كان .. ما .. كان

سيدنا إبراهيم 3

أبو الأنبياء وثانى أولى العزم

لما أجمع الملك ووزرائه على حرق سيدنا إبراهيم وروى عن سيدنا عبد الله بن عمر  أنه قال: أشار بتحريقه رجل من أعراب الفرس، قيل له: وللفرس أعراب؟ قال: نعم، الأكراد هم أعرابهم، قيل كان اسمه هيزن فخُسف به فهو يجلجل فى الأرض إلى يوم القيامة، فأمر بجمع الحطب فلازالوا يجمعونها مدة طويلة قالوا مدة ثلاثة أشهر، حتى أن المرأة كانت لتنذر إن تحقق مطلبها أن تحتطب لنار إبراهيم، ثم بعد أن جمعوا الخشب أطلقوا فيه النار فارتفع دخانها واشتد حرها حتى أن الطير فى السماء إذا مر عليها تحترق فتحيروا كيف يلقون إبراهيم فيها؟ فمن حرها لا يستطيع أى منهم أن يقترب منها، فجاء إبليس اللعين فى صورة رجل وقال لهم: أنا أصنع لكم منجنيقاً لترموا به إبراهيم، فلما وضعوه فى المنجنيق وهموا أن يلقوه فى النار ضجت السماء والأرض ومن فيها من الخلق إلا الثقلين وصاحت صيحة واحدة قائلين: إلهى وسيدى عبدك إبراهيم لا يعبدك غيره فى الأرض وهو يلقى فى النار فإذن لنا فى نصره، فقال تعالى: إن استغاث بشئ منكم فلينصره، وإنه لم يدع غيرى فأنا له، فجاءه جبريل فقال: يا إبراهيم ألك حاجة، فقال سيدنا إبراهيم: أما إليك فلا، حسبى من سؤالى علمه بحالى وقيل أنه قال: اللهم أنت الواحد فى السماء وأنت الواحد فى الأرض حسبى الله ونعم الوكيل وكانت هذه العبارة قبل مجيئ جبريل إليه يسأله حاجته. فقال تعالى للنار {يَا نَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} وقيل فلو لم يتبع بردها سلاماً لمات سيدنا إبراهيم من شدة بردها، وقيل لم تبق يومئذ ناراً إلا اطفئت ظنت أنها هى المخاطبة، ظلت النار مشتعلة أياماً، ولم يبقى عندهم شئ من الشك ولو قليل بأن النار لم تأكل سيدنا إبراهيم، وقيل أن ملكهم رأى رؤيا أن النار تحرق بعضها بعضاً، وسيدنا إبراهيم جالس فيها ولم تمسسه فقال لقومه لقد رأيت كأن إبراهيم حى، فابنوا لى صرحاً يشرف على النار، فلما أشرف على النار رأى سيدنا إبراهيم جالساً على سرير وبجواره عيناً من الماء وشجرة فاكهة فى عيشة رغيدة فناداه: ياإبراهيم كبيرٌ إلهك الذى بلغت قدرته وعزته أن حال بينك وبين ما أرى، هل تستطيع أن تخرج منها؟ فقال سيدنا إبراهيم: نعم، قال: اتخشى إن أقمت فيها أن تضرك؟ قال: لا، فخرج سيدنا إبراهيم منها، فقال له الملك: إنى مقرب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته وما صنع بك حين أبيت إلا عبادته، فقال سيدنا إبراهيم: إذاً لا يقبل الله منك ما كنت على شئ من دينك، فقال له: يا إبراهيم لا أستطيع ترك ملكى، وآمن فى ذلك اليوم أناس كثيرون لما رأوا هذه المعجزة، وآمن له سيدنا لوط وهو لوط بن هاران وهو ابن اخو سيدنا إبراهيم وكان لهما أخ ثالث يقال له ناخور بن تارخ وهو ابو بتويل، وبتويل أبو ليا وراحى زوجتى سيدنا يعقوب، كما آمنت لسيدنا إبراهيم السيدة سارة  وهى ابنة عمه، فلما رأى الملك ذلك قال لإبراهيم أخرج من أرضنا لئلا تفسد علينا ديننا فخرج سيدنا إبراهيم ومن آمن معه مهاجرين حتى آتوا مصر، وكان فرعون مصر فى ذلك الوقت اسمه سنان بن علوان وكان شغوفاً بالنساء خاصة الجميلات منهن، وكان إذا سمع بامرأة جميلة تزوجها قهراً، وكانت السيدة سارة من أحسن النساء وجهاً وجمالاً فماذا فعل سيدنا إبراهيم؟ وماذا حدث من فرعون مصر؟ استكمالاً لهذه القصة فى العدد القادم إن شاء الله تعالى، لنرى نصرة الله تبارك وتعالى لأنبيائه وصفوة خلقه على جميع أعدائهم وإظهارهم عليهم رغم كيد الكايدين وقدح القادحين ليتم الله نوره وهدايته، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله بيته الأطهار وأصحابه الأخيار.

