طاعة عائشة

 أم المؤمنين

 

قد يظن البعض وهو بالتأكيد سوء فهم للحقيقة فى قصة الأفك عندما جاء رسول الله يزف بشرة البراءة لسيدتنا عائشة أم المؤمنين وأمرها أن تشكر الله وفى ذات الوقت أمرتها أمها أن تشكر رسول الله وبالتالى هما أمرين فى نفس الوقت فأجابت لأمر رسول الله ولم تجب لأمر أمها فلذلك ظن بعض من سمع الزوايات أنها كانت غاضبة من رسول الله فشكرت الله كما أمرها الرسول ولم تشكر رسول الله كما أمرتها أمها ولكن فى الحقيقة هى أجابت لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأن طاعته واجبة على طاعة الوالدين وهى التى تعلم حقيقة مايحبه الرسول وفى ذلك طاعة لله عز وجل.

وفى كتاب بهجة النفوس للامام الحافظ المحدث الورع أبى محمد عبد الله بن أبى جمرة الازدى الاندلسى يحدثنا فى حديث الأفك عن فضل السيدة عائشة أم المؤمنين ويوضح لنا حقيقة الأمر فى هذا اللبس الخطأ.

إن طاعة رسول الله مقدمة على طاعة الأبوين لأنها لما أن قال لها النبى (احمدى الله) وقالت لها أمها قومى إلى رسول الله ، تركت ما أمرتها به أمها وأكدت باليمين ألا تفعله، وامتثلت لما أمرها به النبى من حمد الله عز وجل وشكره، وإنما أمرتها أمها بذلك ابرارا لرسول الله وخدمة له، وحملت قوله (احمدى الله) على طريق البشارة لا على طريق الأمر، فأمرتها امها بالقيام إلى رسول الله ، لأن القيام إليه طاعة له ولله، وما كان طاعة له ولله فهو شكر على هذه النعمة، لكن لما أن كانت السيدة عائشة أدرى منها بحال النبى ، وتعلم ما يسر به وما يتقرب به إليه، وأيضا فقد نص لها عليه فى ذات الوقت، فأسرعت إلى ما تعلم أن النبى يحبه وهو مراده، وكان مراده أن لايحمد على النعمة إلا الله وحده، وإذن فقد امتثلت لأمره فى ذلك، ويشهد لما ذكرناه سكوت سيدنا أبى بكر الصديق لها حين قالت: لا والله لا أقوم إليه. فلو كان ذلك منها لغير الوجه الذى قدرناه لزجرها سيدنا أبو بكر الصديق عن ذلك، ولجبرها على القيام إليه ، لأن ذلك صدر منه فى أقل من هذا فى حديث التيمم؛ حين انقطع عقدها فدخل عليها يضرب فى خاصرتها ويعاتبها، ويقول حبست رسول الله والناس ليسوا على ماء، وليس معهم ماء، هذا وهى لم يقع العقد منها متعمدة، ولم تقل شيئا ولا فعلت شيئا، إلا أن النبى أقام بأختياره، إذن فلما كان كلامها هنا واختيارها موافقا لمراد سيدنا أبى بكر الصديق واختياره، سكت لها عن ذلك لموافقتها ما يريد النبى ويختار، وما يريده سيدنا أبو بكر الصديق ويختاره، وهذا مما يشهد لفضلها وعلو منزلتها على غيرها؛ إذ أنها مع صغر سنها تراعى مرضاة النبى وتفضله على مرضاة أبويها، ولأجل ذلك خصها الله تعالى بنبيه ، فلم تر غيره ولم تعرفه، لأنه لم يتزوج بكرا صغيرة السن غيرها، واما غيرها من النسوة فتزوجن بعد ما كبرن ورأين الأزواج، وهاهنا "حكمة دقيقة" نحتاج أن نبديها لكى يستدل بها على فضلها، وإن كان كل زوجات النبى فاضلات، وإنما الكلام فيما اختصت به فى حال صغر سنها دون غيرها، واللاتى لم تحصل لهن الخصوصية إلا بعد ما مضى لهن من العمر سنين، وذلك أن النبى قد أخبر أن الله عز وجل إذا أراد أن يخلق خلقا اجتمع ماء المرأة مع ماء الرجل بقدرته، وبقى يسير فى عروق المرأة أربعين يوما، ثم بعد الأربعين يجتمع ماء فى الرحم، ثم يأمر الله عز وجل ملكا، فيأخذ بين أصابعه من تراب الموضع الذى أراد أن تكون تربة هذا الخلق منه، فيأتى الملك بذلك التراب، ويعجنه بذلك الماء الذى اجتمع فى الرحم، ثم يبقى يتطور فى الرحم إلى حين خلقه، فيصور على ماجاء فيه النص من الشارع ، والاراضى مختلفة على مافيها من السهل والوعر، وفيها ما ينبت وفيها ما لا ينبت، والتى تنبت منها ما تطعم فى الحين وفيها ما يتأخر طعمها، وهذا موجود حسا لأن بعض الاراضى لايطعم شجرها إلا بعد سنين، وبعضها لا يتأخر طعمها بعد خروجها عن الارض الا يسيرا، كأرض الحجاز تجد النخلة فيها ما تكاد تخرج من الارض إلا وهى حاملة للطعم، وقد شبه عز وجل الايمان بالشجرة فى كتابه العزيز حيث قال ﴿ألم ترى كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء﴾ إبراهيم : 24، قيل إن هذه الشجرة هى النخلة وقد شبه الشارع كمال الايمان بتناهى حلاوة هذه الثمرة فقال (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل، وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار) فكنى عن كمال الايمان بإثمار هذه الشجرة وتناهى طيبها، لأن الحلاوة لاتوجد فى الثمرة إلا عند كمال ثمرها وتناهيه، فلاجل هذا المعنى تزوج النبى السيدة عائشة وهى حديثة السن، لأنها كانت حجازية التربة حسا ومعنى، فظهر ثمر شجر إيمانها وتناهى طيبه مع حداثه سنها، وقبل بلوغها حد التكليف، فناهيك به بعد البلوغ والتكليف، ولأجل هذا المعنى حين ناشدن النبى ازواجه فى إيثارها عليهن، فقال: (لم يوح إلى فى فراش إحداكن إلا فى فراشها) فكان تفضله لها لأجل ماخصت به من الصورة المعنوية لا للصورة الحسية، ولأجل هذا قال (خذوا عنها شطر دينكم) ومما يدل على فضلها وفقهها هذا الحديث الذى لم تأت لفظة منه ألا لفائدة، وما أظهر الله تعالى من رفعتها وعلو منزلتها، ولأجل هذا المعنى -والله أعلم- لم يصح اجتماع نساء النبى معه إلا بعد سنين من أعمارهن، مختلفة على قدر ما بلغ وقت كمال إيمانهن، وحينئذ صلحن له ، لأنه لا يكون للطيب إلا طيبة لقوله تعالى ﴿الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات﴾ النور : 26، ولأجل هذا المعنى قال (لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا) ولا ذلك إلا للمعنى الذى جمع بينهما لأنه لا إيمان أقوى بعد إيمان النبى من إيمان إبى بكر الصديق وقد نص على ذلك بقوله (ما فضلكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشئ وقر فى صدره) والإشارة فى هذا إلى قوة الايمان واليقين.

من قصص الأنبياء للإمام فخر الدين وبهجة النفوس لسيدى عبد الله بن أبى جمرة

سمير جمال