أسماء بنت أبى بكر

ذات النطاقين

فى فجر الدعوة الإسلامية تميزت أسر فى أرض مكة جاهدت فى سبيل هذا الدين حق الجهاد، فقدمت أنفسها وبذلت أموالها، ولم تأل جهداً فى سبيل نشر هذا الدين الحنيف.

على رأس هذه الأسر أسرة الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه فقد شمرت السيدة خديجة عن ساعد الجد منذ اللحظة الأولى التى علمت فيها بنزول الوحى على زوجها العظيم وأسلمت بناته جميعهن وآزرنه بكل طاقتهن.

ثم أسرة الصديق أبو بكر فما أن عرض عليه الرسول دعوة الإسلام حتى بادر فاستجاب وكان سباقاً لكل خير وما إن دعى إلى البذل حتى أنفق ماله كله فى سبيل الله وآمنت زوجته وآمنت بناته وآمن بنوه وكلهم بذل وكلهم صابر وكلهم جاهد.

ثم أسرة الصحابى الجليل ياسر فقد آمن آل ياسر فأوذوا وعذبوا حتى بلغ بهم الأذى والعذاب مبلغه، فقد استشهدت السيدة سمية زوج ياسر فكانت أول شهيد فى الإسلام فلم يثن ذلك ياسراً ولا ابنه عماراً فثبتوا على الإيمان بالله ورسوله وتابعوا الطريق حتى نصر الله رسوله وأعز جنوده.

ثم آل جحش آمنوا فأوذوا فما وهنت عزيمتهم ولا عيل صبرهم حتى أذن الله بالهجرة فهاجروا رجالاً ونساءً حتى خلت دورهم من ساكنيها فاستولى عليها أبو سفيان بن حرب فاحتسبوها فى سبيل الله.

هذه أمثلة للأسر (المكية) المؤمنة فى فجر الدعوة المباركة.

لقد كان أفراد هذه الأسر منارات إيمان وأمثلة توضيحية عز نظيرها على مر الزمان، ولقد تميز من بين أفراد هذه الأسر رجال ونساء سجلت لهم صحائف الخلود مواقف إيمانية فذة، تحدثت عنها أجيال المسلمين بعزة وفخار.

لقد تناول المؤلفون مواقف الرجال من هذه الأسر، وأفاضوا فى الحديث عنهم ولكن قليلاً من هؤلاء المؤلفين تحدث عن النساء ولقد ظهر فى كل أسرة من هذه الأسر نساء كان لهن باع طويل فى الجهاد فى سبيل هذا الدين.

فآل الرسول كان فيهم السيدة خديجة بنت خويلد وكان فيهم السيدة زينب الكبرى بنت رسول الله وكان فيهم من بعد السيدة فاطمة الزهراء .

وآل ياسر كان فيهم أول شهيدة فى الإسلام السيدة سمية بنت الخياط زوج ياسر وأم عمار.

وآل جحش كان فيهم السيدة زينب بنت جحش أم المؤمنين المرأة القرآنية وزوج رسول الله.

وآل الصديق كان فيهم أسماء ذات النطاقين وكان فيهم أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنهم أجمعين.

إن كل واحدة من هؤلاء النساء المجاهدات تحتاج منا إلى وقفات وتحتاج منا إلى دراسات حتى نأخذ القدوة ونقدمها إلى فتياتنا المسلمات.

ولقد قدمنا فى أعداد المجلة سطوراً عن حياة الجهاد الذى عاشته هؤلاء الفُضليات .. السيدة خديجة والسيدة زينب الكبرى والسيدة فاطمة الزهراء والسيدة عائشة والسيدة زينب بنت جحش والسيدة سمية بنت الخياط.

أما السيدة أسماء بنت الصديق فهى مثال رائع وقدوة تحتذى فقد سبقت إلى الإيمان وجاهدت فى سبيل الدعوة حق الجهاد قدمت من ذاتها وقدمت من أبنائها وثبتت فى المواقف التى يزل فيها كثير من الرجال.

