من التابعين: إبراهيم بن أدهم 2

العالم الزاهد المحدث

كنا قد وقفنا فى العدد السابق على التابعى الجليل إبراهيم ابن أدهم العالم الزاهد المحدث، وعلى كيفية بدء حاله وتحول حياته من قصور أهله الملوك إلى حب الله وترك الدنيا، ثم تعرفنا قليلا على سياحته فى الأرض وأحواله، واليوم مازلنا فى رحابه نتعرف قليلا إلى بعض الأحداث والأقوال التى اشتهر بها:

علمه وروايته عن الملائكة وعن الناس

تعمق إبراهيم فى دراسة القرآن الكريم وغاص فى أعماق الدين الحنيف فاستخرج جواهر حقائقه الآخروية والدنيوية ومثله الإنسانية السامية وفقه الحديث الشريف ورواه، وتتبع سيرة الرسول الكريم وسلوك آله وأصحابه فنهج نهجهم وتثقف ثقافة عربية واسعة فكان بليغاً فصيحاً، ورجع إلى أصالته العربية، فعمل بمناقبها ومآثرها الخلقية، فكان رجلاً فذاً بين الرجال، كان قوى الإيمان بالله، فقد قال صاحبه سفيان الثورى حينما سئل عنه: ’إن إبراهيم بن أدهم يشبه إبراهيم خليل الرحمن، ولو كان من صحابة رسول الله لكان رجلاً فاضلاً له سرائر‘.

وهو محدث وراوية ثقة، وثقه النسائى والدار قطنى وخرج له البخارى والترمذى وروى عن جماعة من التابعين وتابعى التابعين، منهم يزيد الرقاشى وعمرو بن عبد الله سبيعى، ويحيى بن سعد الأنصارى وروى عنه جماعة من المحدثين منهم شقيق البلخى وبقية بن الوليد و إبراهيم بن بشار وغيرهم.

وقد كان عالماً جليلاً وعاملاً مجداً متواضعاً محققاً قوله: "اطلبوا العلم للعمل فإن أكثر الناس قد غلطوا حتى صار علمهم كالجبال وعملهم كالذر" وقوله: "ما صدق الله عبد أحب الشهرة بعلم أو عمل أو كرم".

حكى عن ابراهيم بن ادهم انه كان بمكة، فاشترى من رجل تمرا، فاذا هو بتمرتين فى الارض بين رجليه، ظن انهما من الذى اشتراه فرفعهما واكلهما، وخرج الى بيت المقدس وفيه قبة تسمى الصخرة فدخلها، وسكن فيها يوما وكان الرسم ان يخرج منها من كان فيها لتخلو للملائكة، فاخرج بعد العصر من كان فيها، فانحجب ابراهيم ولم يروه، فبقى الليلة فيها، ودخل الملائكة فقالوا: ههنا حس آدمى وريحه. قال واحد منهم: هو ابراهيم بن ادهم زاهد خراسان. وقال آخر الذى يصعد منه كل يوم الى السماء عمل متقبل؟ قال: نعم، غير ان طاعته موقوفة منذ سنة، ولم تستجب دعوته من سنة، لمكان التمرتين عليه. قال: ثم نزلت الملائكة، واشتغلوا بالعبادة حتى طلع الفجر، ورجع الخادم وفتح القبة، وخرج ابراهيم وتوجه الى مكة، وجاء الى باب ذلك الحانوت، فاذا هو بفتى يبيع التمر، فسلم عليه وقال: كان ههنا شيخ فى العام الاول، فاخبره انه كان والدى فارق الدنيا، فقص ابراهيم قصة التمرتين، فقال الفتى: جعلتك فى حل من نصيبى، وانت اعلم فى نصيب اختى ووالدتى. قال: فاين اختك ووالدتك؟ قال: هما فى الدار. فجاء ابراهيم الى الباب وقرعه، فخرجت عجوز متكئة على عصاها، فسلم ابراهيم عليها واخبرها القصة، قالت: جعلتك فى حل من نصيبى. وكذا ابنتها، فخرج ابراهيم وتوجه الى بيت المقدس، ودخل القبة فدخلت الملائكة، وقالوا: هو ابراهيم وكان لا تستجاب دعوته منذ سنة، غير انه اسقط ما عليه من التمرتين، فقبل الله ماكان موقوفا من طاعته، واستجاب دعوته، واعاده الى درجته، فبكى ابراهيم فرحا، وكان بعد ذلك لايفطر الا فى كل سبعة ايام بطعام يعلم انه حلال.