أحمد نور الدين عباس

 

 

أم موسى
﴿
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا

زوجة عمران أم موسى فقد ذكر الطبرى فى تفسيره نسب موسى، فقال: هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب (إسرائيل).
كانت أم موسى نموذجاً للأم الصابرة المؤمنة الثابتة المتوكلة الطائعة لأمر ربها الراضية المطمئنة المستعينة دائماّ بالله.
كان بنو إسرائيل فى مصر يمرون بأهوال كثيرة، فقد ضاق بهم فرعون، وراح يستعبدهم ويسومهم سوء العذاب؛ نتيجة ما رأى فى منامه من رؤيا أفزعته، فدعا المنجِّمين لتأويل رؤياه، فقالوا: سوف يولد في بنى إسرائيل غلام يسلبك المُلك، ويغلبك على سلطانك، ويُبدل دينك. ولقد أطّل زمانه الذي يولد فيه حينئذٍ. ولم يُبالِ فرعون بأى شيئ سوى ما يتعلق بملكه والحفاظ عليه، فقتل الأطفال دون رحمة أو شفقة، وأرسل جنوده في كل مكان لقتل كل غلام يولد لبنى إسرائيل.
ولما أكثر جنود فرعون من قتل ذكور بنى إسرائيل قيل لفرعون: إنه يوشك إن استمر هذا الحال أن يموت شيوخهم وغلمانهم، ولا يمكن لنسائهم أن يقمنّ بما يقوم به الرجال من الأعمال الشاقة فتنتهى إلينا، حيث كان بنو إسرائيل يعملون فى خدمة المصريين فأمر فرعون بترك الولدان عاماً وقتلهم عاما، وكان رجال فرعون يدورون على النساء فمن رأوها قد حملت، كتبوا اسمها، فإذا كان وقت ولادتها لا يولِّدها إلا نساء تابعات لفرعون. فإن ولدت جارية تركنها، وإن ولدت غلاماً؛ دخل أولئك الذباحون فقتلوه ومضوا.

وتحت غيوم البطش السوداء، ورياح الفزع العاتية، وصرخات الأمهات وهنّ يندبنّ أطفالهنّ الذين قُتِلوا ظُلماً، كان الرعب يُسيطر على كيان زوجة عمران، ويستولى الخوف على قلبها، فقد آن وضع جنينها وحان وقته، وسيكون مولده في العام الذي يقتل فرعون فيه الأطفال. واستغرقت فى تفكير عميق، يتنازع أطرافه يقين الإيمان ولهفة الأم على وليدها، ووسوسة الشيطان الذي يريد أن يزلزل فيها ثبات الإيمان، لذلك كانت تستعين دائماً باللَّه، وتستعيذ به من تلك الوساوس الشريرة.
ولحكمة الله تعالى وعظمته لم تظهر على زوجة عمران علامات الحمل كغيرها ولم تفطن لها القابلات، وما إن وضعت موسى حتى تملكها الخوف الشديد من بطش فرعون وجنوده، واستبد بها القلق على ابنها موسى، وراحت تبكى حتى جاءها وحي الله عز وجل آمراً أن تضعه داخل صندوق وتُلقيه في النيل. قال تعالى ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾
القصص 28: 7، وكانت دار أم موسى على شاطئ النيل، فصنعت لوليدها تابوتاً وأخذت ترضعه، فإذا دخل عليها أحد ممن تخافه، ذهبت فوضعته فى التابوت، وسَـيرَتْـهُ فى البحر، وربطته بحبل عندها.

وذات يوم، اقترب جنود فرعون، وخافت أم موسى عليه، فأسرعت ووضعته في التابوت، وأرسلته فى البحر، لكنها نسيت في هذه المرة أن تربط التابوت، فذهب مع الماء الذي احتمله حتى مرَّ به على قصر فرعون. وأمام القصر توقف التابوت، فأسرعت الجوارى وأحضرنه، وذهبنّ به إلى امرأة فرعون، فلما كشفت عن وجهه أوقع الله محبته فى قلبها، فقد كانت عاقراً لا تلد. وذاع الخبر في القصر، وانتشر نبأ الرضيع حتى وصل إلى فرعون، فأسرع فرعون نحوه هو وجنوده وهمّ أن يقتله، فناشدته امرأته أن يتركه ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. القصص 28: 9.

وكاد قلب أم موسى أن يتوقف، فهى ترى ابنها عائماً فى صندوق وسط النهر، ولكنَّ الله صبّرها، وثّبتها، وقالت لابنتها: اتبعيه، وانظرى أمره، ولا تجعلي أحداً يشعر بك. وكان قلبها ينفطر حزناً على مصير وليدها الرضيع الذى جرفه النهر بعيداً عنها قال تعالى ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ • وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُون﴾. القصص 28: 10-11.

فرحت امرأة فرعون بموسى فرحاً شديداً، ولكنه كان دائم البكاء، فهو جائع، ولكنه لا يُريد أن يرضع من أية مرضعة، فخرجوا به إلى السوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته، فلما رأته أخته بأيديهم عرفته، ولم تُظِهِر ذلك، ولم يشعروا بها، فقالت لهم: أعرف من يرضعه، وأخذته إلى أمه، قال تعالى ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ • فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَى تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ القصص 28: 12-13، هذا هو القدر الإلهى يظهر منه ومضات ليتيقن الناس أن خالق السَّماوات والأرض قادر على كل شيئ قال تعالى ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ يوسف 12: 21.

ما إن وصل موسى إلى أمه حتى أقبل على ثديها، ففرحت الجوارى بذلك فرحاً شديداً، وذهب البشير إلى امرأة فرعون، فاستدعت أم موسى، وأحسنت إليها، وأعطتها مالاً كثيراً - وهى لا تعرف أنها أمه - ثم طلبتْ منها أن تُقيم عندها لترضعه فرفضتْ، وقالت: إن لى بعلاً وأولاداً، ولا أقدر على المقام عندك، فأخذته أم موسى إلى بيتها، وتكفّلت امرأة فرعون بنفقات موسى.
وبذلك رجعت أم موسى بابنها راضية مطمئنة، وعاش موسى وأمه فى حماية فرعون وجنوده، وتبدل حالهما بفضل صبر أم موسى وإيمانها، ولم يكن بين الشدة والفرج إلا يوم وليلة، فسبحان من بيده الأمر، يجعل لمن اتقاه من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً .

راوية رمضان