إن عظمة السيدة أسماء مستمدة من عظمة أبيها الصديق، لقد كان سيدنا أبو بكر فى الجاهلية رجلاً وجيهاً ذا مال وخلق وعلم وأمانة، وعندما عرض عليه رسول الله الإسلام بادر فاستجاب ذلك لأن بذرة الخير فيه أصيلة واستعداده للإيمان فطرى نقى، فقد قال رسول الله عن مبادرة سيدنا أبى بكر إلى الإيمان والتصديق بالدعوة (ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر إلا أبا بكر ما عتم عنه حين ذكرته وما تردد فيه) هكذا كان إيمان سيدنا أبى بكر بلا تردد ولقد كانت سجيته ما دعى إلى خير فتردد فيه وأى خير هو أفضل من خير هذه الدعوة المباركة.

ولم يكن إسلام سيدنا أبى بكر إسلام رجل واحد، كلا، فقد كان إسلامه إسلام رجال ونساء آخرين فقد عرض الإسلام على زوجته وبناته وبنيه فاستجابوا، وعرض الإسلام على أصدقائه المقربين فلبوا ودعا فى بطاح مكة إلى الإيمان لا يثنيه سخرية الساخرين ولا أذى المبطلين.

كما جاهد سيدنا أبو بكر بلسانه وأهله، كذلك جاهد بماله فأنفقه كله فى سبيل الله.

هذا هو سيدنا أبو بكر والد السيدة أسماء ، وكانت السيدة أسماء فى الإيمان والجهاد بنت أبيها، فما أن شرح لها أبوها ما تدعو إليه رسالة الإسلام حتى بادرت إلى الإيمان وبايعت سيد الأنام، فكانت فى أمة الإسلام الثامنة عشر، فقد أسلم قبلها سبعة عشر، فهى من السابقات والسابقين فما أعظم هذا الشرف الذى نالته.

وكانت السيدة أسماء من أوائل النساء الآئى حظين بشرف بناء الأسرة الإسلامية، كانت فى سن الزواج يتطلع إليها كل قرشى معرق فى النسب ويتمنى أن تكون له زوجاً، فتقدم الزبير بن العوام إلى الصديق أبى بكر يخطب إليه ابنته أسماء، ولم يتردد الصديق أن يجيب الزبير بالقبول، فقد كان الزبير واحداً من شباب الإسلام، وممن يشهد له بالإيمان والإخلاص والتضحية فى سبيل هذا الدين، فالزبير معرق فى النسب، إنه ابن العوام بن خويلد، والعوام أخو السيدة خديجة زوج رسول الله .. فالسيدة خديجة عمة الزبير، والزبير هو ابن السيدة صفية بنت عبد المطلب أخت سيدنا حمزة وعمة رسول الله .. والتأم شمل الزبير والسيدة أسماء وانطلقا معاً فى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الدين.

وماجت قريش بالعداء للإسلام ورسوله ورجاله، وبالغت فى إيذاء المسلمين، ولما رأت قريش أن أمر المسلمين بدأ يعلو وأن الكفر يضمحل قررت أن تتخلص من شخص رسول الله .

