحتاج باستمرار إلى كتب السابقين الغير محرفة، ولما كثر التحريف بفعل قلة غير مسئولة تقوم بإصدار الكتب المحرفة وطرحها فى الأسواق أو عرضها فى الشبكة العالمية للمعلومات، وسواء كان ذلك يتم بحسن نية أو بغيرها، فقد ظهرت الحاجة إلى البحث عن المصادر الصحيحة فى هذه الشبكة لكتب الصالحين وعلوم السابقين، ونحن نرشح لكم المواقع الصديقة التى تتحرى الدقة فيما تعرضه من كتب حتى تجدوا ما تحتاجونه من كتب وعلوم السابقين التى حاول البعض أن يدثروها ويغطوا عليها، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المغرضون، وسنقوم باستعراض بعض الكتب التى أستشهد بها الإمام فخر الدين فى مؤلفاته ودروسه من هذه المواقع، وللمزيد عن تلك المواقع زوروا صفحة المكتبة من الموقع الرئيسى.

 

كتاب من المكتبة:

مُسند الإمام أحمد

 

مسند أحمد كتاب مسند في الحديث النبوى، من أشهر كتب الحديث وأوسعها، وفيه الكثير من الأحاديث الصحيحة التى لا توجد فى الصحيحين، ومؤلفه هو الإمام أحمد بن حنبل إمام المذهب الحنبلى. وضع الإمام أحمد هذا الكتاب ليكون مرجعاً للمسلمين وإماماً وجعله مرتباً على أسماء الصحابة الذين يروون الأحاديث كما هي طريقة المسانيد، فجاء كتاباً حافلاً كبير الحجم، يبلغ عدد أحاديثه أربعين ألفاً تقريباً، تكرر منها عشرة آلاف حديث ومن أحاديثه ثلاثمائة حديث ثلاثية الإسناد (أى بين راويها وبين النبى ثلاثة رواة). وقد جمعه الإمام أحمد من أصل 750 ألف حديث جمعها من خلال ترحاله وبحثه، وقد رتب كتابه على المسانيد فجعل مرويات كل صحابى فى موضع واحد، وعدد الصحابة الذين لهم مسانيد في مسند الإمام أحمد (904) صحابى. أما مُسند الإمام أحمد فقد بدأ بجمعه منذ أن كان عمره ستة عشر سنة، فسجل الأحاديث بأسانيدها، فى أوراق منثورة وظل على هذه الحال إلى أن قارب الوفاة. ولما شعر بدنو أجله بدأ يجمعها ويحذف منها ... وأملى هذه الأحاديث كلها على أولاده وأهل بيته وأنبأهم بالعمل الذى قام به ولعله أوصى ابنه عبد الله أن ينهض بجمع هذه الأحاديث وتنسيقها من بعده فجمعها عبد الله بطريق السند وهذا الأسلوب يعتبر صعباً جداً وهو أن يرتب الأحاديث حسب درجة رواتها من الصحابة فيبدأ بالأحاديث المروية عن أبى بكر ثم عن عمر ثم هكذا. وكانت طريقة الإمام أحمد فى انتقاء الأحاديث أنها إن كانت تتعلق بأحكام أو عقيدة كان لا بد من اشتراط الصحة فيها، أما إن كانت تتعلق بفضائل الأعمال ولها ما يؤيدها من الكتاب أو السنة الصحيحة فلا بأس أن تكون ضعيفة. وإن كان الحديث يعارضه نص آخر أقوى منه لا يمكن الجمع بينهما، حذف الأضعف.

