وما ينطق عن الهوى

 

﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى النجم 34: 1-18.

من الآيات الدالة على إعزاز الله لرسوله وحبيبه ودعمه له وتييده له سبحانه، ولم تقف الآيات عند هذا الحد وإنما تعرضت إلى مكانة النبى عند ربه، وتعرضت إلى تأييد الإسراء والمعراج، وهى أول سورة أعلنها رسول الله بمكة، ولأن المعنى فيها كبير فلا يمكن اختصاره فى حلقة واحدة، وقد اعتدنا أن نلخص المعنى ثم نترك لكم أن تشربوا من رحقيق تفاسير الأئمة الأعلام، ولكن نظرا لطول الموضوع فسنكتفى بشرح الملخص مع الإشارة إلى مراجعه.

فيقول الله سبحانه وتعالى فى الآيات الثلاث الأول: وحق النجم الذى ترونه بأعينكم عند غروبه وأفوله، وعند رجمنا به للشياطين، إن الحبيب محمدا الذى أرسلناه إليكم ﴿شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾ ما ضل عن طريق الحق فى أقواله ولا أفعاله، وما كان رأيه مجانبا للصواب فى أمر من الأمور، وما ينطق بنطق صادر عن هوى نفسه ورأيه، وإنما ينطق بما نوحيه إليه، من قرآن كريم ومن قول حكيم ومن توجيه سديد.

فافتتح الله تعالى هذه السورة بهذا القسم العظيم، للدلالة على صدق رسوله وللرد على أولئك المشركين الجاهلين، الذين زعموا أن النبى قد اختلق القرآن الكريم، فأقسم الله سبحانه بالنجم وقت أن هوى، والنجم هو نجم السماء التى هى ثابتة فيها للاهتداء وقيل لا بل النجم المنقضة فيها التى هى رجوم للشياطين، فأما إن قلنا المراد نجم السماء الثابت (الثريا) فهو أظهر النجوم عند الرائى لأن له علامة لا يلتبس بغيره فى السماء ويظهر لكل أحد والنبى تميز عن الكل بآيات بينات تظهر لكل أحد فأقسم به، ولأن الثريا إذا ظهرت من المشرق بالبكر حان إدراك الثمار، وإذا ظهرت بالعشاء أواخر الخريف تقل الأمراض والنبى لما ظهر منع الشك والأمراض القلبية وأدركت الثمار الحكمية والحلمية، وأما قولنا المراد هى النجوم التى فى السماء للاهتداء نقول النجوم بها الاهتداء فى البرارى فأقسم الله بها لمشابهتها ومناسبتها لحاله ، وعلى قولنا المراد الرجوم من النجوم، فالنجوم تبعد الشياطين عن أهل السماء والنبى يبعد الشياطين عن أهل الأرض. وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد ، كثر انقضاض الكواكب قبل مولده، فذعر أكثر العرب منها، وفزعوا إلى كاهن لهم ضرير كان يخبرهم بالحوادث، فسألوه عنها، فقال انظروا البروج الاثنى عشر، فإن انقض منها شيئ، فهو ذهاب الدنيا، وإن لم ينقض منها شيئ، فسيحدث فى الدنيا أمر عظيم، فاستشعروا ذلك، فلما بعث رسول الله ، كان هو الأمر العظيم الذي استشعروه، فأنزل الله تعالى ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ أى ذلك النجم الذى هوى، هو لهذه النبوة التى حدثت. وقال الإمام جعفر الصادق : النجم هو النبى وهويه نزوله من السماء ليلة المعراج، وجوز على هذا أن يراد بهويه صعوده وعروجه إلى منقطع الأين، وقاله التسترى والألوسى أيضا، وقيل أيضا: هو الصحابة ، وقيل: العلماء على إرادة الجنس، والمراد بهويهم قيل: عروجهم في معارج التوفيق إلى حضائر التحقيق، وقيل: غوصهم فى بحار الأفكار لاستخراج درر الأسرار.

وفائدة تقييد القسم به بوقت نزوله؛ أن النجم إذا كان فى وسط السماء يكون بعيداً عن الأرض لا يهتدى به السارى لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال، فإذا زال تبين بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب من الشمال كذلك النبى خفض جناحه للمؤمنين وكان على خلق عظيم كما قال تعالى ﴿وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ القلم 68: 4، وكما قال تعالى ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ آل عمران 3: 159، فكان إنقضاض النجم مناسبا لخفض النبى لجناحه للمؤمنين كى يشربوا منه ، فهو خفض لجناح الجلال بالجمال وتنزل وتباسط بالأخلاق والصفات. وأيضا فى قسم الله سبحانه بالنجم عند غروبه، الإشعار بأن هذا المخلوق العظيم مسخر لإرادة الله تعالى وقدرته فهو مع لمعانه وظهوره فى السماء لا يتأبى عن الغروب والأفول، إذا ما أراد الله تعالى له ذلك، ولا يصلح أن يكون إلها -كما فعل بعض المشركين- لأنه خاضع لإرادة خالقه.

