للمريد الصادق

قال بعض العلماء: الخلق محجوبون بثلاث؛ حب الدرهم، وطلب الرياسة وطاعة النساء.

وقال بعض العارفين: الذى قطع العباد عن اللّه عزّ وجلّ ثلاثة أشياء؛ قلة الصدق فى الإرادة،، والجهل بالطريق، ونطق علماء السوء بالهوى.

وقال بعض علمائنا: إذا كان المطلوب محجوباً والدليل مفقوداً والاختلاف موجوداً لم ينكشف الحق، وإذا لم ينكشف الحق تحير المريد.

واعلم أن المريد لابدّ له من خصال سبع: الصدق فى الإرادة وعلامته إعداد العدة ولا بدّ له من التسبب إلى الطاعة وعلامة ذلك هجر قرناء السوء ولا بدّ له من المعرفة بحال نفسه وعلامة ذلك استكشاف آفات النفس ولا بدّ له من مجالسة عالم باللّه وعلامة ذلك إيثاره على ماسواه ولا بد له من توبة نصوح فبذلك يجد حلاوة الطاعة ويثبت على المداومة وعلامة التوبة قطع أسباب الهوى والزهد فيما كانت النفس راغبة فيه ولا بدّ له من طعمة حلال لا يذمّها العلم وعلامة ذلك الحلال المطالبة عنه وحلول العلم فيه يكون بسبب مباح وافق فيه حكم الشرع ولا بدّ له من قرين صالح يؤازره على ذلك وعلامة القرين الصالح معاونته على البر والتقوى ونهيه إياه عن الإثم والعدوان، فهذه الخصال السبع قوت الإرادة لا قوام لها إلا بها.

ويستعين على هذه السبع بأربع هن أساس بنيانه وبها قوة أركانه؛ أوّلها الجوع، ثم السهر، ثم الصمت، ثم الخلوة، فهذه الأربع سجن النفس وضيقها وضرب النفس وتقييدها بهن يضعف صفاتها وعليهن تحسن معاملاتها ولكل واحدة من الأربع صنعة حسنة فى القلب، فأما الجوع فإنه ينقص من دم القلب فيبيضّ وفى بياضه نوره ويذيب شحم الفؤاد وفى ذوبه رقته ورقته مفتاح كل خير لأن فى القسوة مفتاح كل شر وإذا نقص دم القلب ضاق مسلك العدوّ منه لأن دم القلب مكانه فإذا رق القلب ضعف سلطان العدوّ منه لأن فى غلظ القلب سلطانه والفلاسفة يقولون إن النفس كلية الدم وحجتهم فى ذلك أن الإنسان إذا مات لم يفقد من جسمه إلا دمه مع روحه، والعلماء منهم قالوا: الدم هو مكان النفس وهذا هو الصحيح لأنه مواطئ لما فى التوراة سمعت أن فى التوراة مكتوباً: ياموسى لا تأكل العروق فإنها مأوى كل نفس وهذا مصدق للحديث الذى روى أن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والعطش، وقدعبر علماء الكوفة عن الدم بالنفس فقالوا: إذا مات فى الماء من الهوام ماليس له نفس سائلة لم ينجس يعنون الخنافس والصراصر والعناكب، ففى الجوع نقصان الدم ونقصانه ضيق مسلك العدوّ وضعف مسكن النفس لسقوط مكانها، وفى خبر عن عيسى عليه السلام: يامعشر الحواريين جوّعوا بطونكم وعطشوا أكبادكم وأعروا أجسادكم لعل قلوبكم ترى اللّه يعنى بحقيقة الزهد وصفاء القلب، فالجوع مفتاح الزهد وباب الآخرة وفيه ذلّ النفس واستكانتها وضعفها وانكسارها وفى ذلك حياة القلب وصلاحه وأقل ما فى الجوع إيثار الصمت وفى الصمت السلامة وهى غاية للعقلاء.

