نشرنا فى صفحات القواطع عن موضوع القواطع عن المهيمن من كتاب المرشد الوجيز، وها نحن فى هذا الباب نستكمل الموضوع بجوانب أخرى تكمله حتى تعم الفائدة:

 

 

النفس 2

 

 

لم ينتهى الحديث ولن ينتهى أيضاً عن الكلام فى القواطع التى تصد الإنسان عن طريق الحق، وتودى به أيضاً إلى ارتكاب الرذائل، وكنا نتحدث فى العدد السابق عن النفس كأحد الركاز الأساسية لهذه القواطع، وكنا نحاول أن نوضح مخاطرها وجعل الإنسان يحاذر من شرورها، وعنى سادتنا أهل الله الصالحين بهذا الموضوع كثيراً وكثيراً، إذ أنه من الأسس التى قامت عليها بعثة النبى إلى الناس، فمكارم الأخلاق التى بُعث لِيُتممها تأتى بمخالفة هذه القواطع، فكان هذا الأمر من الأمور الهامة التى أفرد لها سادتنا أهل الله الصالحين أبواباً وأبواباً فى تصانيفاتهم الجَمّة، فكان مرادهم رضوان الله عليهم أجمعين هو مراد الحبيب المصطفى ، فبناء الفرد فى الأمة أمراً يُنظر له ويدرسُ كيفيته بعناية للمحافظة على نسيجها وجعلها تسير من أجل رُقِيها وحضارتها ونهضتها أيضاً، فلا شك أن الأخلاق والاهتمام بتهذيها من الأمور والأهداف السامية التى يجب أن تُبنى عليها الأمم، ولا سبيل لتهذيب هذه الأخلاق قبل أن ندرس المخاطر التى تواجهها من أعدائها –القواطع– من أجل ذلك أتى لنا باب القواطع فى هذه المجلة متواصلاً ومستمراً لا ينقطع الحديث فيه.

والحديث عن النفس كما ذكرنا أوضح لنا خطورتها، وكانت هذه الأخيرة تميل إلى الهوى ومخالفة النصوص فنجد المولى تبارك وتعالى فى محكم التنزيل ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى • فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى﴾ النازعات 79: 40، وعن النبى أنه قال (إن أخوف ما أتخوف على أمتى الهوى وطول الأمل فأما الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسى الآخرة وهذه الدنيا مرتحلة ذاهبة وهذه الآخرة مرتحلة قادمة ولكل واحدة منهما بنون فإن استطعتم أن لا تكونوا من بنى الدنيا فافعلوا، فإنكم اليوم فى دار العمل ولا حساب وأنتم غداً فى دار الحساب ولا عمل) البيهقى فى شعب الإيمان. وقال أحد الصالحين: النعمة العظمى الخروج من النفس، لأن النفس أعظم حجاب بينك وبين الله عز وجل، وقال آخر: ما عُبد الله بشيئ مثل مخالفة النفس والهوى، وقالوا أيضاً: أصول الأخلاق المذمومة ثلاثة: الرضى عن النفس، وخوف الخلق، وهم الرزق، فيتولد من الأول: الشهوة، والغفلة، والمعصية. ويتولد من الثانى: الغضب، والحقد، والحسد. ويتولد من الثالث: الحرص، والطمع، والبخل. لكن التزام أصل واحد ينفى جميعها، وهو عدم الرضى عن النفس فى جميع الأحوال، والحذر منها فى جميع الأوقات.

وفى حكاية عن أحد الصالحين وهو سيدى إبراهيم الخواص يروى أنه كان فى جبل فى الشام فرأى ثمار الرمان فاشتهاها فاقترب وأخذ واحدة، فشقها فوجدها حامضة، فتركها ومضى، فرأى رجلاً مطروحاً على الأرض وقد اجتمع عليه الزنابير، فقال له: السلام عليك، فرد عليه: وعليك السلام يا إبراهيم، فقال له كيف عرفتنى؟ فقال: من عرف الله تعالى لا يخفى عليه شئ، فقال له: أرى لك حالاً مع الله تعالى، فلو سألته أن يحميك ويقيك الأذى من هذه الزنابير، فرد عليه: وأنا أرى لك حالاً مع الله تعالى، فلو سألته أن يقيك شهوة الرمان فإن لدغ الرمان يجد الإنسان آلامه فى الآخرة، أما لدغ الزنابير فيجد آلامه فى الدنيا، فتركه ومضى.

