فى رحاب الصحابيات 3

 

نعود اليوم لنكمل حديثنا عن السيرة العطرة التى بدءناها مع صحابيات النبى باستعراض مبسط عن طلبهن لمرضاة الله من خلال مراعاة أزواجهن وأولادهن ومن خلال جهادهن فى الحرب والسلم.

وضع الإسلام أيدينا على الواجبات التى يلزم كل طرف أن يقوم بها، والحقوق التى له فى مقابل أداء هذا الواجب، وصدق الله إذ يقول: ﴿وَلَهُنً مِثْلُ الذي عَلَيْهِن بِالْمَعْرُوف وَلِلرِجَال عَلَيْهِن دَرَجَة وَاللهُ عَزيز حَكِيم﴾ البقرة 2: 228، وعن الحصين بن محصن أن عمة له أتت النبى فى حاجة ففرغت من حاجتها، فقال لها النبى : (أذات زوج أنت)؟ قالت: نعم. قال: (كيف أنت له)؟ قالت: ما آلوه - أى ما أقصر فى حق له - إلا ما عجزت عنه. قال: (فانظرى أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك). الإمام أحمد، والحديث غنى عن التعليق، وهو يشير إلى أن الباب الذي ستلج منه المرأة المسلمة إلى الجنة هو ما تفعله فى سبيل رضا زوجها ابتغاء مرضاة الله تبارك وتعالى. وعلى سبيل التأكيد لعظم حق الزوج على زوجته جعل النبى طاعتها لزوجها فى غير معصية الله فى سياق واحد مع صلاتها وصيامها وسائر طاعاتها، فقال: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها ادخلى الجنة من أى الأبواب شئت). الإمام أحمد.

وقد أشارت أحاديث أخرى إلى بعض تلك الحقوق على سبيل التفصيل، ومن ذلك ما أخرجه البزار عن ابن عباس أن امرأة من خثعم أتت رسول الله ، فقالت: يا رسول الله، أخبرنى ما حق الزوج على الزوجة؛ فإنى امرأة أيم، فإن استطعت وإلا جلست أيما. قال: (فإن حق الزوج على زوجته إن سألها نفسها وهى على ظهر بعير لا تمنعه، ومن حق الزوج على الزوجة أن لا تصوم تطوعا، فإن فعلت جاعت وعطشت ولا يقبل منها، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة الرحمة وملائكة العذاب حتى ترجع، قالت لا جرم، لا أتزوج أبدا. الهيثمى فى مجمع الزوائد. فهذه بعض حقوق الزوج على زوجته ذكرها الرسول الكريم على سبيل الحدود وهذه صحابية خافت ألا تكون لها طاقة بأداء حقوق زوجها. وقد لخص المصطفى ذلك كله فقال: (خير النساء التى تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه فى نفسها ولا مالها بما يكره). النسائى والإمام أحمد.

وفى مقابل تلك الحقوق فقد فزن بالمقامات العلية ونذكركم بحديث أسماء بنت يزيد الأنصارية أنها أتت رسول الله ، فقالت: يا رسول الله: إن الله بعثك للرجال والنساء، فآمنا بك واتبعناك، ونحن معاشر النساء مقصورات مخدرات - ساكنات الخدور وهى المساكن المستورة - قواعد بيوت، ومواضع شهوات الرجال، وحاملات أولادهم، وإن الرجال فضلوا بالجماعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم، وربينا لهم أولادهم، أفنشاركهم فى الأجر يا رسول الله، فالتفت رسول الله عنها بوجهه إلى أصحابه، وقال: (هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالا عن دينها من هذه)؟ قالوا: لا يا رسول الله. فقال: (انصرفى يا أسماء وأعلمى من وراءك من النساء: إن حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته، يعدل كل ما ذكرت للرجال). البيهقى فى شعب الإيمان. فحدد النبى المصطفى فى هذا الحديث الشريف الكيفية التى ترقى بها المرأة إلى أرفع الدرجات وأسمى المراتب. بل إن رسول الله قد حذر من خلاف ذلك فعن معاذ ابن جبل قال: قال رسول الله : (لا تؤذى امرأة زوجها فى الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه - قاتلك الله - فإنما هو عندك دخيل، يوشك أن يفارقك إلينا). الترمذى وابن ماجه.

