عجائب الهجرة

 

تعودنا فى هذا الباب وفى هذه المقالة بالذات الحديث عن ذاته الشريفه صلوات ربى وسلامه عليه، ونعتذر للسادة القراء حيث أننا أمام أعظم حدث فى التاريخ الإسلامى ولم نبالغ إذا قلنا فى الوجود، الحدث الذى نحن بصدده هو الهجرة النبوية الشريفة وما لها من عجائب فى هذه الليلة العظيمة بالذات، محاولين كشف النقاب عن أسباب هجرته، إذ يظن البعض أن هجرة الحبيب إلى المدينة كانت خوفا من المشركين أو هروبا معاذ الله، وإنما هجرته كانت امتثالا للأمر الإلهى، ومما يؤكد ذلك ما أخرجه البخارى أنه صلوات ربى وسلامه عليه قال (أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لابَتَيْنِ) ولأن فى هذا الأمر كان الفتح الأكبر للإسلام والمسلمين، فبعد أن عقد الحبيب المحبوب صلوات ربى وسلامه عليه المبايعة مع أهل يثرب اشتد أذى مشركى مكة بالصحابة الكرام وجفوتهم لهم، فذهبوا إلى الحبيب لاستئذانه فى الهجرة، فمكث صلوات ربى وسلامه عليه أياما ثم خرج إلى أصحابه فى سرور فقال (قد أُخبرت بدار هجرتكم ألا وهى يثرب فمن أراد الخروج فليخرج) فخرجوا جماعات سرا إلا سيدنا عمر بن الخطاب فإنه أعلن بالهجرة ولم يستطع أحدا من الكفار منعه هو وأخيه سيدنا زيد بن الخطاب ، ولم يبق مع سيدنا رسول الله إلا سيدنا أبو بكر الصديق وسيدنا على بن أبى طالب ، فلما رأت قريش هجرة الصحابة إلى يثرب اجتمعوا بدار الندوة للمشاورة وحجبوا الناس عن الدخول لكى لا يكشف أمرهم أحدا من بنى هاشم، وإذ بإبليس اللعين يتنكر فى صورة شيخ يتوكأ على عكازه فوقف على باب الدار فلما رأوه قالوا من الشيخ؟ قال شيخ من أهل "نجد" سمع بالذى تواعدتم له فحضر معكم.

ويا سبحان الله "نجد" هذه هى التى أخبر عنها الحبيب المصطفى بأنها سيخرج منها قرن الشيطان كما أخبرنا البخارى فى صحيحه عن سيدنا عبد الله بن عمر أن النبى قال (اللهم بارك لنا فى شامنا وفى يمننا، قالوا وفى نجدنا، قال اللهم بارك لنا فى شامنا وفى يمننا، قالوا وفى نجدنا، قال هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان) وفى رواية الإمام السيوطى (اللهم بارك فى شامنا وفى يمننا، قال رجل وفى شرقنا، فقال اللهم بارك فى شامنا وفى يمننا، قال رجل وفى شرقنا، قال اللهم بارك فى شامنا ويمننا إن من هنالك يطلع قرن الشيطان وبه تسعة أعشار الكفر وبه الداء العضال).

نرجع لقصتنا .. فبعد أن أخبرهم إبليس بأنه شيخ من أهل "نجد" قال الحاضرون من قريش إنه من أهل "نجد" ليس من مكة ولا يضركم حضوره وأذنوا له بالدخول ثم شرعوا فى الكلام عن الحبيب وماذا يفعلون معه حتى لا تقوى شوكته، ثم أخذوا يتبادلون الآراء والمشورة فمنهم من أشار بحبسه ومنهم من أشار بطرده من مكة حتى انتهوا إلى أنهم يأخذوا من كل قبيلة فتى قويا ويضربونه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل ولا تقدر بنو عبد مناف على محاربة قريشا جميعا، وقيل أن هذا الرأى كان رأى إبليس اللعين الذى كان متنكرا فى صورة الشيخ النجدى.

