يحاول بعض الناس أما عمدا أو جهلا أن يخدعوا أنظار المسلمبن عما كان عليه السلف الصالح ويدعون معرفتهم ويتسببون فى حيرة الناس حتى أنهم ليتسائلون:

 

 

دعونا نهدم مقابر الأولياء !!

 

تعالت بعض الصيحات بل تبعتها بعض الأفعال التى أثارت حفيظة المؤمنين! إذ يقول قائلهم: دعونا نهدم مقابر الأولياء، دعونا نتخلص من أفعال القبوريين! وإن سألتهم: ما هذا الإفساد والتخريب؟ قالوا: إنما نحن مصلحون! نحن الذين ينفذون حديث النبى (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)! ألم تستمعوا الحديث؟!

ويالها من قولة حق أريد بها باطل، إذ يبدوا أن هؤلاء لا يفقهون حديثا، وهم على عدم فقههم يريدون أن يلزموا غيرهم بمفهومهم القاصر والمعكوس، وكدأبهم لا يلجأون إلى السلف الصالح فى تفسيرهم وفهمهم بل يبتدعون مفاهيم بغيضة خاصة بهم، ولو أنهم وقفوا عند هذا لكفونا شرهم، ولكان حسابهم عند ربهم، ولكنهم يأبون إلا أن يفسدوا فى الأرض بمفاهيمهم الضالة، والعجيب أنهم برغم نبذهم مفاهيم السلف ينسبون أنفسهم إليهم!!!

ولذلك نتناول فى هذا العدد مفهوم السلف الصالح عن حديث (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) والذى رواه أحمد، والطبرانى، والضياء عن أسامة بن زيد، والبخارى، ومسلم، والنسائى. فنقول وبالله التوفيق: الحديث لم يحرم بناء مسجد حول قبر أو بناء قبر داخل مسجد ولكن التحريم فى اتخاذ القبر مصلى يصلى فوقه أو أن تترك القبلة ويتخذ القبر قبلة للمصلى بدلاً من القبلة المشروعة للمسلمين والواضح من الحديث أن أهل الكتاب كانوا يتوجهون إلى أحبارهم ورهبانهم والمسيح فيتخذنهم أرباباً من دون الله وفى ذلك يقول المولى تبارك وتعالى ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون﴾ التوبة 9: 31، فمن هنا جاء التحريم.

ولقد ثبت بالدليل الذى لا لبث فيه أن السيدة عائشة بنت الصديق رضوان الله عليهما كانت تصلى فى حجرتها التى بها جسد الحبيب المصطفى وجسد أبيها ومن بعدهم الإمام عمر بن الخطاب  وذلك بنص حديث الصحابى الجليل أبى هريرة والمروى فى صحيح البخارى ومسلم وابو دود وابو يعلى والسنن الكبرى للبيهقى والنص: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنى أبو الحسن على بن عمر الحافظ، ابن القاضى أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن بهلول، ثنا الحسن بن الصباح، ثنا سفيان، عن الزهرى، عن عروة، قال: جلس أبو هريرة إلى جنب حجرة عائشة  وهى تصلى فجعل يحدث ويقول: اسمعى يا ربة الحجرة، فلما قضت صلاتها قالت لابن أختها: ألا تعجب إلى هذا وحديثه، إن النبى إنما كان يحدث حديثاً لو عده العاد أحصاه. رواه البخارى فى الصحيح عن الحسن بن الصباح.

ويقول الامام البيضاوى رحمه الله تعالى: فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر العسقلانى وغيره من شراح السنن حيث قال البيضاوى: «لما كانت اليهود يسجدون لقبور الأنبياء؛ تعظيماً لشأنهم، ويجعلونها قبلة، ويتوجهون فى الصلاة نحوها فاتخذوها أوثاناً، لعنهم الله، ومنع المسلمين عن مثل ذلك، ونهاهم عنه، أما من اتخذ مسجداً بجوار صالح أو صلى فى مقبرته وقصد به الاستظهار بروحه، ووصول أثر من آثار عبادته إليه، لا التعظيم له، والتوجه فلا حرج عليه، ألا ترى أن مدفن إسماعيل فى المسجد الحرام ثم الحطيم؟ ثم إن ذلك المسجد أفضل مكان يتحرى المصلى بصلاته، والنهى عن الصلاة فى المقابر مختص بالمنبوشة لما فيها من النجاسة» انتهى. فتح البارى، شرح الزرقانى، فيض القدير.

