يحاول بعض الناس أما عمدا أو جهلا أن يخدعوا أنظار المسلمبن عما كان عليه السلف الصالح ويدعون معرفتهم ويتسببون فى حيرة الناس حتى أنهم ليتسائلون:

 

 

هل يعلم التأويل إلا الله؟!

 

يقول الله تبارك وتعالى ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ آل عمران 3: 7. وظاهر من هذه الآية أن الذين يحاولون التأويل هم من فى قلوبهم زيغ ويبتغون الفتنة فى الأرض ويبتدعون فى دين الله، وكيف يدَّعون ذلك وقد قال الله أنه لا يعلم تأويله إلا الله؟!!

وهذا التساؤل فيه مغالطة شديدة تنم عن جهل كبير بتفسير القرآن، حيث أنهم قد ربطوا بين اتباع المتشابه بغرض الفتنة وبين التأويل، فأحكام القرآن تؤخذ أساسا من الآيات المحكمات وتؤيدها المتشابهات، أما التأويل فهو للعلم العلوى الذى يمنحه الله لعباده المخلصين الصادقين فيصبحون راسخين فى العلم، فكيف ينكرون؟! ولله در القائل:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد        وقد تنكر الأذن صوت الرعد من صمم

يقول ابن كثير: وأحسن ما قيل فى المحكم والمتشابه هو الذى نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله، حيث قال ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. قال: والمتشابهات فى الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، وقد اشتبه معناه، وابتلى الله فيهن العباد، كما ابتلاهم فى الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرّفن عن الحق. أهـ.

ومن هنا نرى أن الآيات المتشابهات يشتبه معناها على بعض الناس، وكذلك فإن حكم الزيغ فى الآيات على من يرجحون الشك على اليقين أما من يردون المتشابه للمحكم فلا جناح عليهم، وكذلك فإن المتشابه له تصريف وتحريف وتأويل، يعلمه الراسخون فى العلم.

ويقول الإمام الفخر الرازى: وقد بيّن الله أن أهل الزيغ لا يتمسكون إلا بالمتشابه، والزيغ الميل عن الحق، يقال: زاغ زيغاً: أى مال ميلاً، ومن هؤلاء الذين أُريدوا بقوله ﴿فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾: قال الربيع: هم وفد نجران لما حاجوا رسول الله فى المسيح فقالوا: أليس هو كلمة الله وروح منه قال: بلى. فقالوا: حسبنا. فأنزل الله هذه الآية، ثم أنزل ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ﴾ آل عمران : 59.

ويدخل فى هذا الباب استدلال المشبهة والمجسمة بقوله تعالى ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ طه : 5، فإنه لما ثبت بصريح العقل أن كل ما كان مختصاً بالحيز فإما أن يكون فى الصغر كالجزء الذى لا يتجزأ وهو باطل بالاتفاق وإما أن يكون أكبر فيكون منقسماً مركباً وكل مركب فإنه ممكن ومحدث، فبهذا الدليل الظاهر يمتنع أن يكون الإله فى مكان، فيكون قوله ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ متشابهاً، فمن تمسك به كان متمسكاً بالمتشابهات.

وقال الإمام الفخر الرازى فى تفسير ﴿وما يعلم تأويله إلا الله﴾ أن أكثر المتكلمين - المفسرين - يرى أن الكلام إنما يتم عند قوله ﴿والرسخون فِى العلم﴾ وعلى هذا القول يكون العلم بالمتشابه حاصلاً عند الله تعالى وعند الراسخين فى العلم وهذا القول أيضاً مروى عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس.

فالقرآن والحديث أثبتوا أن التأويل حاصل لعباده فى الدنيا والدليل موجود بالآية والحديث والموضوع بهذا الشكل أصبح خطير جداً لا يحتمل لما فيه من كفر بآية أو حديث وحتى ننقذ البصائر قبل أن تطمس والآذان قبل الصمم نسوق إليكم بعض الآدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله .

لو أن التأويل علم اختص الله تعالى به نفسه ولم يعلمه لأحد لما دعى رسول الله لسيدنا عبد الله ابن عباس فى الحديث المروى فى مسند الإمام أحمد بن حنبل ومسند اسحق ابن راهويه وهو أن النبى دعى لسيدنا عبد الله بن عباس قائلاً (اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل).

أما من ناحية القرآن ﴿ومايَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ فيقول الإمام الطبرى فى تفسيره لهذه الآية: على قول الآخرون: بل معنى ذلك: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم، وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم فى العلم يقولون: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾.

وذكر الإمام الطبرى من قال بعلمه بالتأويل: فعن محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله. وروى عن ابن عباس أنه كان يقول فى هذه الآية: أنا من الراسخين فى العلم، وروى عن مجاهد: أنا ممن يعلم تأويله.

ويقول ابن عجيبة فى تفسير الآية:

﴿وما يعلم تأويله﴾ على الحقيقة ﴿إلا الله﴾ تعالى، وقد يُطلع عليه بعضَ خواص أوليائه، وهم ﴿الراسخون﴾ أى: الثابتون فى العلم، وهم العارفون بالله أهل الفناء والبقاء، وهم أهل التوحيد الخاص، فقد أطلعهم تعالى على أسرار غيبه، فلم يبق عندهم متشابه فى الكتاب ولا فى السنة، حال كونهم ﴿يقولون آمنا به﴾ وصدقنا أنه من كلامه ﴿كُلّ من عند ربنا﴾ المحكم والمتشابه، وقد فهمنا مراده فى القسمين، وهم أولو الألباب، ولذلك مدحهم فقال ﴿وما يَذَكَّرَ إلا أُولوا الألباب﴾ أى: القلوب الصافية من ظلمة الهوى وغَبَش الحس.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

محمد مقبول