وفى هذه الأثناء أتى الأمر الإلهى للحبيب المصطفى بالهجرة، فأمر النبى الإمام على بأن يبيت فى فراشه ويتسجّى ببردته الشريفة، بل وطمأنه بأنه لن يصله مكروه، وذلك لكى يؤدى الأمانات والودائع التى كانت عند الحبيب المصطفى إلى أهلها وليس كما يفهم البعض خوفا أو تمويها لأنه صلوات الله وسلامه عليه خرج وسط فتيان قريش وهو يتلو قوله تعالى ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ يس 8-9 فعموا جميعا "عماء وقتى" ولم يعموا فحسب بل نثر الحبيب التراب فوق رؤوسهم سخرية منهم، وكانت هذه أول عجائبه صلوات ربى وسلامه عليه فى ليلة الهجرة، وبات أهل الشرك فى غفلتهم حتى أتاهم آت فقال لهم ماذا تنتظرون لقد خرج عليكم ولم يترك منكم أحد إلا وضع التراب على رأسه، فهل طريقة خروجه هذه طريقة هارب أو خائف!!

ثم توجه الحبيب المحبوب إلى بيت صاحبه الصديق وبدأت الرحلة الميمونة من بيت الصديق قاصدين يثرب وكان ذلك يوم الاثنين ودخل المدينة ليلة الاثنين أيضا وذلك على أرجح الأقوال وفى الطريق كانا قد مرا بغار ثور ورفض سيدنا أبو بكر دخول النبى إلى الغار، ودخله الصديق أولا وأخذ يمزق ثيابه ويسد بها فتحات الغار وبقيت فتحة فسدها بعقبه، ثم دخل الحبيب صلوات ربى وسلامه عليه الغار ونام على فخذ سيدنا أبى بكر، وإذا بثعبان يلدغ سيدنا أبا بكر فى عقبه، وتحمل الصديق اللدغة حتى لا يوقظ حبيبه ولكن غلبته دموعه فانحدرت على خده لتسقط على وجه الحبيب ويستيقظ، فيخبره الصديق الخبر فيتفل الحبيب فى عقبه فيبرأ ولا يكون للدغة الثعبان أثر، وهذه ثانية عجائبه وقد مكثا فى غار ثور ما يقرب من ثلاث ليال.

ثم نأتى لثالث العجائب بل هم ثلاث عجائب فى واحدة .. فعندما وصلا الغار نبتت على بابه شجرة تسمى (أم غيلان) وعششت عليه حمامتان ونسج العنكبوت على بابه.

ومن عجائب الهجرة أيضا عندما تعرض سراقة بن مالك للحبيب وصاحبه فقال (اللهم اكفنا سراقة) فأخذت الأرض قوائم فرسه، فقال سراقة: يا محمد ادع الله أن يطلقنى ولك على أن أرد من جاء يطلبك ولا أعين عليك أبدًا، فقال (اللهم إن كان صادقًا فأطلق عن فرسه فانطلق فرسه ثم أسلم سراقة).

ولم تنته قصة سراقة هنا فحسب بل بشره صلوات ربى وسلامه عليه بأنه سيلبس سوار كسرى، انظروا أيها الأحباب إلى هذا الموقف الحبيب يطارده أعداؤه من كل جانب، وفى صحراء قفراء ورغم هذا كله ينبأ الحبيب المصطفى سراقة بأنه أول من يلبس سوار كسرى، ولقد حدث فعلا فى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب عند فتحه بلاد كسرى وجيوش المسلمين يأتوا بغنائم كسرى بين يدى سيدنا عمر وهنا ينادى سيدنا عمر على سراقة ويلبسه سوار كسرى ويبكى سراقة بعد أن ألبسه أمير المؤمنين سوار كسرى ويجعل سوار كسرى فى بيت مال المسلمين.

ولنا هنا وقفة بأن الحبيب المصطفى يخبر عن فتح بلاد كسرى ومن أول من يلبس سوارى كسرى .. ويقول البعض أن الحبيب لا يعلم الغيب .. ليس هذا مجالنا ولكنها لفتة على هامش السيرة ولنكمل المسيرة.