وقال سهل : اجتمع الخير كله فى هذه الأربع خصال، وبها صار الإبدال إبدالاً إخماص البطون والصمت والسهر والاعتزال عن الناس، وقال: من لم يصبر على الجوع والضر لم يتحقق بهذا الأمر وكان عبد الواحد بن زيد يحلف باللّه ما تحول الصديقون صديقين إلا بالجوع والسهر فإنه ينير القلب ويجلوه وفى استنارته معاينة الغيب وفى جلائه صفاء اليقين فتدخل الاستنارة والجلاء على البياض والرقة فيصير القلب كأنه كوكب درىّ فى مرآة مجلوة ويشهد الغيب بالغيب فيزهد فى الفانى لما عاين من الباقى وتقل رغبته فى عاجل حظوظ هواه لما أبصر من وبال العقاب ويرغب فى الطاعات لمشاهدة الآخرة ورفيع الدرجات فيصير الآجل عاجلاً ويكون العاجل غائباً ويصير الغائب حاضراً والحاضر آفلاً يطلبه ويرغب فيه فلا يحب الآفل ولا يبتغيه ويطلب الآجل ويرغب فيه وينكشف له عوار الدار ويظهر له بواطن الأسرار ويزول عنه كامن الإغترار فهناك صار العبد مؤمناً حقاً بوصف حارثة الأنصارى إذ يقول: عزفت نفسى عن الدنيا وكأنى أنظر إلى عرش ربى تعالى بارزاً وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون وإلى أهل النار يتعادون، و

كذلك وصف رسول اللّه قلب المؤمن فى قوله: (القلوب أربعة؛ قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن ...) وانجراد القلب بالزهد فى الدنيا وتجرده من الهوى وسراجه الذى يزهر فيه هو نور اليقين به يبصر الغيب.

مريد يتمنى الصدق

 

من آداب المريد مع شيخه

• ذكر سيدى عبد القادر الجيلانى (فى كتابه الغنية ج 3) بعض من آداب المريد مع شيخه نذكر منها:

- أن لا يتكلم بين يدى شيخه إلا فى حالة الضرورة ، وان لا يظهر شيئا من مناقب نفسه بين يديه.

- ينبغى للمريد إذا جرت مسالة بين يدى الشيخ أن يسكت، وان كان عنده فضل واشباع جواب فيها، بل يغتنم ما يفتح الله على لسان شيخه فيقبله ويعمل به، وان رأى فى جوابه نقصانا وقصورا فلا يرد عليه، بل يشكر الله تعالى على ما خصه من فضل وعلم ونور، ويخفى جميع ذلك فى نفسه، ولا يكثر حديثه فيقول أخطأ الشيخ فى المسألة، ولا يناقض كلامه.

• وربما كان هذا ما قصده الإمام السهروردى عندما قال: وشأن المريد فى حضرة الشيخ كمن هو قاعد على ساحل بحر ينتظر رزقاً يساق إليه، فتطلعه إلى الاستماع وما يرزق من طريق كلام الشيخ يحقق مقام إرادته وطلبه واستزادته من فضل الله، وتطلعه إلى القول يرده عن مقام الطلب والاستزادة إلى إثبات شيئ لنفسه وذلك جناية المريد. السهروردى-آداب المريد.

• وها هو سيدى إبراهيم القرشى الدسوقى يبين لنا فضل الأدب مع الشيخ فيقول: يا مريدى إن صدقت معى وصح عهدك فأنا منك قريب غير بعيد، وأنا فى ذهنك، وأنا فى طرفك، وأنا فى جميع حواسك الظاهرة والباطنة، وان لم تصدق معى كنت منك بعيدا، ولا تشهد منى إلا البعد. الأنوار القدسية

وفى ذلك يقول سيدى فخر الدين :

ولست بناء عن مريدى لحظة        وان مريدى من أراد إرادتى

• وكان سيدى إبراهيم الدسوقى يقول أيضا -الأنوار القدسية: اذا صدق المريد مع شيخه ونادى شيخه من مسيرة ألف عام أجابه حيا كان الشيخ أو ميتا، فليتوجه الصادق بقلبه إلى شيخه فى كل أمر دهمه فى دار الدنيا فانه يسمع صوت شيخه ويغيثه مما هو فيه ومهما ورد عليه من مشكلات سره، يطبق عينيه ويفتح عين قلبه فانه يرى شيخه جهارا، فإذا رآه فليسأله عما شاء وأراد.