وقد وعت الصحابيات هذه الدروس وسارت على هديها فصدرت عنهن نماذج تحتذى أشرنا إلى بعضها سابقا وإليكم أيضا بعضها: فهذه قصة امرأة الحطاب التى تعد نموذجا فى حسن معاشرة المرأة لزوجها، ويتضح ذلك من خلال كلامها وأسلوب تعاملها معه، فهي تقول: إن زوجى إذا خرج يحتطب - يجمع الحطب من الجبل ليبيعه وينتفع بثمنه - أحس بالعناء الذي لقيه فى سبيل رزقنا، وأحس بحرارة عطشه فى الجبل تكاد تحرق حلقى، فأعد له الماء البارد حتى إذا ما قدم وجده، وقد نسقت متاعى وأعددت له طعامه، ثم وقفت أنتظره فى أحسن ثيابى، فإذا ما ولج الباب (أى دخل) استقبلته كما تستقبل العروس زوجها الذي عشقته، مسلمة نفسى إليه، فإن أراد الراحة أعنته عليها، وإن أرادنى كنت بين ذراعيه كالطفلة الصغيرة يتلهى بها). من كتاب الجبرى.

وعن أم المؤمنين عائشة أنها كانت ترجلُ رسول الله - أى تسرح له شعره وتزينه - وهو حينئذ مجاور فى المسجد، يدنى لها رأسه وهى فى حجرتها. البخارى. وعنها أيضا قالت: كنت أطيب رسول الله  لإحرامه حين يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت. البخارى ومسلم.

وعن ابن أعبد قال: قال على : يا بن أعبد، ألا أخبرك عنى وعن فاطمة؟ كانت ابنة رسول الله وأكرم أهله عليه، وكانت زوجتى؛ فجرت بالرحى حتى أثرت الرحى بيدها، واستقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها، وقمَّت البيت - أى كنسته - حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دنست ثيابها، وأصابها من ذلك ضر. وعن عطاء بن أبى رباح قال: إن كانت فاطمة ابنة رسول الله لتعجن، وإن قصتها - مقدم شعرها - لتضرب الأرض والجفنة. من كتاب صفوة الصفوة.

وعن أسماء بنت أبى بكر قالت: تزوجنى الزبير وماله فى الأرض من مال ولا مملوك ولا شئ غير فرسه. قالت: فكنت أخدمه خدمة البيت وأعلف فرسه وأكفيه مؤنته، وأسوسه، وأدق النوى لناضحه، وأعلفه وأستقى الماء وأخرز غربه - أى أملأ دلوه - وأعجن ... وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التى أقطعه رسول الله ، وهى على ثلث فرسخ ...".

فإذا كانت السيدة فاطمة بنت رسول الله ، والسيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق لم تمنع إحداهما مكانتها من أبيها، ولا شرفها فى قومها أن تقوم بخدمة زوجها خدمة شاملة شاقة لقلة الإمكانات المتاحة، فما الذى يحملها على أن تقر عين زوجها بخدمتها له فى بيته إلا أنها كانت بالفعل تبغى مرضاة ربها من خلال رضا زوجها عنها.

بل إن الصحابيات قد اشتهرن بالحكمة ومساعدة ازواجهن بالرأى والمشورة الصادقة ومن أروع النماذج فى هذا المجال أم المؤمنين خديجة ، والتي كانت ملاذا آمنا لرسول الله ، فقامت قبل الدعوة وتبليغ الوحى بمساعدة النبى على التعبد بغار حراء بما كانت تزوده به مما يحتاج إليه، وحين جاءه المَلَكُ، وجاء يرجف فؤاده قائلاً لها: لقد خشيت على نفسي، قالت له كلمتها المشهورة: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق. وأخذت بيده إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وحكى له ما حدث، فبشره بأن هذا هو الناموس - الوحى - الذي كان يأتى إلى موسى، وبشره بأنه سيكون نبى هذه الأمة، وبادرت السيدة خديجة قبل غيرها بالإيمان به، فكانت أول من آمن من الرجال والنساء على السواء. وبذلت السيدة خديجة من مالها ونفسها في صالح الدعوة الكثير والكثير، وتحملت الأذى في سبيلها، فحُبسِت مع زوجها رسول الله في شعب أبي طالب ثلاث سنوات كاملة حتى أكلوا أوراق الشجر من الجوع والجهد، وظلت تنافح عن رسول الله  وتشد من  أزره، فكانت نعم المعين والسند. وكانت تخفف عن النبى ما يسمع مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له، تثبته وتخفف عليه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس.

