كتب السلف

لما كنا نحتاج باستمرار إلى كتب السابقين الغير محرفة، ولما كثر التحريف بفعل قلة غير مسئولة تقوم بإصدار الكتب المحرفة وطرحها فى الأسواق أو عرضها فى الشبكة العالمية للمعلومات، وسواء كان ذلك يتم بحسن نية أو بغيرها، فقد ظهرت الحاجة إلى البحث عن المصادر الصحيحة فى هذه الشبكة لكتب الصالحين وعلوم السابقين، ونحن نرشح لكم المواقع الصديقة التى تتحرى الدقة فيما تعرضه من كتب حتى تجدوا ما تحتاجونه من كتب وعلوم السابقين التى حاول البعض أن يدثروها ويغطوا عليها، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المغرضون، وسنقوم باستعراض بعض الكتب التى أستشهد بها الإمام فخر الدين فى مؤلفاته ودروسه من هذه المواقع، وللمزيد عن تلك المواقع زوروا صفحة المكتبة من الموقع الرئيسى.

 
 

أماجد العلماء

الحمد لله الذى اختص العلماء بوراثه الانبياء والتخلق باخلاقهم وجعلهم القدوة للكافة، فقد ضل كثير من الناس وابتعدوا عن هدى الحبيب عندما تركوا الاخذ عن اكابر علماء هذه الامة وادمنوا الاخذ من الأصاغر ففارقوا ما كان عليه سلفهم الصالح وما استقرت عليه أمة المسلمين عقودا وقرونا.

قال (لازال الناس بخير ما اخذوا العلم عن أكابرهم، فاذا اخذوا العلم عن أصاغرهم هلكوا)، وقال (إن هذا الدين علم، فانظروا عمن تاخذون)، وقال (إذا قبض العلماء اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسُئلوا فافتوا بغير علم فضلوا واضلوا، ولا حول ولا قوه الا بالله).

ويقول الإمام فخر الدين محمد عثمان عبده البرهانى :

ولإن سُئلتم ما الكتاب فانه     مما رواه أماجد الأعلام

 والمجمع عليه عند السادة العلماء ان الواحد منهم لا ينتقص كلام سيدنا رسول الله  ولا يحكم بوضعه ولا يضعفه ولايقدح فيه الا اذا كان فى يده سند من آيات كتاب الله او سنة نبيه عليه افضل الصلاة وأزكى السلام, ومنذ بداية القرن الأول الهجرى والثانى والثالث والرابع وحتى يومنا هذا تولى ساداتنا من اماجد العلماء رضوان الله عليهم الحفاظ على تراث ديننا الحنيف كما احب واراد فكانت الاحاديث الصحيحة والتفاسير الصادقة واحداث التاريخ من بداية الرسالة المحمدية مع تسلسلها التاريخى إلى يومنا هذا محفوظة ومسندة بكل أمانة وصدق، ومن هؤلاء السادة العلماء الأجلاء ومع سيرته الطيبة كان

 

الإمام أبو الحسين النورى

 

هو أبو الحسين أحمد بن محمد النورى البغدادى - المتوفى 295 للهجرة.. بغدادى المولد والمنشأ كان يعرف بابن البغوى قديماً وأصله من خراسان من قرية بين هَراة ومَرْو الرُّوذ، يقال لها بُغْشور؛ لذلك كان يعرف بابن البَغَوِى.

والنورى نسبة إلى نور، بليدة بين بخارى وسمرقند؛ ويقال: نسبة إلى نور كان بوجهه فنسب إليه، وقيل: لحسن وجهه.

صحب السرى السقطى الزاهد، قدم الشام وأخذ عن أحمد بن أبى الحوارى ومحمد بن على القصَّابَ، وكان أبو القاسم الجنيد يعظمه ويحترمه وكان من أقران الجنيد، كبير الشأن، توفى قبل الإمام الجنيد سنة خمس وتسعين ومائتين، وقيل: لما مات الجنيد أمر أن يدفن بجنبه.

وهو أعلم العراقيين بلطائف علم القوم، وكان من أَجَلّ مشايخ القومِ وعُلَمائهم، سئل عن أدب المعرفة، فقال: لا تصل إلى أول مبدأ حواشى المعرفة حتى تخوض إلى الله سبعة بحار من نيران، بحراً بعد بحر؛ فعسى بذلك يقع لك أوائل بدو علم المعرفة، وقال: إذا امتزجت نار التعظيم مع نور الهيبة فى السر هاجت ريح المحبة من حجب العطف على النار والنور، فيظهر فيه الاشتياق، وتتلاشى البشرية، فيتولد من ذلك المثابرة، ومن كلامه (التصوف ترك كل حظ للنفس) وأنشد لنفسه:

إلى الله أشكو طول شوقى وحيرتى             ووجدى بما طالت علىّ مطالبه

ومن قد برى جسمى، وكدر عيشى              ويمنعنى الماء الذى أنا شاربه

فياليت شعرى! ما الذى فيه راحتى؟!          وما آخر الأمر الذى أنا طالبه؟!