ومن عجائب هذه الليلة أيضا عندما نزل خيمة أم معبد الخزاعية، وكانت هذه السنة سنة جدب، فطلبوا منها شيئا يعينهم على الرحلة فلم يجدوا، فنظر الحبيب صلوات ربى وسلامه عليه إلى شاة قد حل بها الضعف وجف منها الضرع، فسألها الحبيب هل بها لبن؟ فقالت هى أضعف من ذلك، فقال الحبيب أتأذنين لى أن أحلبها؟ قالت نعم، فمسح ضرعها وسمى الله تعالى فدرّت وسقى من حضر حتى ارتووا ثم شرب صلوات ربى وسلامه عليه آخرهم ثم انصرفوا، فلما حضر زوج أم معبد وأخبرته بما حدث قال هذا والله صاحب قريش ولو رأيته لاتبعته، وقد جاء فى السيرة الحلبية أنهما قد هاجرا إلى الحبيب وأسلما، وباتت تلك الشاة يحلبونها ليل نهار حتى ماتت فى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب .

ومن العجائب أيضا أن الحبيب رقد بعض الوقت فلما قام من رقدته دعا بماء، فغسل يديه ثم تمضمض ومج إلى جانب الخيمة على شجيرة فلما أصبحوا وجدوها شجرة عظيمة جاءت بثمار أحلى من الشهد، ولم يأكل منها جائع إلا وشبع ولا ظمآن إلا وقد روى ولا سقيم إلا وبرئ، حتى الأنعام، فلم يأكل من ورقها بعير ولا شاة إلا در لبنها درا، وتروى هند بنت الجون بنت أخت أم معبد أننا كنا نسميها المباركة، وكان أهل البادية يأتوننا للاستشفاء، وقد أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها وصغر ورقها، ففزعنا، وإذا بنا بنعى رسول الله صلوات ربى وسلامه عليه، ثم بعد ثلاثين عاما أصبحت ذات شوك من أسفلها إلى أعلاها وذهبت نضرتها فما شعرنا إلا بمقتل أمير المؤمنين سيدنا على بن أبى طالب ، وذات يوم نبع من ساقها دما، فإذا نحن أمام خبر استشهاد الإمام الحسين رضى الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين ثم يبست على أثر ذلك وذهبت.

وكانت هذه من ضمن عجائب الهجرة التى استمرت سنوات إلى ما بعد الهجرة.

وعلى الجانب الآخر نجد أهل المدينة يترقبون وصول الحبيب وصاروا يخرجون كل يوم لانتظاره، وإذا بيهودى ارتقى مكانا عاليا فرأى الحبيب مقبلا فصاح مخبرا: هذا حظكم يا بنى قيلة "وهم الأوس والخزرج" فخرجوا مسرعين، ونزل صلوات ربى وسلامه عليه بقباء وكان يوم الاثنين الثانى عشر من ربيع الأول، وأدركه بقباء أيضا الإمام على ومعه بقية المسلمين.

ثم أمر الحبيب المصطفى بالتأريخ من حين الهجرة وهذه هى المرحلة الثانية للتأريخ من حين الهجرة لأنهم قبل ذلك كانوا يؤرخون من عام الفيل، والمرحلة الثالثة للتأريخ انتهت فى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب بعد اجتماع ومشاروة مع سادات الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وهو الذى نحن عليه الآن.

وأقام الحبيب بقباء فى بنى عمرو بن عوف ما يقرب من عشرين يوما ثم خرج من قباء ممتطيا ناقته فكان كلما مر بدار من دور الأنصار سألوه النزول عندهم فكان يقول الحبيب خلوا سبيل الناقة إنها مأمورة، وكان قد أرخى زمامها وأخذت فى السير إلى أن بركت بموضع باب المسجد ثم دارت حتى بركت بباب أبى أيوب الأنصارى وهو رئيس بنى النجار أخوال جد النبى عبد المطلب، فخرجن جوارى بنى النجار يضربن بالدف ويقلن:

نحن جوارى من بنى النجار

 

يا حبذا بمحمد من جار

ثم أرسل النبى إلى ملأ من بنى النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم ويمشون حول النبى وسيدنا أبو بكر الصديق .