مثلاً نجد اسم عبد الله بن لهيعة فى المسند مع أنَّ الحفاظ ضعفوه لا لأنه اتُّهِمَ بالكذب ولكن الرجل كان عنده كتب ومخطوطات كثيرة كان يروى عنها ثم تلفت، فلما تلفت أخذ يرويها من الذاكرة وكثيراً ما كان يخطىء فاعتبر رواة الحديث كل روايته ضعيفة من شدة تحوطهم فى هذا الأمر، ولكن الإمام أحمد سمع منه عندما كانت لديه مخطوطاته. ولقد طاف أحمد بن حنبل الدنيا مرتين حتى جمع مسنده. وقد راجع المسند وأقر بصحته ثلاثة أجيال من الحفاظ: الحافظ العراقى ثم الحافظ ابن حجر العسقلانى -الذى ألف فيه كتابه "القول المسدد فى الذب عن المسند"- ثم الحافظ الهيثمى. وقال عنه السيوطى «وكل ما كان فى مسند أحمد فهو مقبول، فإن الضعيف فيه يقرب من الحسن» – الجامع الكبير، وجزم ابن تيمية وابن القيم أنه ليس فى المسند حديث موضوع.

أسرة التحرير

 

ملحوظة: لتحميل كتاب من موقع التراث؛ يتم تنزيل جميع الملفات المضغوطة (rar files) الخاصة بالكتاب ثم توضع معا فى نفس الفولدر ولا يتم تغيير أسمائها أبدا ثم بفتح أى ملف منها وعندها يمكن أن تجد الكتاب والذى يكون أما ملف واحد أو عدة ملفات من طراز (pdf) فيتم نقلها إلى خارج الملف المضغوط فى فولدر واحد أيضا ولا يتم تغيير أسمائها أبدا ثم تفتح باستعمال برنامج قراءة الأكروبات

 

 

 

أماجد العلماء

الحمد لله الذى اختص العلماء بوراثه الانبياء والتخلق باخلاقهم وجعلهم القدوه للكافه، فقد ضل كثير من الناس وابتعدوا عن هدى الحبيب عندما تركوا الاخذ عن اكابر علماء هذه الامه وادمنوا الاخذ من الاصاغر ففارقوا ما كان عليه سلفهم الصالح وما استقرت عليه أمة المسلمين عقودا وقرونا.

قال : (لازال الناس بخير ما اخذوا العلم عن اكابرهم، فاذا اخذوا العلم عن اصاغرهم هلكوا)، وقال : (ان هذا الدين علم، فانظروا عمن تاخذون)، وقال : (اذا قبض العلماء اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فافتوا بغير علم فضلوا واضلوا، ولا حول ولا قوه الا بالله).

ويقول السيد فخر الدين الشيخ محمد عثمان عبد البرهانى :

ولإن سُئلتم ما الكتاب فانه     مما رواه أماجد الأعلام

 والمجمع عليه عند الساده العلماء ان الواحد منهم لا ينتقص كلام سيدنا رسول الله  ولا يحكم بوضعه ولا يضعفه ولايقدح فيه الا اذا كان فى يده سند من آيات كتاب الله او سنه نبيه عليه افضل الصلاه وازكى السلام, ومنذ بدايه القرن الاول الهجرى والثانى والثالث والرابع وحتى يومنا هذا تولى ساداتنا من اماجد العلماء رضوان الله عليهم الحفاظ على تراث ديننا الحنيف كما احب واراد فكانت الاحاديث الصحيحة والتفاسير الصادقه واحداث التاريخ من بدايه الرساله المحمديه مع تسلسلها التاريخى إلى يومنا هذا محفوظه ومسنده بكل امانه وصدق، ومن هؤلاء الساده العلماء الاجلاء ومع سيرته الطيبه كان

الامام أحمد بن حنبل

الإمام أحمد بن حنبل رجل النصف الأول من القرن الثالث، فليس من أحد فى عصره بلغ من الشهرة والثقة والاعتقاد ما بلغه، ذلك أنه كان رحمه الله إماماً فى الورع، إماماً فى الزهد، إماماً فى الفقه، إماماً فى مذهبه الفقهى الحنبلى فهو أحد الأئمة الأربعة فى الفقه، إمام أئمة الحديث فى عصره وإماماً فى الثبات والصبر.