وقال العلاّمة الطِّيبى فى "شرح المشكاة" «لمّا كان اليهود والنّصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم، ويجعلونها قبلة، ويتوجّهون فى الصّلاة نحوها، فاتّخذوها أوثاناً، لعنهم، ومنع المسلمين عن مثل ذلك، ونهاهم عنه. أمّا مَن اتّخذ مسجداً فى جوار صالح، أو صلّى فى مقبرته، وقصد به الاستظهار بروحه، أو وصول أثرٍ مِن آثار عبادته إليه، لا لتعظيم له والتّوجّه نحوه، فلا حرج عليه». انتهى.

وقال الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى فى "التّمهيد" «فى هذا الحديث إباحة الدّعاء على أهل الكُفر، وتحريم السّجود على قبور الأنبياء، وفى معنى هذا أنّه لا يحل السّجود لغير الله جل وعلا، ويحتمل الحديث أنْ لا تُجعل قبور الأنبياء قِبلة يُصلّى إليها. ثم قال ابن عبد البر: وقد زعـم قـوم أنّ فى هذا الحديث ما يدل على كراهيّة الصّلاة فى المقبرة وإلى المقبرة، وليـس فى ذلك حُجة». انتهى.

وقال القاضى فى فيض القدير على الجامع الصغير للامام المناوى «لما كانت اليهود يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنها ويجعلونها قبلة، ويتوجهون فى الصلاة نحوها فاتخذوها أوثاناً لعنهم الله ومنع المسلمين عن مثل ذلك، ونهاهم عنه. أما من اتخذ مسجداً بجوار صالح أو صلى فى مقبرة وقصد به الاستظهار بروحه، أو وصول أثر من آثار عبادته إليه لا التعظيم له، والتوجه نحوه فلا حرج عليه. ألا ترى أن مدفن إسماعيل فى المسجد الحرام عند الحطيم؟ ثم إن ذلك المسجد أفضل مكان يتحرى المصلى لصلاته. والنهى عن الصلاة فى المقابر مختص بالمنبوشة لما فيها من النجاسة». انتهى.

ومهما كان فلا ندرى من أين أتى هؤلاء بتحريم إقامة المساجد أو الصلاة فيها إذا احتوت على قبور الصالحين؟