ويدل على ذلك أيضا ما أشارت به السيدة أم سلمهّ فى صلح الحديبية، حين وقَّعَ المسلمون الصلح بينهم وبين الكفار، ودعا النبى أصحابه إلى نحر هديهم وحلق رؤسهم، فلم ينتبه إلى هذا الأمر أحد، ودخل رسول الله  على السيدة أم سلمة حزينا، يقول لها: (هلك الناس، لقد أمرتهم بأمر فلم يأتمروا). فأشارت عليه بأن يخرج إلى الناس، ويقوم أمامهم بحلق شعره ونحر هديه، ولا يتكلم أمامهم بشيئ. وأخذ النبى بمشورتها، فبادر الناس إلى الحلق والذبح حين رأوا رسول الله فعل ذلك، وهكذا بمشاركة هذه الزوجة الصالحة ومشورتها أقال الله المسلمين من عثرتهم، وفرج عنهم كربتهم. وهكذا علمتنا الصحابيات كيف ينبغى أن تكون الزوجة المسلمة عونا لزوجها على الخير، وسندا له على تحمل مسئولياته فى الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وذلك حتى تشاركه فى الأجر، فإن من جهز غازيا فقد غزا.

وعن أنس بن مالك قال: مات ابن لأبى طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه. قال: فجاء فقربت له عشاء، فأكل وشرب. فقال: ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها. فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم، اللهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: فاحتسب ابنك. فانطلق حتى أتى رسول الله فأخبره بما كان، فقال رسول الله : (بارك الله لكما فى غابر ليلتكما) الإمام مسلم. وقد استجاب الله دعاء نبـيه، فولدت أم سليم من حملها فى تلك الليلة ولدا سماه النبى عبد الله، فكان من ذرية عبد الله هذا تسعة كلهم يحملون العلم والقرآن. فانظرى إلى حكمة هذه الصحابية وحرصها على زوجها وغرضاء ربها وكيف أثمر عملها هذا أبناءا وأحفادا صالحين.

والأمثلة كثيرة وكثيرة على وعى الصحابيات بهذا الفضل وحرصهن عليه، وننتقل منه إلى فضل آخر وهو رعايتهن لأولادهن:

فقد أورد ابن سعد فى الطبقات عن أم سليم قالت: آمنت برسول الله فجاء أبو أنس - وكان غائبا - فقال: أصبوت؟ فقالت: ما صبوتُ، ولكنى آمنت. وجعلت تلقن أنسا: قل: لا إله إلا الله. قل: أشهد أن محمداً رسول الله، ففعل، فقال لها أبوه: لا تفسدى على ابنى. فتقول: إنى لا أفسده. فخرج أبو أنس فلقيه عدو له فقتله. فقالت: لا جرم، لا أفطم أنسا حتى يدع الثدى، ولا أتزوج حتى يأمرنى أنس. وهذه المرأة الصالحة هى نفسها التى أخذت ولدها أنسا إلى النبى وهو ابن عشر سنين، فقالت: يا رسول الله إنه لم يبق رجل ولا امرأة من الأنصار إلا قد أتحفك بتحفة، وإنى لا أقدر على ما أتحفك به إلا ابنى هذا، فخذه فيخدمك ما بدا لك. الهيثمى فى مجمع الزوائد. وقالت يوما لرسول الله: يا رسول الله: أنس خادمك، ادع الله له، فقال: (اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته). البخارى ومسلم. لقد أحسنت هذه الصحابية صنعا مع ولدها منذ نعومة أظفاره، ووطأت له كل مصادر الخير؛ فحرصت على أن تلقنه الشهادة مع أول عهده بالنطق، ثم حرصت على أن يبلغ مبلغ الرجال، ويقوم بتزويج أمه بعد إذنه، وهو ما فعله أنس حين زوجها لأبى طلحة بعد أن أسلم، ثم اختارت له الصحبة الصالحة، فوهبته لرسول الله ليخدمه، ويرتشف من معينه النبوى، ثم طلبها الدعاء له من رسول الله ، وبهذا فتحت لولدها جميع أبواب الخير، وقد انعكس ذلك كله بالخير على هذا الصحابى الجليل، وامتد به العمر - استجابة لدعوة الرسول - ينشر الخير هو وذريته التى جاوزت المائة، وهو فضل يذكر فيشكر لهذه الأم، التى هى قدوة تحتذى.

وقد حرصت الصحابيات على تربية أبنائهن على حب الإسلام والدفاع عنه والاتصاف بالشجاعة فى مواجهة الخصوم، ولنستكمل ذلك فى العدد القادم ...

سامية السعيد