الحج

يا أيها الناس حج البيت للسارى       وميت القلب لا تشجيه أوتارى

هذه الدرة من النظم الفريد لسيدى فخر الدين البيت الأول من قصيدة الحج الثالثة والثلاثون من ديوان شراب الوصل، وهذا البيت يتكون من ستة وأربعين حرفا ويحدثنا فيه شيخنا عن الحج. ومن الغريب أن هذه القصيدة بتاريخ الرابع عشر من ذى الحجة والتساؤل هنا لماذا يحدثنا الشيخ عن الحج بعد انتهاء مراسم الحج بل بعد انتهاء العيد الكبير؟

وهنا وكأنه يقول لنا أنا لا أحدثكم عن حج الفريضة فموعدها قد انتهى ولكنه يعلمنا أن هناك حج من نوع آخر وهذا الحج غير مقيد بزمن، فكل الأزمنة مرحبة به، فاتحة أبوابها إليه، فهو حج القلوب الحية.

وبمناسبة أن هذا البيت يتألف من ستة وأربعون حرفا ووجدنا أنه مناسب لرقم الآية بسورة الحج والتى يحثنا المولى تبارك وتعالى إلى السير بالذكر فى أرض البدن حتى تحيا به القلوب، ننوه بعدد حروف البيت حتى لا ننسى رقم الآية التى تقول ﴿أفلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور﴾ الآية 46 من سورة الحج.

ومفهوم هذه الآية الكريمة شرعاً، أن المولى تبارك وتعالى يقول للذين ينكرون العذاب الموعود ﴿أفلم يسيروا فى الأرض﴾ فيروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم ويشاهدوا آثارهم الدارسة وقصورهم الخالية وديارهم الخربة فيعتبروا، وهو حث لهم على السفر ليشاهدوا ذلك ﴿فتكون لهم﴾ بسبب ما شاهدوه من مظان الاعتبار، ومواطن الاستبصار ﴿قلوب يعقلون بها﴾ ما يجب أن يعقل من التوحيد ونحوه ﴿أو آذان يسمعون بها﴾ ما يحب أن يسمع من الوحى أو من أخبار الأمم السابقة التى أهلكها الله بسبب إنكارها و كفرها ﴿إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور﴾ فالأبصار الحسية لا تعمى ولكن تعمى القلوب عن التفكر والاعتبار.

ويقول ابن كثير ليس العمى عمى البصر ولكن العمى عمى البصيرة وهذا كله كلام طيب لا بأس به، ولكن هل توقفت معانى كتاب الله عند هذا الحد أو عند حد معين؟ بالطبع لا يعقل بهذا عقل، فكلام الله غنى بالمعانى، فهيا بنا نطلع على بعض ما رآه السيد ابن عجيبة من إشارات فى هذه الآية فيقول :

إن عمى القلوب هو انطماس البصيرة وعلامة انطماسها: إرسال الجوارح فى المعاصى والغفلة عن الله، والوقيعة فى أولياء الله، وعلامة فتحها: المسارعة فى طاعة الله والاجتهاد فى معرفة الله بصحبة أولياء الله والإعراض عن الدنيا وأهلها، والأنس بالله والغيبة عن كل ما سواه، وأن البصر والبصيرة متقابلان، فالبصر لا يبصر إلا الأشياء الحسية، والبصيرة لا تبصر إلا المعانى القديمة الأزلية.

ومن دقائق الإشارات أن سيدى فخر الدين أرشدنا إلى أنه لكى يفتح عيون القلب ينبغى علينا غلق عيون الحس ففى الحضرة أو المراقبة نجد المريد يغمض العينين، وفى ذلك يقول ساداتنا العارفين بالله الموصلين إليه:

وَاغْضُضْ عُيُونَكَ وَانْظُرَنْ بِالْقَلْبِ فىِ        مَعْنَىَ الْجَلاَلَةِ وَاسْتَقِمْ وَاسْتَغْنِمِ

وقالوا أيضاً:

وَطَهِّرِ الْقَلْبَ وَادْخُلْ بِالسَّكِينَةِ فىِ           حَظِيرَةِ الذِّكْرِ كَىْ تَحْظَىَ بِإِمْدَادِ

وَغَمِّضِ الْعَيْنِ حَالَ الذِّكْرِ مِنْ أَدَبٍ          وَاطْفِ السِّرَاجَ وَشَاهِدْ سِرَّ أَوْرَادِ

فكان عندهم النظر بالقلب وهو المشار إليه بعيون القلب، ومن الأدب أيضاً حال الذكر تغميض العينين فى الحضرة وهو المشار إليه بعيون الحس، ونرجع إلى كلام سيدى ابن عجيبة بقوله:

وإذا انفتحت البصيرة استواى نورها على نور البصر، فلا يرى العبد إلا أسرار المعانى الأزلية. وعلاج هذه البصيرة لا يكون إلا على يد طبيب ماهر عارف بالله، فلا يزال يعالجها بمرود التوحيد فيكحلها بتوحيد الأفعال ثم توحيد الصفات ثم توحيد الذات حتى تنفتح فيشهد قرب الحق من العبد فى توحيد الصفات، ثم يشهد عدمه لوجود الحق فى توحيد الذات وهذا كله لا يكون إلا على يد شيخ خبير عارف بالله تعالى يحيى قلوبنا فتسير إلى كعبة الحق شوقا وتقربا إلى الله تعالى فى قلب عارف بالله ملئ قلبه بنور الله تعالى لتجليه عليه على الدوام فتنصلح به الآذان فتسمع نداء الحق وتستجيب لأوامره وتسمع لكلام الصالحين والأولياء وإرشاداتهم، وهذا هو العلاج الحقيقى على الدوام فى كل زمان، وهذا هو السير إلى الله. نفعنا الله به وبنظمه وصل الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

وللحديث بقية ...

محمد مقبول