 وكان يقول أيضا: المريد الصادق مع شيخه كالميت مع مغسله لا كلام ولا حركة ولا يقدر ينطق بين يديه من هيبته، ولا يدخل ولا يخرج، ولا يخالط احد، ولا يشتغل بعلم، ولا قرآن، ولا بذكر إلا بإذنه، لأنه أمين على المريد فيما يرقيه، ورب عمل فاضل دخلته النفس فصار مفضولا.

• ويجب على المريد إن ظن عيبا فى شيخه ان ينسب العيب لنفسه لان الشيخ إنما هو مرآة المريد كما قال سيدى على بن وفا رحمه الله: أنت على الصورة التى تشهد أستاذك عليها، فاشهد ما شئت وانظر ماذا ترى، إن شهدته منافقا فأنت منافق، وان شهدته مخلصا فأنت مخلص، لأنه مرآتك، ولا ترى فى المرآة إلا صورتك لا جرم المرآة.

• وكان سيدى أبو الحسن الشاذلى يربى أولاده بالنظر من غير كلام ويقول: إن السلحفاة تربى أولادها بالنظر وكل من توارى عليها من أولادها هلك، ونحن أولى بذلك من السلحفاة.

• وكان سيدى أبو العباس المرسى يقول: لا تطالبوا الشيخ بأن يكون فى خاطركم، بل طالبوا أنفسكم بأن يكون الشيخ فى خاطركم، فعلى قدر ما يكون عندكم تكونون عنده، لأن همته مصروفة إلى حضرة الحق تعالى لا إليكم، فالمريد هو الذى يتعلق بشيخه، لا أن شيخه يتعلق به.

وقال أيضا: من شأن المريد أن لا يتعب شيخه فى تربيته بأن يكون سميعا مطيعا لكل ما يشير به عليه.

وكان يقول أيضا: ليس المريد من يفتخر بشيخه، وإنما المريد من يفتخر شيخه به.

ونختتم حديثنا بقول الإمام النووى :من لم يتأدب للوقت فوقته مقت. الرسالة القشيرية

وقول سيدى ذو النون المصرى : إذا خرج المريد عن استعمال الأدب فانه يرجع من حيث جاء.

فنسأل الله تعالى أن يأدبنا بآداب مشايخنا وان يجعلنا معهم من الطائعين حتى نكون عندهم من المقربين فننهل من بحر علومهم ما يوصلنا إلى شاطئ الأمان سالكين على أيديهم الطريق إلى الله تعالى.

باقى المقال المنشور فى صفحة المناقشة

سيد حسينى

 

 

مقتطفات صوفية

الحكيم الترمذى:     ( قلوب الأولياء )

أعلم رحمك الله إن قلوب أولياء الله تعالى خزائن الحكمة، وموضع الرحمة، ومعادن المشاهدة، وكنوز المعرفة، وبيوت الكرامة، ومواضع نظر الله جل جلاله إليها برحمته. وهى مزرعة رأفته، وأوانى علمه، وأوعية توحيده، ومواضع فوائده، وأكنة أنوار نوره.

ينظر إليها برحمته فى كل لحظة، فيزيد أنوارها، ويصلح أسرارها، وقد زينها الله بنور الإيمان، وأسسها بالتوكل على الرحمن، وحشاها من لطائف الأمتنان، وبنى حيطانها من فوائد الأحسان. وطيب أرضها بنور الحق والهدى، حتى طابت تربتها  من خبث الشرك والشك والنفاق وسائر الفواحش. فهذه الأرض أرض المعرفة سقاها الله من بحر الرضى، حتى نبتت من أنوار النفس. وأيدها بحسن معالجة أصحاب البساتين، وهم السادات من المتقين. وأخرج أكمامها بريح متابعة سيد المرسلين، ورباها بالرياح الربانية: ريح الرحمة وريح الرأفة وريح الظفر، وما يشاكلها من رياح الربوبية، وأنضج ثمارها بحر شمس المعرفة، وزادها بمضى ليل الأفتقار ونهار الأفتخار. وأحسن لون فواكهها بصبغة الله، وهى بيان أحكام الشريعة وأستمساك بالعروة الوثقى. وطيب طعمها بالتمسك بسنة نبيه .