وقال فى قوله تعالى ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ البقرة 40: أوفوا بعهدى فى دار محبتى، على بساط خدمتى، بحفظ حرمتى، أوف بعهدكم فى دار نعمتى، على بساط قربتى، بسرور رؤيتى.

ومكث عشرين سنة يأخذ من بيته رغيفين فيخرج إلى سوقه فيتصدق بهما، ويدخل إلى مسجده فلا يزال يركع حتى يجىء وقت سوقه فيذهب إليه فيظن أهل سوقه أنه تغدى فى منزله، وأهل بيته أنه أخذ معه غداءه، وهو صائم.

وأخبرنا أبو نعيم قال: سمعت عمر البناء البغدادى بمكة يحكى قائلا: لما كانت محنة غلام الخليل ونسب الصوفية إلى الزندقة، أمر الخليفة بالقبض عليهم فأخذ فى جملة من أخذ (النورى) فى جماعة فأُدخلوا على الخليفة، فأمر بضرب أعناقهم، فتقدم النورى مبتدراً إلى السياف ليضرب عنقه، فقال له السياف: ما دعاك إلى الابتدار إلى القتل من بين أصحابك؟ فقال: آثرت حياتهم على حياتى هذه اللحظة، فتوقف السياف عن قتله ورفع أمره إلى الخليفة، فرد أمرهم إلى قاضى القضاة وكان يلى القضاء يومئذ إسماعيل بن إسحاق، فتقدم إليه النورى فسأله عن مسائل فى العبادات من الطهارة والصلاة فأجابه ثم قال له: وبعد هذا لله عباد يسمعون بالله وينطقون بالله ويصدرون بالله ويردون بالله ويأكلون بالله ويلبسون بالله، فلما سمع إسماعيل كلامه بكى بكاءً طويلاً ثم دخل على الخليفة فقال (إن كان هؤلاء القوم زنادقة فليس فى الأرض موحد) فأمر بتخليتهم.

وسأله السلطان يومئذ من أين يأكلون؟ فقال: لسنا نعرف الأسباب التى يستجلب بها الرزق، نحن قوم مدبرون، وقال لى: من وصل إلى وده أنس بقربه، ومن توصل بالوداد اصطفاه من بين العباد، وقال: حيل بينى وبين قلبى أربعين سنة ما اشتهيت شيئاً، ولا تمنيت شيئاً، ولا استحسنت شيئاً منذ عرفت ربى، وأنشد لنفسه:

ذكرت ولم أذكر حقيقة ذكره          ولكن بوادى الحق تبدو فأنطق

اذا ما بدا ذكر لذكر ذكرته               يغيبنى عن ذكر ذكرى فأغرق

وأغرق بالذكر الذى قد ذكرته       عن الذكر، بالذكر الذى هو أسبق

كانت فاطمة خادمة أبى حمزة والجنيد والنورى ولقبها زيتونة، فجاءت ذات يوم إلى النورى وكان يوماً بارداً شديد البرودة فوجدته فى المسجد وحده جالساً، فقالت له: أجيئك بشئ تأكله، فقال: نعم هاتى، قالت: ما تشتهى؟ قال: خبز ولبن، فأتت بخبز ولبن فى قدح ووضعته بين يديه، وكان بين يديه قصعة فيها نار وهو يقلب النار بيده ويستدفئ، فأخذ يأكل الخبز باللبن وكان إذا أخذ اللقمة يسيل اللبن على ذراعه فيغسل سواد الدخان من ذراعه، فقالت فى نفسها: يارب ما أقذر أوليائك، ما فيهم واحد نظيف الثوب والبدن، ثم خرجت وجلست عند دكان بالقرب من مسجد الخواص بالقرب من صاحب الشرطة، فجاءت امرأة وأمسكت بها وصاحت: رزمتى أخذتها هذه المرأة من بين يدى وما أخذها غيرها، واجتمع الناس والمرأة تصيح ما أخذ رزمتى غيرها، ووصل الكلام إلى صاحب الشرطة، فجاء أصحاب الشرطة وحملوهما إلى صاحب الشرطة ثم إلى الوالى الأمير، وبلغ ذلك النورى، فخرج من المسجد ودخل على الوالى وقال: لا تتعرض لهذه المرأة فإنها بريئة، وعرف الوالى أبى الحسين النورى، فقال الوالى ما حيلتى ومعها خصمها؟ فقال النورى: قد عرفتك بأنها بريئة ثم خرج، فبينما هم كذلك إذا بجارية سوداء قد أقبلت وقالت: يا امرأة خلى عنها فقد حملت أنا الرزمة إلى البيت، قالت: ومن أين أخذتها، قالت: من بين يديك، فأخذ النورى بيد فاطمة وخرج وقال لها تقولين بعد هذا يارب ما أقذر أولياءك؟! فقالت: قد تبت.