فقد لا يعرف البعض ما هو الحطيم وكيف يحتوى على مدفن إسماعيل فنقول له: أنه الحطيم ويسمى حِجْر اسماعيل وهو البناء المكشوف على شكل نصف دائرة من الناحية الشمالية للكعبة. ويسمى بالحطيم لأنه جزء حطمته قريش من الكعبة وأخرجته منها لما عجزت عن توفير المال الحلال اللازم لبناء الكعبة كما أخبر بذلك النبى للسيدة عائشة ويسمى حجر اسماعيل لان ابراهيم بنى لاسماعيل وأمه السيده هاجر عريشا من اراك ليسكنا فيه، وقال النبى لعائشة لولا أن قومك حديثى عهد بالإسلام لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم. وفي عهد وخلافة الإمام عبد الله بن الزبير هدم الكعبة وبناها على قواعد إبراهيم وأدخل الجزء الخارج منها من الحجر, ولكن عندما حاصر الأمويون بن الزبير وقتلوه هدموا الكعبة وأعادوا بناءها على الصفة القديمة. وعندما جاء العباسيون إلى الخلافة أراد الخليفة المهدى أن يرد بناء البيت على قواعد إبراهيم إلا أن الامام مالك بن أنس منعه من ذلك وقال لهم: أتركوا ذلك حتى لا يصبح بيت الله عز وجل لعبة بيد الملوك والخلفاء يبنى هذا ويهدم هذا فتذهب هيبته من صدور الناس. الجزري فى النهاية الحديث وتحفة الأحوذى وعون المعبود وفيض القدير وفتح البارى، وفضل هذا الحطيم ان من صلى فيه فكأنما صلى داخل الكعبة لانه جزء منها, وعندما طلبت السيده عائشة من النبى ان تصلى داخل الكعبة اخذ بيدها وقال لها (صلى فى هذا الحطيم فانما هو قطعة من البيت). البخارى ومسلم وأبو داوود والنسائى والترمذى. وللحاكم عَن ابْن عَبَّاس الْحِجر من الْبَيْت لِأَن النَّبِى طَاف من وَرَائه، والدعاء مستجاب فى الحطيم وتحت الميزاب, وقال الشيبانى رايت سعيد بن جبير فى حجر إسماعيل معتنقا البيت. والميزاب قطعة معدنيه مكسية بالذهب وضعت اعلى البيت لتصريف مياه الامطار، وقريش اول من صنع ميزابا للكعبة. ووجد سعيد بن جبير أحد حجاب الكعبة راقدا في الحجر, فركضه برجله وقال له مثلك ويفعل هذا, وذلك تعظيما للحجر. وعند بناء الإمام عبد الله بن الزبير للكعبة المشرفة, وحفرهم للحطيم وجدوا قبر إسماعيل فى الحجر, فأشهد الناس على ذلك. وأخرج السيوطى والحاكم والديلمى عن عائشة حديث (إن قبر إسماعيل فى الحِجر). وورد فى كتاب "الكعبة المشرفة سرة الأرض ووسط الدنيا" وكتاب "فى رحاب البيت العتيق": "ولقد كان الحجر فى بناء سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام للكعبة إلى جانب الكعبة على هيئة عريش من أراك وجُعل فيه بعد ذلك قبر سيدنا إسماعيل وأمه هاجر". إنتهى. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس أنه قال: فى المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما قبر إسماعيل وقبر شعيب أما قبر إسماعيل ففى الحِجر وأما قبر شعيب فمقابل الحجر الأسود. قال ابن إسحاق: حج إسحاق وسارة من الشام، وكان إبراهيم يحجه كل سنة على البراق، وحجته بعد ذلك الأنبياء والأمم. وروى محمد بن سابط عن النبى أنه قال: (كان النبى من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق مكة فتعبد بها هو ومن آمن معه حتى يموتوا فمات بها نوح وهود وصالح وقبورهم بين زمزم والحجر). فانظر كيف أن قبر إسماعيل جزء من الكعبة نفسها وكيف أن الصلاة والدعاء عنده أعلى منها فى أى مكان آخر، وانظر كيف أن قبور أنبياء آخرين فى هذا المكان المشرف. وبالطبع فقد يدعو هذا بعضنا لعدم الصلاة فى الكعبة أو لهدمها!!!

ومن الأدلة الواردة فى كتاب الله قوله تعالى ﴿فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً﴾ الكهف 18: 21.

يقول الإمام الشوكانى «ذِكر اتخاذ المسجد يُشعر بأنّ هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وقيل: هم أهل السلطان والملوك من القوم المذكورين، فإنهم الذين يغلبون على أمر من عداهم، والأوّل أولى». انتهى. ومعنى كلامه أن الأولى أن من قال ابنوا عليهم مسجدا هم المسلمون.

وقال الإمام الرازى فى تفسير ﴿لنتّخذنّ عليه مسجداً﴾ «نعبد الله فيه، ونستبقى آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد». تفسير الرازى.

وقال الزجاجى «هذا يدلّ على أنّه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور، لأن المساجد للمؤمنين. هذا بخصوص ما ذكر فى كتاب الله فيما يخص مسألة بناء المسجد على القبر».

 والامام محمد متولى الشعراوى حين سُئل: يردد بعض الناس أن الصلاة فى المساجد التى فيها مقاصير للأولياء والصالحين حرام، ويذهب المتطرفون إلى أنها باطلة، بل إلى أنها كفر، لأن هذا تعظيم للقبور، فما هو الرأى الصحيح؟ فأجاب: نقول لهؤلاء: اذهبوا إذاً واهدموا المسجد النبوى، فإذا قلتم: أن فيه النبى، فإنى أقول لكم: إن فيه أيضاً أبا بكر وعمر بن الخطاب ، والمسلمون يصلون، وهو على اليمين مرة، وعلى الشمال مرة، وفى الخلف مرة، بل وفى الأمام مرة. ويستطرد الامام قائلا: وهؤلاء لا يعرفون معنى كلمـة "مقصورة" التـى يدفن فيهـا النبى أو الولـى الصـالح، إن معنـاها "محبوسة": أى أنها محجوزة عن المسجد، والقبر لا يتعداها، وعلى هذا فأنا لا أتخذ من القبر مسجد.

نرجوا أن يكون فى هذا القدر الكفاية وفقنا ووفقكم الله إلى ما يحب ويرضى ونفعنا بالصالحين من هذه الأمة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،،

 محمد مقبول