نظرة يا رسول الله

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ البقرة 2: 104.

والأمر موجه للذين آمنوا، وكما يقول عبد الله بن مسعود: إذا سمعت الله يقول ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فأرعها سَمْعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. والآية تأمر المؤمنين بالتأدب عند طلب النظر والرعاية من المصطفى وتجنب الكلمات التى قد لا يحسن فهمها، بمعنى أن الكلمتان ﴿رَاعِنَا﴾ و﴿انْظُرْنَا﴾ مترادفتان بمعنى الرعاية والمراقبة وتدبر الحال ولكن الله عز وجل فضل إحداهما على الأخرى وأمر بها، ومنع الأخرى أن تقال، وهذا النهى يقتضى التحريم كما قال ابن كثير فى "تفسيره". ولفظة ﴿انْظُرْنَا﴾ مخلصة لتعظيم النبى ، بالإضافة إلى أن هذا الأمر بالأدب فى طلب النظر والرعاية لا ينتهى بانتقاله حيث أن حرمته فى حياته كحرمته فى وفاته كما قال الإمام مالك. وهذا الطلب مشروع ومستمر. قال أبو جعفر: يعنى بقوله جل ثناؤه: ﴿وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾، وقولوا يا أيها المؤمنون لنبيكم : انظرنا وارقبنا – من الرعاية – فنفهم ونتبين ما تقول لنا، وتعلمنا. ومنها قول الله عز وجل: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ الحديد 57: 13. نقول فالنظر من النبى لنا يعطينا قبس من نوره يفتح لنا به علمه الظاهر والباطن.

ولكن ما هو المعنى الذى فى قوله: ﴿رَاعِنَا﴾ والذى من أجله كان النهى من الله جل ثناؤه للمؤمنين عن أن يقولوه، حتى أمرهم أن يؤثروا قوله: ﴿انْظُرْنَا﴾؟

يقول القرطبى فى "تفسيره": نهى الله عز وجل المؤمنين أن يقولوا: ﴿رَاعِنَا﴾، علما بأن قول القائل: ﴿رَاعِنَا﴾ يكون بمعنى احفظنا، وارقبنا. من قول العرب بعضهم لبعض:"رعاك الله": بمعنى حفظك الله وكلأك، ولكنه محتملا أن يكون بمعنى: أَرْعنا سمعك، ولما كان الله جل ثناؤه قد أمر المؤمنين بتوقير نبيه وتعظيمه، حتى نهاهم جل ذكره فيما نهاهم عنه عن رفع أصواتهم فوق صوته، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وخوفهم على ذلك بحبوط أعمالهم. فتقدم إليهم بالزجر عن أن يقولوا له من القول ما فيه جفاء، وأمرهم أن يتخيروا لخطابه من الألفاظ أحسنها، ومن المعانى أرقها. فكان ممما نهاهم عنه قولهم: ﴿رَاعِنَا﴾ لما فيه من احتمال معنى: ارعنا نرعاك، إذ كانت المفاعلة لا تكون إلا من اثنين، ومعنى: أرعنا سمعك، حتى نفهمك وتفهم عنا. فنهى الله تعالى أصحاب محمد أن يقولوا ذلك كذلك، وأمرهم أن يفردوا مسألته بالنظر إليهم، رعاية لهم وليعقلوا عنه بتبجيل منهم له وتعظيم، وأن لا يسألوه ما سألوه من ذلك على وجه الجفاء والتجهم منهم له، ولا بالفظاظة والغلظة، تشبها منهم باليهود. ويقول الشوكانى فى تفسيره "فتح القدير": أمرهم الله بأن يخاطبوا النبى بما لا يحتمل النقص ولا يصلح للتعريض.

ويقول ابن كثير فى "تفسيره" فى قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ أمروا أن يخاطبوه بالإجلال، والمعنى: أقبل علينا وانظر إلينا، فحذف حرف التعدية - بمعنى أن ﴿انْظُرْنَا﴾ معناه «انظر» إلينا إلا أنه حذف حرف «إلى» كما في قوله: ﴿واخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ﴾ الأعراف 7: 155، والمعنى من قومه – ويقول ابن كثير: الظاهر استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، وهذا هو معنى راعنا، فبدلت اللفظة للمؤمنين وزال تعلق اليهود. قاله مقاتل فى "تفسيره" أيضا، وقال أبو حيان فى تفسيره "البحر المحيط": وأمروا بما هو فى معنى ﴿رَاعِنَا﴾ وهو على حذف مضاف، أى انظر فى أمرنا. قال ابن عطية: وهذه اللفظة ﴿انْظُرْنَا﴾ مخلصة لتعظيم النبى ، والظاهر عندى استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، وهذا هو معنى: راعنا، فبدلت للمؤمنين اللفظة، ليزول تعلق اليهود. انتهى.