ولد الإمام أحمد بالاتفاق فى عام 164ه فى بغداد و توفى عام 241ه فكان عمره عندما مات الشافعى أربعين عاماً، وكان الشافعى يكبره بأربعة عشر عام. وهو عربى الأصل من قبيلة شيبان ويلتقى نسبه مع رسول الله عند نزار بن معد. توفى والده وهو صغير وتولت أمه تربيته وكانت رعاية والدته له أشبه ما تكون برعاية والدة الشافعى. وكانت والدته فقيرة وكانت شابة حسناء جميلة فتقدم لخطبتها والزواج منها عدد كبير من الراغبين لكنها رفضت وامتنعت وفضلت أن تعيش لولدها ونذرت نفسها له، وعاى الطرف الآخر كان الإمام أحمد بِراً بأمه، ولم يتزوج حتى ماتت لكى لا يدخل على الدار سيدة أخرى تنازع أمه السيادة وكان قد بلغ الثلاثين.
و
كسائر أترابه تعلم القرآن فى صغره وتلاه تلاوة جيدة وحفظه عن ظهر قلب. وعندما تجاوز الخامسة عشرة من عمره، بدأ يطلب العلم، وأول من طلب العلم عليه هو الإمام أبو يوسف القاضى. والإمام أبو يوسف كما هو معلوم من أئمة الرأى مع كونه محدِّثاً ولكن فى البداية وبعد مرور فترة لأحمد مع أبى يوسف وجد الإمام أحمد أنه يرتاح لطلب الحديث أكثر. فتحول إلى مجالس الحديث وأعجبه هذا النهج واتفق مع صلاحه وورعه وتقواه وأخذ يجول ويرحل فى سبيل الحديث حتى ذهب إلى الشامات والسواحل والمغرب والجزائر ومكة والمدينة والحجاز واليمن والعراق وفارس وخرسان والجبال والأطراف والثغور وهذا فقط فى مرحلته الأولى من حياته. ولقد التقى الشافعى فى أول رحلة من رحلاته الحجازية فى الحرم، و أُعجِبَ به وكنا قد ذكرنا أن الإمام أحمد بقى أربعين سنة ما بات ليلة إلا ويدعو فيها للشافعى. و كان يقول عندما يروى حديث رسول الله
: (إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها). وكان يقول: لقد أرسل الله تعالى سيدنا عمر بن عبد العزيز يجدد لهذه الأمة دينها على رأس المئة الثانية وآمل أن يكون الشافعى على رأس المئة الثالثة. وقد حيل بين أحمد ومالك بن أنس فلم يوفَّق للقائه وكان يقول: لقد حُرِمتُ لقاء مالك فعوَّضنى الله عز وجل عنه سفيان بن عيينة. لاحظوا مدى تعظيم الأئمة لبعضهم البعض، بينما الجماعات فى عصرنا لا همَّ لهم إلا تسفيه العلماء ومنهم من يتعصب لمذهبه فيسفه باقى الأئمة حتى يرفع من شأن إمامه، والشافعى كان يكثر من زيارة الإمام أحمد، فلما سئل عن ذلك أنشد قائلاً:

قالوا يزورك أحمد وتــــزوره         قلتُ الفضائل لا تبارح منزلـه

إن زارنى فبفضله أو زرته     فلفضـله فالفضل فـى الحالـيـن لــه

وإرتحل يوماً الإمام أحمد من العراق هو ويحيى بن معين قاصداً المحدث الكبير عبد الرزاق فى اليمن لطلب الحديث منه. فلما وصلا مكة وأخذا يطوفان حول البيت، فإذا بهما يريان الإمام عبد الرزاق فقال يحيى بن معين لأحمد تعال نسأله أن يحدثنا بدلاً من أن نلحق به إلى اليمن فقال الإمام أحمد: "خرجتُ من بغداد وأنا قاصد أن أرحل إلى دار عبد الرزاق بن الهمام اليمنى صاحب المصنف فى اليمن من أجل مزيد من المثوبة والأجر فلن أفسد هذه النية". حاول عبد الرزاق أن يصل أحمد ببعض المال وهو فى ديار الغربة فرفض وصمم أن يكسب عيشه وعمل نساخاً.