ولا تعليق هنا على ما ذُكر إلا أن نذكر هذا القول: أصل كل معصية وشهوة وغفلة: الرضى عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة: عدم الرضى عنها ومحاربتها بشتى الطرق، وأقربها: أن تحتال عليها حتى تردها إلى مولاها، فإذا رجعت إلى مولاها؛ أتتك بطرائف العلوم، وفتحت لك مخازن الفهوم، ولا حيلة أنفع فيها من أن تأخذ بزمامها وتدفعها، إلى شيخ التربية، يفعل بها ما يشاء ويساعدك على جهادها:

فاحتل على النفس فرب حيلة        أنفع فى النصرة من قبيلة

فمصاحبة نفسك تجمع بينك وبين هواك، وتزيدك بعداً عن مولاك، وأما عداوتها تزيدك قربا من ربك، وإقبالاً منه عليك، وكلما اقتربت من مولاك اشتم منك الخلق رائحة لا يعرفونها، فمن إتلف بها ازداد قرباً منك، ومن أنكرها حاربك بشدة، لأن من جهل شيئاً عاداه، وهذا طبعهم، أو بالأحرى طبع النفس التى تتحكم فيها أخلاقها السيئة التى وردت سلفا فى عدد يوليو 2010 فى مختارة من كتاب الفتوحات الإلهية بعنوان (الرضا عن النفس والدنيا) .

ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه، وكيف يصح لعاقل الرضى عن نفسه.

فالأمر أصبح جد خطير، فلا بد أن ننظر له بعين الاعتبار والتدبر، وما يزال يتضح لنا فترة بعد فترة شدته وخطورته، فهذه القواطع متشابكة متلونة، وكما نعرف أن النار حُفت بالشهوات، فعلينا أن نعى مَن مِن الشهوات كان هو طريق النار، فغالباً ما يندس علينا بين الشهوات ما هو بين بين، فيزينه الشيطان للإنسان أنه مباح ولا عليه من حرج فى فعله، وتكون نفسه منقادة إلى ذلك بكل سهولة ويسر، فالأمر فى هذا الشأن يأتى على طبيعتها وعلى مرادها، فلنحذر من تلك الدسائس، وقانا الله وإياكم منها.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

أحمد نور الدين عباس

 

 

النفوس والتهذيب

 

أعلم أن نفسك أشد عداوة لك كما فى الحديث (ليس عدوك الذى إذا قتلك أدخلك الجنة وإذا قتلته كان لك نورا ولكن أعدى عدوك نفسك التى بين جنبيك) الديلمى والعسكرى، فهى تدعوك إلى الوبال وترشدك على الضلال وتوقعك فى الدناءة وتركبك نفس الهوى وتوقعك وتطعمك وتهلكك وتملكك فأقطع خصالها وخلالها وشرهها وشركها وطمعها وولعها وشبعها. وفى الخبر أن الله تعالى لما خلق النفس قال لها: [من انا]؟ فقالت: وأنا من أنا؟ فعذبها بأنواع العذاب فكلما قال لها [من أنا]؟ فتقول: وأنا من أنا؟ حتى عذبها بالجوع والتواضع. فقالت: أنت الله الذى لا آله إلا أنت. فنفسك زنجية تطالبك بالشهوات فإذا شعبت طمعت وإذا عصيت رفضت. هى الموقعة فى البلايا وهى أم الرزايا. هى الذئب الكلب والأسد الحرب والكلب النهم. والعدو القرم. داؤها كثير ودواؤها قليل. وأعظم وسائل السلامة منها الخلاف لها.