وقد ورد فى معنى الكلمة الأولى ﴿رَاعِنَا﴾ أن معناها يمكن أن يفهم منه: أرعِنا سمعك وهو قول فظ ومعناه: اسمع منا ونسمع منك، وكذلك فعن عطية: ﴿لَا تَقُولُوا رَاعِنَا﴾، قال: كان أناس من اليهود يقولون أرعنا سمعك! وهو قول كانت تقوله اليهود استهزاء، حتى قالها أناس من المسلمين بدون علم، فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقول اليهود فقال:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا﴾، كما قالت اليهود. وعن السدى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ كان رجل من اليهود - من قبيلة من اليهود يقال لهم بنو قينقاع - كان يدعى رفاعة بن زيد بن السائب كان يأتى النبى ، فإذا لقيه فكلمه قال: أَرْعِنى سمعك. وهذه الكلمة بلغة اليهود يسبون بها بعضهم. ولذلك نهى الله المؤمنون أن يقولوا مثلهم سدا للذرائع.

ويقول بن كثير فى "تفسيره" أن فى هذه الآية دلالتين:

أحدهما: على تجنب الالفاظ المحتملة التى فيها التعريض للتنقيص والغض، ويخرج من هذا فهم القذف بالتعريض، وذلك يوجب الحد عندنا. ويعلق على ذلك ابن حيان فى "البحر المحيط" بقوله: وتضمن هذا النهى، النهى عن كل ما يكون فيه استواء مع النبى ، بمعنى ألا تكون هناك مشاركة معه فى الفعل.

الثانى: التمسك بسد الذرائع وحمايتها وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد ابن حنبل في رواية عنه، وقد دل على هذا الاصل الكتاب والسنة. والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع فى ممنوع.

ويستطرد ابن كثير فيقول فى قوله تعالى: ﴿واسمعوا﴾ لما نهى وأمر عز وجل، حض على السمع الذى فى ضمنه الطاعة. ثم أخبرهم جل ثناؤه أن لمن جحد منهم ومن غيرهم آياته، وخالف أمره ونهيه، وكذب رسوله، العذاب الموجع فى الآخرة، فقال: وللكافرين بى وبرسولى عذاب أليم. يعنى بقوله: ﴿الأليم﴾ الموجع. وفى ذلك يقول الألوسى فى "تفسيره": هو أمر بحسن الإستماع؛ بأن يكون بإحضار القلب وتفريغه عن الشواغل حتى لا يحتاج إلى طلب صريح المراعاة، ففيه تنبيه على التقصير في السماع حتى أرتكبوا ما تسبب للمحذور، والمراد سماع القبول والطاعة فيكون تعريضا لليهود حيث قالوا: سمعنا وعصينا وإذا كان المراد سماع هذا الأمر والنهى يكون تأكيدا لما تقدم. وللكافرين عذاب أليم: اللام للعهد فالمراد بالكافرين اليهود الذين قالوا ما قالوا تهاونا بالرسول المعلوم، مما سبق بقرينة السياق ووضع المظهر موضع المضمر، إيذانا بأن التهاون برسول الله كفر يوجب أليم العذاب، وفيه من تأكيد النهى ما فيه، وجعلها للجنس، فيدخل اليهود، كما أن ما اختاره أبو حيان ليس بظاهر على ما قيل: لأن الكلام مع المؤمنين فلا يصلح هذا أن يكون تذييلا.

وقال النياسبورى فى "تفسيره" لما فى هذه الآية من الإشارة: حسنُ الخطاب من تمام الآداب، وتمام الآداب هو السبب الموصل إلى عين الصواب، فمن لا أدب له لا تربية له، ومن لا تربية له لا سَيْر له، ومن لا سير له لا وصول له، فمن لا يتربى على أيدى الرجال لا يُربى الرجال، وقد قالوا: من أساء الأدب مع الأحباب طُرد إلى الباب، ومن أساء الأدب في الباب طرد إلى سياسة الدواب. وقالوا أيضاً: اجعل عملك ملحاً، وأدبك دقيقاً. وقال آخر: إن الإنسان ليبلغ بالخلق وحسن الأدب إلى عظيم الدرجات وهو قليل العمل، ومن حرم الأدب حُرم الخيرَ كله، ومن أُعطى الأدب فقد مُكن من مفاتيح القلوب. قال أبو عثمان : الأدب عند الأكابر وفى مجالس السادات من الأولياء يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلا والخير فى الدنيا والعقبى. وقال أبو حفص الحداد : الدين كله أدب، لكل وقت أدب، ولكل حال أدب، ولكل مقام أدب، فمن لازم الأدب بلغ مبلغ الرجال، ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب، مردود من حيث يرجوا الوصول. وقال ذو النون المصرى : "إذا خرج المريد عن استعمال الأدب فإنه يرجع من حيث جاء". وقيل: من لم يتأدب لوقت فوقته مقت. وقيل: من حَبَسه النسب أطلقه الادب، ومن قل أدبه كثر شغبه. وقيل: الأدب سند الفقراء، وزينة الأغنياء.

سامر الليل

 
 

ومن أراد الاستزادة فليطلع على موقع النبى

أسرة التحرير