وكان أشد ما أتعب الإمام أحمد وأرهقه من العلماء هو عبد الله بن المبارك الذى ظل أحمد يسعى وراءه هنا وهناك ليلقاه ولكن من غير جدوى. وكان ابن المبارك فقيهاً محدِّثاً واسع العلم وواسع الغنى وكان من أزهد الناس. وتعلَّم أحمد من ابن المبارك حقيقة الزهد وكان يُطعِم الفالوذج ويأكل الخبز وإذا اشتهى طعاماً طيباً لم يأكله إلا مع ضيف ويقول: بلغنا أنَّ طعام الضيف لا حساب عليه. وقيل له قلَّ مالُك فقلِّل من صلة الناس فقال: إن كان المال قلّ فإنَّ العمر قد نفد. وأصبح يعتبره أحمد أستاذه فى الحديث والسلوك. وحاول أن يصله مثل عبد الرزاق ولكن أبى أحمد وقال: أنا ألزمك لفقهك وعلمك لا لمالك.

وتلقى الحديث عن هُشيم بن بشير واستفاد منه أكثر ما استفاد من غيره وتعلم منه الهمة العالية فى الحديث. وتلقى الفقه وأصوله عن الشافعى.

وحج الإمام أحمد خمس مرات إلى بيت الله، حج منها ثلاث مرات ماشياً راجلاً وذلك لأنه كان قليل المال ولكن ما منعه ذلك عن الحج.

من عظيم ما عُرِفَ به الإمام أحمد هو تعففه وله فى ذلك قصص رائعة، فقد كان يسترزق بأدنى عمل وكان يرفض أن يأخذ من صديق ولا شيخ ولا حاكم قرضاً أو هبة أو إرثاً لأحد يؤثره به. وقد يقبل هدية ولكنه يعجل فى إعطاء من أهداه هدية مثلها أو خيراً منها، رافعاً بذلك شأن العلم والعلماء. ولقد أجمعت الأمَّة على صلاحه وكان مضرب مَثَلٍ فى الصلاح والتقوى حتى أنَّ بعض العلماء قال: لو أنَّ أحداً قال إنَّ الإمام أحمد هو من أهل الجنة لم يحنث ولم يتألى على الله تعالى، ودليلهم على ذلك إجماع أهل العراق والشام وغيرهم على هذا الأمر والإجماع حجة. تنبيه: إجماع الأمة على هذا الأمر إنما كان بعد مماته.

وإشتُهِرَ الإمام أنه محدِّث أكثر من أن يشتهر أنه فقيه مع أنه كان إماماً فى كليهما. ومن شدة ورعه ما كان يأخذ من القياس إلا الواضح وعند الضرورة فقط وذلك لأنه كان محدِّث عصره وقد جُمِعَ له من الأحاديث ما لم يجتمع لغيره، فقد كتب مسنده من أصل سبعمائة وخمسين ألف حديث، وكان لا يكتب إلا القرآن والحديث من هنا عُرِفَ فقه الإمام أحمد بأنه الفقه بالمأثور، فكان لا يفتى فى مسألة إلا إن وجد لها من أفتى بها من قبل صحابياً كان أو تابعياً أو إماماً. وإذا وجد للصحابة قولين أو أكثر، اختار واحداً من هذه الأقوال وقد لا يترجَّح عنده قول صحابى على الآخر فيكون للإمام أحمد فى هذه المسألة قولين.

وهكذا فقد تميز فقهه أنه فى العبادات لا يخرج عن الأثر قيد شعرة، فليس من المعقول عنده أن يعبد أحد ربه بالقياس أو بالرأى وكان رسول الله يقول: (صلوا كما رأيتمونى أصلى) ويقول فى الحج: (خذوا عنى مناسككم). وكان الإمام أحمد شديد الورع فيما يتعلق بالعبادات التى يعتبرها حق لله على عباده وهذا الحق لا يجوز مطلقاً أن يتساهل أو يتهاون فيه.

أما فى المعاملات فيتميز فقهه بالسهولة والمرونة والصلاح لكل بيئة وعصر، فقد تمسَّك أحمد بنصوص الشرع التى غلب عليها التيسير لا التعسير. مثال ذلك: "الأصل فى العقود عنده الإباحة ما لم يعارضها نص"، بينما عند بعض الأئمة الأصل فى العقود الحظر ما لم يرد على إباحتها نص.

