يهاجر عندى

يهاجر عندى من إلى الله وجهه       ومات مريد الغير من غير هجرة

لقد هاجر من هاجر مع سيدنا رسول الله من الصحابة الكرام ونالوا ما نالوه من الأجر والثواب والرقى والنصرة، فهل لمسلمى الأزمنة المتعاقبة بعد زمن الرسول الحبيب من هجرة تتألف بها القلوب وتنتصر على الشر؟

نعم، فمن حُكم الحَكَم العدل أن تكون لهم هجرة، وهذا البيت الذى هو من درر الإمام فخر الدين يوضح لنا فيما يوضح معنى آخر يسموا بنا كما سما الأوائل من الصحابة بهجرتهم مع الحبيب ولحوقهم به فى دار الهجرة، دار الإيمان وتأليف القلوب. يقول :

يهاجر عندى من إلى الله وجهه، لا عجب أن يقول الإمام (يهاجر عندى) فهو القائل فى القصيدة الخامسة عشر فى البيت الأربعون:

كل المحارم قد هجرت ومضجعى      وسعيت للمولى على إحرامى

أى أنه ترك كل ما حرم الله ومعهم مضجعه، وتقول لنا الآية الكريمة ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ السجدة 16، وهذا هو وصف المؤمنين الذين لا يستكبرون فى الآية السابقة لهذه الآية والتى تقول ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ السجدة 15، فانظر يا أخى كيف يكون تعظيمهم لله عز وجل، تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يقول ابن عجيبه عن المضاجع الحسية إلى العبادة الحسية وهم العباد والزهاد من الصالحين ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ السجدة 17، فأصحاب العبادة الحسية لا تعلم نفس ما أخفى لهم، من نعيم القصور، والحور، والولدان، وغير ذلك.

وقوم تتجافى قلوبهم عن مضاجع نوم الغفلة إلى حال الانتباه واليقظة وعن مضاجع الرغبة إلى حال العفة ... فهؤلاء على صلاتهم دائمون، وفى حال نومهم عابدون، وعلى كل حال إلى ربهم سائرون، وفى معاريج بحر عرفانهم سائحون، فلا تعلم نفس ما أخفى لهؤلاء من دوام النظرة والعكوف فى الحضرة ... فعبادة هؤلاء قلبية سرية خفية عن الكرام الكاتبين، بين فكرة وشهود، وعبرة واستبصار، الذرة من أعمالهم تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح، وقد كان أبو الدرداء يقول: 'تفكر ساعة خير من قيام ليلة'، وعن ابن عباس مثله، وهذا تفكر الاعتبار، أما تفكر الشهود والاستبصار، فكل ساعة أفضل من ألف سنة، ففى الخبر أن رسول الله يقول: (تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة) رواه المفسرون فى البحر المديد والألوسى والرازى والقرطبى وغيره، وعن عمرو بن قيس الملائى قال: 'بلغنى أن تفكر ساعة خير من عمل دهر من الدهر' وأخرج الديلمى مرفوعاً عن أنس : (تفكر ساعة فى اختلاف الليل والنهار خير من عبادة ثمانين سنة). ومع ذلك لا يخلون أوقاتهم من العبادة الحسية، شكرًا وقيامًا بآداب العبودية وهى فى حقهم كمال. وقد ورد فى الخبر (إن أهل الجنة بينما هم فى نعيم، إذ سطع عليهم نور من فوق، أضاءت منه منازلهم، كما تضئ الشمس لأهل الدنيا، فينظرون إلى رجال من فوقهم، أهل عليين، يرونهم كما يُرى الكوكب الدرى فى أفق السماء، وقد فضلوا عليهم فى الأنوار والنعم، كما فضل القمر على سائر النجم، فينظرون إليهم، يطيرون على نجب، تسرح بهم فى الهواء، يزورون ذا الجلال والإكرام، فينادون هؤلاء: يا إخواننا، ما انصفتمونا، كنا نصلى كما تصلون، ونصوم كما تصومون، فما هذا الذى فضلتمونا به؟ فإذا النداء من قبل الله تعالى: كانوا يجوعون حين تشبعون، ويعطشون حين تروون، ويعرون حين تكسون، ويذكرون حين تسكنون، ويبكون حين تضحكون، ويقومون حين تنامون، ويخافون حين تأمنون، فلذلك فضلوا عليكم اليوم). وقيل المراد بقرة الأعين: النظر إلى وجه الله العظيم. فالإمام فخر الدين عندما يقول (يهاجر عندى من إلى الله وجهه) فهذه العندية هى المنزلة العالية التى أعدها الله تعالى لهؤلاء، فكن منشغلاً بالله عز وجل لا يشغلك عنه شاغل، متوجه إليه بوجهك بالتسليم كما أخبرنا المولى تبارك وتعالى ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ البقرة 112، وآية أخرى تقول ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ النساء 125، وآية أخرى تقول ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ لقمان 22، فمن هاجر إلى شيخ التربية الوارث لعلوم المصطفى فهو مهاجر إلى الله، والشيخ هو الذى يعلمه، ولقد قال تبارك وتعالى ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ الحشر 7، والرسول الكريم يقول لنا (العلماء ورثة الأنبياء) رواه أبو داود فى سننه والترمذى فى سننه وابن حبان فى صحيحه والبيهقى فى شعب الإيمان، وهو القائل أيضًا (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى عضوا عليها بالنواجز) رواه الإمام أحمد فى مسنده وابن ماجه فى سننه وأبو داود فى سننه، وهو القائل (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) رواه أبو داود فى سننه، فالذى اتبع شيخاً عارفاً بالدين الحق، ما اتبع إلا هدى الرسول الحبيب وما كان وجهه إلا إلى الله عز وجل.