وروى اللالكائى أيضا عن إبراهيم بن أدهم قال: تبعت جنازة بالساحل فقلت: بارك الله لى فى الموت، فقال قائل من السرير: وما بعد الموت، قال إبراهيم: فدخل على منه رعب حتى ما قدرت أحمل قائمة السرير، فدفن الميت وانصرفوا، وقعدت عند القبر مفكرا فى القائل من السرير وما بعد الموت، فغلبتنى عيناى على ركبتى، فإذا أنا بشخص من القبر أحسن الناس وجها وأطيبهم ريحا وأنقاهم ثيابا وهو يقول: يا إبراهيم، قلت: لبيك فمن أنت يرحمك الله؟ قال: أنا القائل من السرير وما بعد الموت، قلت: فبالذى خلق الحبة وبرأ النسمة وتردى بالعظمة إلا قلت لى من أنت، فقال: أنا السُنَّة أكون لصاحبى فى الدنيا حافظا وعليه رقيبا وفى القبر نورا ومؤنسا وفى القيامة سائقا وقائدا إلى الجنة. نقول: وهذا الخبر موافق للخبر الثابت عن النبى أن عمل ابن آدم يأتيه على صورة شخص فى القبر على ما مضى.

وعن أبى يوسف الغولى قال دخلت على إبراهيم بن أدهم بالشام فقال لى: قد رأيت اليوم عجبا. قلت: وماذا قال؟ قال: وقفت على قبر من هذه المقابر فانشق لى عن شيخ خضيب، فقال لى: يا إبراهيم سل! فإن الله أحيانى من أجلك. قلت: ما فعل الله بك؟ قال: لقيت الله بعمل قبيح، فقال لى: لقد غفرت لك بثلاث: لقيتنى وأنت تحب من أحبنى، ولقيتنى وليس فى صدرك مثقال ذرة من شراب حرام، ولقيتنى وأنت خضيب وأنا أستحيى من شيبة الخضيب أن أعذبها بالنار. قال: والتأم القبر على الشيخ. ثم قال إبراهيم: ويحك يا غولى عامل الله يريك العجائب.

ويذكر الغزالى فى الإحياء قصة بطلب إبراهيم بن أدهم المعرفة والحكمة من راهب نصرانى؛ عن بقية بن الوليد يقول سمعت ابراهيم بن أدهم يقول: تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان دخلت عليه فى صومعته فقلت له: يا سمعان منذ كم أنت فى صومعتك هذه؟ قال: منذ سبعين سنة. قلت: ما طعمك؟ قال: يا حنيفى وما دعاك إلى هذا؟ قلت: أحببت أن أعلم؟ قال: فى كل ليلة حمصة. قلت: فما الذى يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة؟ قال: ترى الذين بحذائك؟ قلت: نعم. قال: إنهم يأتوننى فى كل سنة يوما واحدا، فيزينون صومعتى ويطوفون حولها يعظموننى بذلك، وكلما تثاقلت نفسى عن العبادة ذكرتها تلك الساعة، فأنا أحتمل جهد سنة لعز ساعة، فاحتمل يا حنيفى جهد ساعة لعز الأبد. فوقر فى قلبى المعرفة. فقال: أزيدك؟ قلت: نعم. قال: انزل عن الصومعة. فنزلت، فأدلى إلى ركوة فيها عشرون حمصة، فقال لى: أدخل الدير، فقد رأوا ما أدليت إليك. فلما دخلت الدير، اجتمعت النصارى فقالوا: يا حنيفى ما الذى أدلى إليك الشيخ؟ قلت: من قوته. قالوا: وما تصنع به، نحن أحق؛ ساوم. قلت: عشرين دينارا. فأعطونى عشرين دينارا، فرجعت إلى الشيخ، فقال: أخطأت، لو ساومتهم عشرين ألفا لأعطوك، هذا عز من لا يعبده، فانظر كيف تكون بعز من تعبده، يا حنيفى أقبل على ربك.