وكان شديد الورع فى الفتاوى وكان ينهى تلامذته أن يكتبوا عنه الأحاديث فإذا رأى أحداً يكتب عنه الفتاوى، نهاه وقال له: "لعلى أطلع فيما بعد على ما لم أطلع عليه من المعلوم فأغير فتواى فأين أجدك لأخبرك"؟

ولما علم الله تعالى صدق نيته وقصده قيَّض له تلامذة من بعده يكتبون فتاويه وقد كتبوا عنه أكثر من ستين ألف مسألة. ولقد أخذ بمبدأ الإستصحاب كما أخذ بالأحاديث المرسلة.

 ومع انتشار علمه فى الآفاق، لم يفتِ وقد أصرَّ الناس عليه بالفتوى فلم يفتِ إلا بعد أن بلغ الأربعين من عمره وذلك لأسباب:

1- تقليد النبى وهو فى هذا كعبد الله بن عمر .

2- كان يعتبر الفقه أو مجلس الفتيا مجلس الوراثة النبوية.

3- كيف يفتى والشافعى شيخه وإمامه لا يزال على قيد الحياة‍‍‍‍.

ومع أنه أوتى حافظة لم يؤتها أحد فى عصره إلا نادراً، كان يحمل كتبه أى كتب الحديث ويأتى بها إلى المجلس ويوصى تلامذته أن لا يحدِّثوا إلا من كتاب. وكان إذا جلس فى الدرس يسود مجلسه الوقار والسكينة كأنما على رؤوسهم الطير، وكانت هذه السكينة تظلل مجالسه كلها إلى جانب تواضعه العظيم. وأى مجلس جلس فيه الإمام أحمد سواء كان معلماً أو متعلماً ساده السكينة والوقار، كان هذا الطبع منه يهيمن على الشيوخ الذين كان يأخذ عنهم، وذلك بسبب احترامه وتقديره والشخصية العظيمة التى كان يتمتع بها. يُروى عن أستاذه يزيد بن هارون أنه مُدِحَ بمناسبة ما فتنحنح أحمد، فوضع يزيد يده على جبينه وقال: ألا أخبرتمونى أنَّ أحمداً هنا‍. وكان كثير التواضع هيِّناً طرياً ولكن كان الواحد إذا نظر إليه تذكر الله تعالى. لقد ألبسه الله عز وجل ملابس هيبته فقام مستعزاً بعزة الله تعالى. وكان بعيداً جداً عن الخوض فى الفلسفة وذلك أنَّ الفلسفة فى عصره كانت فى بدايتها، ثم طبق العلماء قاعدة: خذ الحكمة ولا تبالى من أى وعاء خرجت. وكان الإمام أحمد يعيش بعيداً عن أمور الفلسفة وشغل نفسه بالأحاديث وآثار الصحابة، حتى أنَّ من ترجم له قال: إنَّ الإمام أحمد من طبقة الصحابة معنوياً وإن جاء متأخراً إلا أنه فى طبعه وسلوكه وعقيدته وحياته العامة أشبه ما يكون بالصحابة. وقال بعض العلماء لو كان الإمام أحمد فى عصر بنى إسرائيل لاحتمل أن يكون نبياً! سُئِلَ الشافعى عمن يصلح للقضاء فأشار إلى أحمد الذى قال: "أنا أجلس فى مجلسك لكى يزيد فىَّ العلم زهداً فى الدنيا وأنت تطلبنى للقضاء"!؟ ولقد كان عاملاً بأحاديث رسول الله وهو الذى يروى: كل معروف صدقة ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق.

فطبَّق هذا الحديث على نفسه، فكان لا يلقى الناس إلا مبتسماً ويقدمهم عليه إذا مشوا فى الطريق أو دخلوا مكاناً أو اصطفوا لصلاة الجماعة. وكان إذا قرأ القرآن أو صلى ودخل عليه أحد سكت على الفور وإذا خرج من عنده عاد لصلاته وقراءته وذلك خشية الرياء. وكان مستجاب الدعوة.