ثم يقول الإمام ومات مريد الغير من غير هجرة، والغير فى اللغة تأتى بمعنى السوى، وعندما يقول الشيخ مريدى، يخبرنا عنه قائلاً فى شطر بيت: (فإن مريدى من أراد إرادتى)، وما هى إرادة شيخنا، لقد أخبرنا عنها فى قصائده قائلاً:

مرادى عند الله يلقى إجابة      لأن مراد الله عندى سلوتى

فمراد الإمام هو مراد الله عز وجل، لذلك يقول تبارك وتعالى مخبرًا عن أوليائه ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ الكهف 17، أى أن هدايتك على يد وليًا يرشدك هى هداية من الله عز وجل.

فمريد شيخ التربية، مريد الله عز وجل، ذاكر لله عز وجل، وأما مريد الغير (غير الله) فهو الذى لا يهتدى إلى ولىّ الله ليرشده، فهذا هو مريد الغير فقد مات أى غفل عن ذكر الله مصداقاً لقول الحبيب (مَثَلُ الَّذِى يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِى لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَىِّ وَالْمَيِّتِ) رواه البخارى فى صحيحه، وأما فحوى الهجرة ومضمونه، فنرى قول الحق فى كتاب الله فى سورة النساء الآية 97 ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِى أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾.

فظاهر الآية يقول الإمام البيضاوى : فى الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن فيه الرجل من إقامة دينه، وهذا واجب وحق وصحيح ولكن معانى كتاب الله عز وجل لا تنتهى، فما هو المعنى الإشارى والباطن، يقول سيدى بن عجيبة فى تفسير الآية: كل من لم يتغلغل فى علم الباطن مات ظالمًا لنفسه، أى باخساً لها لما فوتها من لذيذ الشهود، ومعرفة الملك المعبود، ولا يخلو باطنه من الإصرار على أمراض القلوب، التى هى من أكبر الذنوب، فإذا توفته الملائكة على هذه الحالة، قالت له فيم كنت حتى لم تهاجر إلى من يطهرك من العيوب، ويوصلك إلى حضرة علام الغيوب؟ فيقول: كنت من المستضعفين فى علم اليقين، ولم أقدر على صحبة أهل عين اليقين وحق اليقين، حبسنى عنهم حب الأوطان، ومرافقة النساء والولدان. فيقال له: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجر فيها إلى من يخلصك من الحجاب، وينفى عنك الشك والارتياب؟ فلا جرم أن مأواه سجن الأكوان، وحرمان الشهود والعيان، إلا من أقر بضعفه، واضطر إلى مولاه فى تخليصه من نفسه، فعسى ربه أن يعطف عليه، فيوصله إلى عارف من أوليائه، حتى يلتحق بأحبابه وأصفيائه، وما ذلك على الله بعزيز.

فبادر يا أخى بالتعرف على واحد من أوليائه فيعرفك كيف تهاجر إلى الله فتهجر الأخلاق الذميمة إلى الأخلاق الحميدة، وتهاجر من الباطل إلى الحق، ومن عالم الانشغال بالدنيا الفانية إلى عالم الآخرة الباقى، ومن الركون لصفاتك إلى الدخول فى صفات الله، ومن الركون للأكوان إلى الانشغال بمكون الأكوان، فعندية هؤلاء مع ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ النساء 69، هؤلاء ﴿فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ القمر 55.

جمعنا الله معهم فى الدنيا والآخره وصلى الله على سيدنا محمد النبى العظيم وعلى آله وصحبه وسلم.

محمد مقبول