وجاء الأمر بالهجرة من مكة إلى المدينة وأمر رسول الله بالهجرة فانطلقوا يهاجرون، وانطلق الزبير إلى زوجته أسماء وأبلغها عن عزمه على الهجرة ونظرت إليه ملياً ثم قالت له: على بركة الله، وانطلقت تعد له زاد الطريق، وعندما هم الزبير بالرحيل زفت إليه السيدة أسماء ما أفرحه وأسره بأنها حامل بمولودها الأول، وامتلأت نفس الزبير بهجة وسرورا .. سيكون لهم ولد، ومن أول يوم مسلماً، إنه لنبأ عظيم، وانطلق الزبير إلى المدينة وخلف وراءه زوجة وجنين، انطلق مهاجراً بدينه ليساهم من هناك فى مرحلة جديدة لبناء صرح الإسلام العظيم، وبقيت السيدة أسماء فى بيت أبيها تنتظر ما هو فاعل بنفسه وبأهله، وانتظر سيدنا أبو بكر مع أسرته ما يأمره به رسول الله .. وجاء رسول الله وقال (إن الله قد أذن لى فى الخروج والهجرة) فقال الصديق  متلهفاً: الصحبة يا رسول الله، وأخذ سيدنا أبو بكر يعد العدة لتنظيم أمور الهجرة، فأعد راحلتين لتنقلهما فى رحلة الهجرة، ودعا أولاده وابنتيه وشرح لهم أمر الهجرة وأوصاهم بالكتمان الشديد، وأوكل لكل منهم مهمة محددة يقوم بها تسهيلاً لأمر الهجرة وتأميناً لنجاحها، فكانت مهمة السيدة أسماء تزويدهما بالزاد فى كل يوم، بل وفى المكان الذى يكونان فيه.

وبدأت رحلة الهجرة المباركة ذات الأثر البعيد فى حياة الإنسانية، كان للسيدة أسماء فيها مساهمة وجهد سيبقى أبداً علامة بارزة فى حياة المرأة المسلمة.

وقامت السيدة أسماء بدورها على أكمل وجه، وعندما استعد رسول الله وصاحبه للإنطلاق من غار ثور إلى المدينة، أعدت السيدة أسماء لهما زاد الرحلة، ولما همت بتعليقه على الناقة لم تجد ما تربطه به فحلت نطاقها ثم شقته نصفين وربطت بالنصف الأول الزاد، وربطت بالنصف الآخر السقاء، ولما رأى رسول الله ما فعلت السيدة أسماء دعا لها قائلاً (أبدلك الله عز وجل بنطاقك هذا نطاقين فى الجنة) ومنذ هذا الحدث العظيم عرفت السيدة أسماء المجاهدة بـ"ذات النطاقين" .. أى وسام وأى فخر ألبسها رسول الله إنه وسام جهاد وفخار الإسلام .. وعادت السيدة أسماء إلى الدار تغمرها الفرحة بهذا الشرف العظيم.

لقد حفظت السيدة أسماء سر رسول الله وبقيت فى بيت أبيها فى انتظار الأخبار عن الرسول وعن أبيها وفى انتظار أن يؤذن لها بالهجرة والانضمام إلى ركب الإيمان.

هاجر الصديق وقد أخذ كل ماله لينفقه فى سبيل الله وترك أهله وقد وكلهم إلى الله، وكان أبو قحافة لم يكن أسلم بعد، وكان يرى أن ينفق ماله على تجارة يثمرها أو عبيد يخدمونه، وجاء أبو قحافة إلى السيدة أسماء وقال لها: إنى لأخشى أن يكون أبو بكر قد فجعكم بماله مع نفسه؟ وهنا وقفت السيدة المؤمنة المجاهدة موقفاً جديداً يستحق الإكبار فقالت: كلا يا أبت لقد ترك لنا أبى خيراً كثيراً وأسرعت إلى مجموعة من الحصى بحجم النقود فوضعتها فى كيس وغطتها بثوب ثم وضعتها فى كوة كان الصديق يضع ماله فيها، وتقدمت من الشيخ العجوز الكفيف وأمسكت يده ووضعتها على الكيس قائلة: لقد ترك لنا أبى خيراً كثيراً، فقال أبو قحافة: لا بأس إن ترك لكم هذا فقد أحسن.

إن الذى كان يشغل السيدة أسماء أعظم من المال والطعام والشراب، لقد كان يشغلها أمر الدعوة التى تحمل أعبائها مع الرسول الكريم ووالدها الصديق وزوجها الزبير وإخوانها وأخواتها من سائر المسلمين.