ثم عادت الناقة فبركت فى مبركها الأول ثم صوتت، وبعدها نزل عنها الحبيب وقال: هذا المنزل إن شاء الله تعالى.

ففرح به أهل المدينة فرحا شديدا، وقال ابن شهاب وما حكاه الحاكم ورجحه: فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشئ كفرحهم برسول الله .

وعن سيدنا أنس بن مالك قال: لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله المدينة أضاء منها كل شىء وصعدت ذوات الخدور على الأجاجين يقلن:

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
أيها المبعـوث فينا جئت بالأمر المطاع

 

وجب الشـكر علينا ما دعى لله داع
جئت شرفت المدينة مرحبا يا خير ساع

فقال : أتحبوننى؟ قلن: نعم يا رسول الله، فقال : الله يعلم أن قلبى يحبكن.

وفيما اتفق عليه أهل السير وأصحاب السنن أن الحبيب المصطفى عندما أمر ببناء مسجده الشريف أرسل إلى بنى النجار ليثامنوه على أرض لهم ليقيم عليها المسجد، فقالوا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله .

وقال أنس وكان فيه قبور المشركين وفيه خرب وفيه نخل فأمر صلوات ربى وسلامه بتسوية الأرض وصفوا النخل جهة قبلة المسجد وبنوه بالحجارة والصخور .. كما كان الحبيب صلوات ربى وسلامه عليه ينقل مع الصحابة الصخر ويقول:

اللهم لا خير إلا خير الآخرة

 

فارحم الأنصار والمهاجرة

ثم نعرج مرة أخرى لعجائب الهجرة الغيبية .. فقد رأى الحبيب المصطفى الصحابى الجليل عمار بن ياسر وهو يعمل فى بناء المسجد، فأخذ الحبيب ينفض عنه التراب ويقول (ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار) وعمار يقول: أعوذ بالله من الفتن.

وبعد فتح خيبر حدثت أول زيادة فى مسجد الحبيب لكثرة المسلمين، وفى عهد سيدنا عمر بن الخطاب حدثت الزيادة الثانية فى توسعة المسجد بدار سيدنا العباس، وكان سيدنا عمر قد سأل سيدنا العباس أن يبيعه داره ولكن سيدنا العباس وهبها لمسجد الحبيب المحبوب صلوات ربى وسلامه عليه، وفى خلافة سيدنا عثمان بن عفان حدثت التوسعة الثالثة حيث زاد فى سعة المسجد وبناه بالحجارة.

وعندما دخل الحبيب صلوات ربى وسلامه عليه "يثرب" سميت بـ"المدينة المنورة" أى مدينة النور، وكانت المدينة أشد بلاد الله وباء، وذكر البخارى فى صحيحه أن الحبيب صلوات ربى وسلامه عليه عندما قدمها قال (اللهم حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا فى صاعنا ومدّنا وصحّحها لنا وانقل حُماها إلى الجحفة) ويخبرنا البخارى أيضا بقول الحبيب (على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال).

ثم يقوم الحبيب بأكبر العجائب حيث آخى بين المهاجرين والأنصار، وهذا ما ينشده الله ورسوله من الدين وللدين بل وللناس أجمعين أن نكون أخوة متحدين صفا واحدا لا متفرقين .. ويصدق الإمام فخر الدين فى قوله:

وغاية القصد حسن القصد لا عوج

 

ووحدة الصف عندى عمدة الدين

ويخبرنا الترمذى فى صحيحه .. بأن يأتى الإمام علىّ وهو يبكى ويقول للحبيب المصطفى قد آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بينى وبين أحد، فقال (أنت أخى فى الدنيا والآخرة) ويخبرنا الإمام مسلم فى صحيحه بقول سيدنا الإمام على عندما آخى الحبيب بينه وبين سيدنا علىّ ، فيقول الإمام على "والذى فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبى الأمى إلى أن لا يحبنى إلا مؤمن ولا يبغضنى إلا منافق" والكلام عن سيدنا علىّ يطول .. وصدق الله العظيم إذ يقول ﴿ثَانِىَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا 40 التوبة.

محمد المصرى

 

 
 

ومن أراد الاستزادة فليطلع على موقع النبى

أسرة التحرير