ومن الجدير بالذكر أنَّ الشافعى قبل وفاته كان قد أرسل برسالة مع الربيع إلى الإمام أحمد جاء فيها: لقد رأيت النبى فى الرؤيا وقال لى: أبلغ أحمد بن حنبل عنى السلام، وقل له إنه مدعو إلى محنة وفتنة سيدعى فيها إلى القول بخلق القرآن، وسيثبت على الحق، وإنَّ الله تعالى سيرفع له علماً بذلك إلى قيام الساعة. وأعطى الإمام أحمد قميصه الذى يلى جسده للربيع على هذه البشرى. فقال له الشافعى: لن أطالبك بالقميص- رحمة به ولعلمه أن الربيع لا يؤثر على بركة قميص الإمام أحمد أحداً- ولكن بله بالماء ثم أعطنى الماء حتى أتبرَّك به.

أما محنته العظيمة فهى أنه عاش فى عصر المأمون ثم المعتصم ثم الواثق ثم المتوكل. فى هذه العصور، كانت صولة المعتزلة وجولتهم فى أعلى ذروتها لاسيما فى عصر المأمون. وكان المأمون تلميذاً لأبى هذيل العلام من رؤساء المعتزلة، فافتُتِنَ بالفلسفة اليونانية. واستغل هذه الصلة أحمد ابن أبى ذؤاد المعتزلى المتعصب وراح يكلم المأمون ويتودد إليه حتى عيَّنه وزيراً خاصاً له ومستشاراً. والإمام أحمد كما سبق وذكرنا، كان بعيداً عن الفلسفة وعن الإعتزال وفى هذه الأثناء قال المعتزلة بخلق القرآن أى أنَّ القرآن حادث مخلوق وليس كلام الله الأزلى القديم وتبنى المأمون هذا القول. وفى عام 218هـ أرسل كتاباً إلى نائبه فى بغداد وهو إسحاق ابن إبراهيم يوضح فيه هذا القول مدعوماً بالحجة العلمية المفصلة على زعمهم. والواضح أنَّ هذا لم يكن من كلام المأمون ولكن من كلام وزيره خاصة والمعتزلة عامة. وأمر المأمون إسحق أن يجمع كل العلماء ويقنعهم بأنَّ القرآن مخلوق وأمره أن يقطع رزق وجراية كل من لم يقتنع بهذا. امتثل إسحاق بادىء ذى بدء لهذا الأمر فجمع كل العلماء من أهل السنَّة وهددهم بقطع أرزاقهم ومنع الجراية عنهم إن هم لم يقتنعوا، وأرسل إلى المأمون بأجوبة هؤلاء التى تتضمن رفض هذا القول. فأرسل المأمون ثانية أمراً بقطع أرزاق من لم يقتنع وإرساله إليه مقيداً بالأغلال تحت تهديد القتل. وكان الإمام أحمد من بين الثلة التى رفضت أن تقتنع ولم تتراجع، فقُيِّدوا جميعاً بالأغلال وذُهِبَ بهم إلى طرطوس. وفى الطريق تراجع البعض خوفاً ومات البعض الآخر ولم يبق إلا الإمام أحمد الذى جاءه خادم المأمون وقال له: إنَّ المأمون أقسم على قتلك إن لم تجبه. ولكن الإمام أحمد رفض التراجع عن الحق وبينما هو فى الطريق لا يفصله عن المأمون إلا ساعات من السَّير، إذ جثى على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء ودعا بهذه الكلمات: سيدى غرَّ حِلمُكَ هذا الفاجر حتى تجرَّأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فأكفنا مؤنته. توفى المأمون قبل أن يصل الإمام أحمد إلى طرطوس فأُعيد الإمام أحمد وأودع السجن ريثما تستقر الأمور. وجاء بعد ذلك المعتصم ولكن المأمون كان قبيل موته قد أوصى أخاه أن يُقَرِّبَ ابن أبى ذؤاد المعتزلى منه. لذلك لما استقر الأمر للمعتصم استدعى الإمام أحمد وهو مثقل بالحديد وكان عنده ثلة من المعتزلة على رأسهم ابن أبى ذؤاد الذى كان يضمر كيداً شديداً للإمام أحمد، وسأله: ما تقول فى خلق القرآن؟ قال: أقول إنه كلام الله. قال: أقديم أم حادث؟ قال: ما تقول فى علم الله ؟ فسكت أبو ذؤاد. قال الإمام أحمد: القرآن من علم الله ومن قال إنَّ علم الله حادث فقد كفر! وطلب المعتصم أن يناقشوه وكاد أن يقتنع بقول أحمد ولكن قال له المعتزلة وابن أبى ذؤاد إنه لضال مبتدع. عرض المعتصم على الإمام أحمد أن يرجع عما يقول مغرياً إياه بالمال والعطايا ولكن الإمام أحمد قال له: أرنى شيئاً من كتاب الله أعتمد عليه- أى أعطنى دليلاً على ما تزعم من كتاب الله تعالى. وحذَّر المعتزلة المعتصم إن هو أطلق سراحه أن يُقال إنَّ هذا الرجل تغلب على خليفتين اثنين فسيق أحمد إلى الضرب والتعذيب. وكان يُضرَب ضرباً مبرحاً حتى يغشى عليه ثم يأتون به فى اليوم المقبل. وبرغم ذلك أقبل أحمد على الناس فى السجن يعلِّمهم ويهديهم. أمر ابن أبى ذؤاد بنقله إلى سجن خاص حيث ضاعفوا له القيود والأغلال وأقاموا عليه سجانين غلاظ شداد، وكم سالت دماؤه الزكية وكم أهين وهو رغم هذا كله يرفض أن يذعن لغير قول الحق ولو كلفه ذلك حياته. وبعد مرور عامين ونصف على هذه المعاناة وهذه المحنة، أوشكت الثورة أن تشتعل فى بغداد نقمة على الخليفة المعتصم وابن أبى ذؤاد، فقد وقف الفقهاء على باب المعتصم يصرخون: أيُضرَب سيدنا! أيضرب سيدنا! أيضرب سيدنا! فلم يجد المعتصم بداً من إطلاق سراحه وأعيد إلى بيته يعالج جراحه. ولما سُئِلَ الإمام أحمد عن المعتصم دعا له بالرحمة وأن يعفو الله تعالى عنه وقال إنه يستحى أن يأتى يوم القيامة وله حق على أحد! ثم تولى الواثق الحكم وحاول ابن أبى ذؤاد إقناعه بموضوع خلق القرآن ولكن خشى الفتنة. أما المتوكل فكان من أهل السنَّة وحاول أن يكرم الإمام أحمد وأن يصله ولكنه رفض شاكراً، ولقد ندم المعتصم على ما وقع منه وكان يرسل كل يوم من يطمئن على حاله، بينما ابتلى ابن أبى ذؤاد بالفالج الذى أقعده أربع سنوات واسترد منه المتوكل كل أمواله التى تُعَدّ بالملايين. وكان الإمام أحمد يصلى من الليل قبل ضربه 300 ركعة وبعد مرضه الشديد صار يصلى 150 ركعة.

أما موقفه من الحكم والدولة فقد كان بإمكان الإمام أحمد أن يفتى الناس بكفر الخليفة أثناء حكم المأمون أو المعتصم وكيف يفعل ذلك وهو يراقب الله تعالى فى كل لحظة، فكان يقول أنه لا يجوز الخروج على إمام المسلمين براً كان أو فاجراً ما دام مسلماً وهذا هو قول الجمهور وباقى الأئمة.

ومن أقواله: "إذا أردتَ أن يدوم لك الله كما تحب فكن كما يحب".

ولثوب الإمام أحمد بن حنبل قصة جميلة، إذ وقعت حريق فى بيت صالح بن الإمام أحمد بن حنبل وكان قد تزوج بامرأة ثرية، فلما علم بأمر الحريق راح يبكى لا على شيئ ولكن على ثوب أبيه الذى كان يتبرك به، ولما دخل إلى بيته، وجد الثوب على السرير وقد أكلت النار ما حوله وبقى سالماً.

راوية رمضان