وعن ابراهيم بن ادهم قال دخلت جبل لبنان، فاذا انا بشاب قائم وهو يقول: يا من شوقى اليه، وقلبى محب له، ونفسى له خادم، وكلى فناء فى ارادتك ومشيئتك، فانت ولا غيرك؛ متى تنجينى من هذه العذرة؟ قلت: رحمك الله ما علامة حب الله؟ قال: اشتهاء لقائه. قلت: فما علامة المشتاق؟ قال: لا له قرار ولا سكون فى ليل ولا نهار من شوقه الى ربه. قلت: فما علامة الفانى؟ قال: لا يعرف الصديق من العدو، ولا الحلو من المر، من فنائه عن رسمه ونفسه وجسمه. قلت: فما علامة الخادم؟ قال: انه يرفع قلبه وجوارحه وطمعه من ثواب الله.

من أقواله

  • قال ابراهيم بن ادهم : لو يعلم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.

  • عن سلم الخواص قال سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: أصحاب الحديث بهم تدفع البلوى عن الناس أو قال الآفات.

  • حدثنا محمد بن حمير حدثنا إبراهيم بن أدهم قال: من حمل شواذ العلماء حمل شرا كثيرا. والمعنى من حمل علمه من الخارجين على إجماع الأمة.

  • حدثنا أبو محمد إسماعيل بن عبد الجبار العسقلانى قال سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: من صافح صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام.

  • حدثنى رشدين بن سعد عن إبراهيم بن أدهم قال: يأتى على الناس زمان يكون أعز الأشياء ثلاثه أخ يستأنس إليه ودرهم من حلال أو سنة يعمل بها.

  • وقال إبراهيم بن أدهم : التقوى أن لا يجد الخلق فى لسانك عيباً، ولا الملائكة فى أفعالك عيباً، ولا ملك العرش فى سرك عيباً.

  • عن بقية عن إبراهيم ابن أدهم قال: ما يسأل السائلون الحق أفضل من أن يقولوا ما شاء الله.

  • يروى عنه بقية أنه روى عن مقاتل بن حيان، عن شهر بن حوشب قال : قلت لأم سلمة: ما كان أكثر دعاء النبى ، إذا كان عندك؟ قالت: "كان يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك) قلت: أتخشى علينا؟ فقال: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل، ما شاء أزاغ، وما شاء أقام)"

  • حدثنا ابراهيم العكاشى قال سمعت ابراهيم بن ادهم رحمه الله يحدث الأوزاعى قال: قال مالك بن دينار: من عرف الله تعالى لفى شغل شاغل الويل، وكل الويل لمن ذهب عمره فى الدنيا باطلا.

  • وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له: ما بالنا ندعو فلا نجاب؟ قال: لأنه دعاكم فلم تجيبوه، ثم قرأ: ﴿والله يدعوا إلى دار السلام﴾ يونس 25 ﴿ويستجيب الذين آمنوا﴾ الشورى 26، وحكى أيضا إنّ إبراهيم بن أدهم قيل له: ما بالنا ندعوا الله فلا يستجيب لنا؟ قال: لأنّكم عرفتم الله فلم تطيعوه وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنّته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا بما فيه، وأكلتم نعمة الله فلم تؤدّوا شكرها، وعرفتم الجنّة فلم تطلبوها وعرفتم النّار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه وعرفتم الموت فلم تستعدّوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس.

  • قال رجل لإبراهيم بن أدهَمَ : الفقراء إذا أُعْطُوا شَكَرُوا وإذا مُنعوا صَبَروا، فقال إبراهيم: هذه أخلاقُ الكلاب، ولكن القومَ إذا مُنِعوا شكروا وإذا أُعْطُوا آثروا.

  • قال إبراهيم بن أدهم : خرج الناس من الدنيا ولم يذوقوا شيئاً، قيل: وما فاتهم؟ قال: حلاوة المعرفة.

  • عن إبراهيم بن أدهم قال: لما أنزل الله ﴿خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين﴾ قال رسول الله : (أمرت أن آخذ العفو من أخلاق الناس).

وللحديث بقية ،،،

سمير جمال

 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصحابة فى موقع الأحباب

أسرة التحرير