ثم وضع سرير المحبة على أرض الحق، وطيب ترابها بنور التوفيق، المغذى بغذاء التصديق، المؤسس بأساس التحقيق، المسدد بركنه الوثيق، وبسط على هذا السرير الفرش الوثير، من الحول والقوة، وألقى عليها من نمارق التضرع والأستكانة. وجعل متكأه الأستقامة، وأعتماده على الله أن يثنيه على الحق ولزوم الجماعة. ثم أجلس على هذا السرير عبده ووليه: مسروراً مؤيداً منصوراً، قد ألبسه لباس التقوى، وخلع عليه كرامته من خزائن فضله، وتوجه بتاج ولايته، وغسله بماء بره ورعايته، وزاده طهارة من بحر هدايته، وأطعمه حلاوة ذكره ومحبته، وسقاه شراباً طهوراً بكأس التوحيد من بحر التفريد، ممزوجاً بحلاوة وصلته، حتى صار قائماً بالله.

قال إبراهيم بن أدهم لأخ له فى الله:

إن كنت تحب أن تكون لله ولياً، وهولك محباً، فدع الدنيا والآخرة ولاترغبن فيهما، وفرغ نفسك عنهما، وأقبل بوجهك عليه عسى أن يقبل بوجهك عليك، ويلطف بك. فأنه بلغنى أن الله أوحى إلى يحى بن زكريا:

 يا يحى إنى قضيت على نفسى أن لا يحبنى عبد من عبادى، أعلم ذلك من نيته، إلا كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ولسانه الذى يتكلم به وقلبه الذى يفهم به. فإذا كان ذلك بغضت إليه الأشتغال بغيرى، وادمت فكرته، واسهرت ليله، وأظمأت نهاره. يا يحى، أنا جليس قلبه، وغاية منيته وامله. أهب له كل يوم وساعة، فيتقرب منى واتقرب منه. أسمع كلامه، وأجيب تضرعه. فوعزتى وجلالى لأبعثنه مبعثاً يغبطه به النبيون والمرسلون. ثم آمر منادياً ينادى: هذا فلان بن فلان، ولى الله وصفيه وخيرته من خلقه، دعاه إلى زيارته، ليشفى صدره من النظر إلى وجهه الكريم. فإذا جاءنى رفعت الحجاب بينى وبينه. فينظر إليَ كيف شاء. وأقول: أبشر فوعزتىى وجلالى لأشفين صدرك من النظر إلىّ، ولأجددن كرامتك فى كل يوم وليلة وساعة، فإذا توجهت الوفود إليه، أقبل عليهم فقال: أيها المتوجهون إلىَ، ما ضركم ما فاتكم من الدنيا إذا كنت لكم حظاً، وما ضركم من عاداكم، إذا كنت لكم سلماً؟

المحاسبى:

قلت أجمل لى حالات العارفين، ماهى؟  قال: عن أى حالات العارفين تسأل؟ قلت: أريد أن تدلنى منها على حالة تثبتنى فى التواضع، وتكمل لى الحياء، وتجمع لى الرعاية، وتمزج لى السرور بالمقدور، وتسقط عنى كثيراً من الأعجاب، ويدخل علىَ منها مطالع الأمتناع عن كل سبب يجر إلى دواعى فتنة.

قال الحمد لله الذى وفقك للصواب ودلك على الرشاد وكشف عن غطاء قلبك ظلمة الجهل. الآن رجوت أن تكون قد قربت من المعرفة ووصلت إلى بابها. يا فتى، أن الحالة التى تجمع لك الحالات، هى كلها فى حالة واحدة: هى المراقبة. فألزم نفسك وقلبك دوام العلم فينظر إليك: فى حركتك وسكونك، وقيامك وقعودك، وذهابك ومجيئك. فأنك بعين الله عز وجل، فى جميع متقلبك. وأنك فى قبضته حيث كنت. وأن عين الله على قلبك، وهو ناظر إلى سرك وعلانيتك. فهذه الصفة يا فتى بحر ليس له شطآن. بحر تجرى منه السواقى والأنهار، وتسرى فيه المراكب إلى معادن الغنيمة.

المحبة فى الله

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصوفية فى موقع الطريقة البرهانية، ومن أراد كتاب الغنية للسيد عبد القادر الجيلانى فيقصد موقع التــراث.

أسرة التحرير