إذا طالبتك النفس يوماً بشهوة ........ و كان عليها للهواء طريق

فخالف هواها ما استطعت فإنما ... هواها عدو والخلاف صديق

ولا يجد المريض حسن الشفاء إلا بالصبر على مر الدواء. فعذبها بما تهذبها، فإذا عزمت على تهذيبها فاضربها بسياط تعذيبها وأقمع بالتواضع كبرها وأطبخها بنار الامتحان. وأجعل العلم لها سيد الأخدان. والعمل الصالح لها مولى الخلان وتعلم الأخلاق اللطيفة. وتكسب الأعمال الصالحة والطف وإطراف وتكايس ولا تتيابس. ولا تلتفت للناس مدحا وذما، فعن سفيان: "الشهوة الخفية، الذى يحب أن يحمد على البر".

وأعلم أن الله لطيف وليس من شأن اللطيف أن يعذب اللطيف والمهذب لنفسه والمعذبها بنيران المجاهدة. وأعلم أن الخير عادة والشر لجاجة. فربها بالنوافل وهذبها بين يدى شيخك بالسمع والطاعة.

ومن علامة علمك أنهم إذا مرجوا لا تلتفت وإذا مزحوا لا تتزلزل وإذا كابروك لا تحول. وكابد نفسك عن المزاعقة والمصايحة، فالكبر مطيب النفس، فإذا أردت الغاية الكبرى فى تهذيبها فأقصرها، وحصل من الزاد ما وافقك وأعانك، كما تحصل طريق مكة، ثم اركب مطية متابعة الشرع، ثم سر فى فلوات قمع النفس، وليكن البيت مظلما، وزمان الشتاء أولى، وأت الفرائض من الصلوات، ولا تنم إلا عن غلبة، وكل ثلثى أكلك بعد الجوع، ومقداره من اللقم الوسيطة ستة وثلاثون لقمة، وليكن ذكرك الله فى مراقبة للكعبة، أو صورة معلمك أو شيخك الذى تذكرك رؤيته بالله، ولا تلتفت للواردات والخيالات، فأنه سيظهر لك مع الصدق عجائب وفنون، وتذوب كثائف الحجب عن القلب، وترفع ستور الغفلة، وينكشف لك فى اليقظة ما كنت تشاهده فى المنام، فيستنير القلب، وينشرح الصدر بأنوار الجلال، وتنكشف المستورات. وكل ما لا تستطيع تحمله فى المراقبة تعرفه شيخك، فالشيخ فى قومه كالنبى فى أمته. ومن ليس له شيخ فالشيطان شيخه، ومن مات بغير شيخ فقد مات ميتة الجاهلية، فيعلمك ويدلك ويعرفك طريق الوصول إلى الله تعالى، وصاحب المراقبة يهب عليه نسيم القرب من دواخل الحجب، ويكشف له أسرار قلوب المخلوقات، فتراه فرحاً طيب الخلق حسن العشرة دعب لعب، لان الله يكون قد تجلى بقلبه، فيسمع كلامه، ويبلغ منه مرامه، ويكشف شموس المشاهدة، ويعلم المخفيات، ويطلع على الكائنات.

ومن علامات الواصل بالله حسن الخلق وكثرة العلم وحلاوة الكلام والتواضع. وصاحب هذا الطريق مع علمه العزيز لا عبوس ولا حقود ولا متكبر ولا ظالم ولا متجبر ولا أكول ولا شروب ولا نؤوم: نفسه ملكوتيه. قوى جبرائيل همته. ونفخ إسرافيل سعادته فى صور همته فحدا به حادى محبته. وسار به فى بيداء معرفته حتى تجلى له بيت الجلال. فأنكشف منه خاصية يطوى له بها البعيد. فاقربوا من هذا الرجل تكتسبون من قربة وفيض خاصيته ما اكتسبه الهلال من قرب الشمس. وربما ينقل إلى المريدين الأحوال كما انتقلت النبوة من موسى إلى يوشع ابن نون.

سامر الليل