واعتل النورى، فبعث الجنيد بصرة فيها دراهم وعاده، فردها النورى، ثم اعتل الجنيد، فدخل عليه النورى عائداً، فقعد عند رأسه، ووضع يده على جبهته، فعوفى فى ساعته، فقال النورى للجنيد: إذا زرت إخوانك فأرفقهم بهذا البر.

وروى أنه أصابته علة، وأصابت الجنيد علة، فالجنيد أخبر عن حاله، والنورى كتم، فقيل له: لم لم تخبر كما أخبر صاحبك؟ فقال: ما كنا لنبتلى ببلوى فنوقع عليها اسم الشكوى؛ ثم أنشد:

إن كنت للسقم أهلا          قد كنت للشكر أهلاً

عذب فلم يبق قلب             يقول للسقم: مهلاً

فأُعيد ذلك على الجنيد، فقال: ما كنا شاكين، ولكنا أردنا أن نكشف عن عين القدر فينا، ثم أنشد يقول:

أجل ما عنك يبدو                لأنه عنك جلا

وأنت، يا أنس قلبى           أجل من أن يجلا

أفنيتنى عن جميعى        فكيف أرعى المحلا

حدثنا الحسن بن الحسين الهمذانى الفقيه قال: سمعت جعفر الخالدى يقول: سمعت أبا أحمد المغازلى يقول: ما رأيت أعبد ولا أطوع لله من أبى الحسين النورى، قيل: ولا الجنيد، قال: ولا الجنيد. وكانت له قنينة تسع خمسة أرطال ماء يشربها فى خمسة أيام وقت إفطاره.

أخبرنا رضوان بن محمد بن الحسن الدينورى قال: سمعت معروف بن محمد بن معروف الصوفى يقول: سمعت الخالدى يقول: سُئل النورى كيف حالك فقال: كيف حال من ليس معه من الله إلا الله.

وقال الخالدى: أنشدنى النورى لنفسه:

الذكر يقطعنى والوجد يطلعنى        والحق يمنع عن هذا وعن ذاك

فلا وجود ولا سر أسر به              حسبى فؤادى إذا ناديت لباك

وروى أنه اجتمع الجنيد والنورى ورويم وابن وهب وغيرهم فى سماع، فمضى بعض الليل وأكثره، فلم يتحرك أحد منهم، ولا أثر فيه القول، فقال النورى للجنيد: يا أبا القاسم! هذا السماع يمر مراً ولا أرى وجداً يظهر! فقال الجنيد: يا أبا الحسين! ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ النمل 88، فأنت يا أبا الحسين ما أثر عليك؟! فقال النورى: ما بلغت مقامى فى السماع، فقال له الجنيد: وما مقامك فيه؟ فقال: الرمز بالإشارة دون الإفصاح، والكناية دون الإيضاح، ثم وثب وصفق بيديه، فقام جميع من حضر بقيامه ساعة.

وكان سبب وفاته أنه سمع هذا البيت:

لازلت أنزل من ودادك منزلاً         تتحير الألباب دون نزوله

فتواجد وهام فى الصحراء، فوقع فى أجمة قصب قد قطع، وبقيت أصوله مثل السيوف؛ وكان يمشى عليها ويعيد البيت إلى الغداة، والدم يسيل من رجليه، ثم وقع مثل السكران، فورمت قدماه ومات.

ولما مات النورى قال الشبلى: قد رفع العلم من الأرض.

قال الحسين بن الفضيل: حضرت النورى وهو فى الموت؛ فقلت: ألك حاجة؟ أو فى نفسك شهوة؟ فرفع رأسه، وقد انكسر لسانه، وقال: أى والله! أشتهى شهوة كبيرة! قلت: وما هى؟ قال: أشتهى أن أرى الله! ثم تنفس ثلاثاً عالياً، كالواجد بحاله، وفارق الدنيا، وأنشد النورى:

كم حسرة لى قد غصت مرارتها    جعلت قلبى لها وقفاً لبلواكا

وحق ما منك يبلينى ويتلفنى           لأبكيك أو أحظى بلقياكا

من كلامه:

إن التخلق بالأخلاق الحسنة واجب على كل أحد، وهى الحلم والتواضع والشفقة والنصيحة والموافقة للأصحاب والإحسان والمداراة والإيثار والخدمة والألفة والبشاشة والكرم والمروءة والتودد والمودة والجود والعفو والصفح والحياء والسخاء والوفاء بالعهد والسكينة والوقار والثناء والدعاء إلى الله تعالى دائماً وحسن الظن وتصغير النفس واحتقار ما عندك واستعظام ما عند غيرك.

الحر عبد ما طمع والحر حر ما قنع، ومن أساء استوحش، ومن كان يسره ما يضره متى يفلح؟

 سمير جمال