وعندما استقر رسول الله والمهاجرون فى المدينة وبدأوا فى بناء مسجد رسول الله نواة الدولة الحديثة، واستدعى رسول الله زيد بن حارثة وأبا رافع وكلفهما بالذهاب إلى مكة وإحضار أهله منها، وأرسل الصديق أبو بكر عبد الله بن أريقط ليكون دليلهم وزودهم بنفقة الطريق، وبالفعل خرج الركب المهاجر وفيه نساء رسول الله ونساء الصديق .. السيدة فاطمة والسيدة أم كلثوم والسيدة سودة بنت زمعة أم المؤمنين وأم أيمن زوج زيد بن حارثة وحاضنة رسول الله وأسامة بن زيد وعبد الله بن أبى بكر وأم رومان زوج الصديق رضى الله عنهم أجمعين والسيدة عائشة والسيدة أسماء ابنتا الصديق .. وكما هاجر الصديق مع رسول الله ونال هذا الشرف العظيم كذلك نالت أسرة الصديق شرف الهجرة مع أسرة النبى الكريم .

لقد أدت الهجرة إلى طيش الكفار وكان اليهود أول من دسوا فى وجه المسلمين دعايات مغرضة، أرادوا بها أن يشغلوا المسلمين عن العمل الجاد لدعوتهم، فأشاعوا أنهم سحروا المسلمين فلا يلد لهم مولود فى المدينة، وكان قد مر على وجود المسلمين فى المدينة أشهر ولم يلد لهم فيها مولود، وساور المسلمين قلق لهذا الأمر، ولكن القلق لم يطل بهم إذ أعلن فى المدينة أن أسماء بنت أبى بكر قد وضعت مولوداً للزبير بن العوام فهلل المسلمون لهذا النبأ وكبروا، وفرحت السيدة أسماء بأن ولادتها كانت فرجاً للمسلمين مما ساورهم من دعاية اليهود، وأسرعت السيدة أسماء بوليدها إلى رسول الله فحنكه بتمر بعد أن لاكها بريقه الشريف ثم أسماه عبد الله، فكان عبد الله بن الزبير ابن السيدة أسماء أول مولود فى المدينة بعد الهجرة.

وكانت السيدة أسماء فى بيتها نعم الزوجة عاشت مع زوجها ولا مال لهما فكانت تقوم بأعمال البيت بنفسها، راضية النفس، ناعمة البال، وتقول السيدة أسماء: تزوجنى الزبير وما له فى الأرض من مال ولا مملوك ولا شئ غير فرسه، فكنت أخدمه خدمة البيت وأعلف فرسه وأكفيه مؤنته، وأسوسه، وأدق النوى لناضحه، وأعلفه وأستقى الماء وأخرز غربه - أى أملأ دلوه - وأعجن، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التى أقطعه رسول الله وهى على ثلث فرسخ.

هذه السيدة الجليلة والمرأة المؤمنة مثال لنا جميعاً، فقد أعانت زوجها على فقره بما ينوء حمله مجموعة من النساء لم تتذمر ووفرت لزوجها كل أسباب الهناء.

إنها المسلمة القدوة، مجاهدة فى أمور المسلمين، ومجاهدة فى بيتها، وهى من بعد قامت على تربية أبنائها فأرضعتهم حب الإسلام، ونشأتهم على الرجولة والشهامة، فكانوا مثالاً للرجال، وكانوا نجوماً فى تاريخ الإسلام، فقد أنجبت عبد الله وعروة وعاصم والمهاجر وكلهم ربتهم على مبادئ لا يحيدون عنها.

لقد ثبتت السيدة أسماء على تمسكها بالمثل العليا حتى آخر لحظة فى حياتها وفاءً لهذه الدعوة التى آمنت بها وامتزج بها دمها فعاشت بها وماتت عليها .. رضى الله عنها وعن أبيها وزوجها وبنيها فنعم القدوة ونعم مثال المرأة المسلمة.

المحبة فى الله