ثم قال تعالى ﴿ما ضل صاحبكم وما غوى﴾ والضلال فى مقابلة الهدى، والغى فى مقابلة الرشد، قال تعالى ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغى يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ الأعراف 7: 146، وقال تعالى ﴿قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغى﴾ البقرة 2: 256، والضال كالكافر والمجنون الذى ضل عنه الحق، والغاوى كالفاسق الذى اتبع الباطل، فالضلال أبداً يكون من غير قصد من الإنسان إليه، والغى كأنه شيئ يكتسبه الإنسان ويريده، وقد نفى الله تعالى عن نبيه هذين الحالين، فكأنه تعالى قال ﴿مَا ضَلَّ﴾ أى ما ضل عن قصد الحق ﴿وما غوى﴾ أى ولا غوى فى اتباع الباطل بعد علمه بالحق، والترتيب يبين أنه قال أولاً ﴿مَا ضَلَّ﴾ أى هو على الطريق السليم ﴿وَمَا غوى﴾ أى أنه استقام عليه ولم يحد عنه. وبالتالى فالآية للشهادة للرسول بأنه بار راشد تابع للحق، ليس بضال، وهو: الجاهل الذى يسلك على غير طريق الخق بغير علم، والغاوى: هو العالم بالحق العادل عنه قصدًا إلى غيره.

وقوله ﴿صاحبكم﴾ هو سيدكم ومصاحبكم، فأنتم تعرفونه وتتبينون ما أقول فيه منذ نشأته فكيف يجوز لكم أن تتهموه الآن، فإيراده النبى بعنوان صاحبهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة، وإحاطتهم خُبراً ببراءته مما نفى عنه بالكلية، وباتصافه بغاية الهدى والرشد؛ فإنَّ كون صحبتهم له ، ومشاهدتهم لمحاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتماً. فكان فى ذلك إشارة إلى ملازمته لهم، طوال أربعين سنة قبل البعثة، وأنهم فى تلك المدة الطويلة لم يشاهدوا منه إلا الصدق والأمانة والعقل الراجح والقول السديد، وأنهم لم يخف عليهم حاله بل كانوا مصاحبين له، ومطلعين على سلوكه بينهم، فقولهم بعد بعثته إنه ساحر أو مجنون هو نوع من كذبهم البين وجهلهم المطبق.

وقوله هنا ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى﴾ فإن هذا خلق عظيم ثابت فيه، فكيف يضل أو يغوى وهو لا ينطق عن الهوى؟ وإنما يضل من يتبع الهوى! ويدل عليه قوله تعالى ﴿وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله﴾ ص 38: 26، وذكر الصفة على صيغة الماضى فى قوله ﴿مَا ضَلَّ﴾ وصيغة المستقبل فى قوله ﴿وَمَا يَنطِقُ﴾ فى غاية الحسن، أى ما ضل حين اعتزلكم وما تعبدون فى صغره ﴿وَمَا غوى﴾ حين اختلى بنفسه وتعبد ورأى ما رأى، وما ينطق عن الهوى الآن حيث أرسل إليكم وجُعل رسولاً شاهداً عليكم، فلم يكن أولاً ضالاً ولا غاوياً، بل إنه صار الآن منقذاً من الضلالة ومرشداً وهادياً. والآية تدل أيضا على أنه يملك إربه فى جميع أحواله، وليس كسائر البشر يمكن أن يصدر عنه كلاما أو فعلا مختلفا بحسب أحواله، فعن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شىء أسمعه من رسول الله أريد حفظه، فنهتنى قريش فقالوا: إنك تكتب كل شىئ تسمعه من رسول الله ، ورسول الله بشر يتكلم فى الغضب، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك له، فقال : (اكتب فوالذى نفسى بيده، ما خرج منى إلا الحق). وعن أبى هريرة أن رسول الله قال (لا أقول إلا حقا) فقال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال: (إنى لا أقول إلا حقا).

وفى القسم ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ تخصيصٌ للنبى حيث تولّى سبحانه الدفاع عنه بنفسه فيما رُمىَ به، بخلاف ما قال لنوح وأذِنَ له حتى قال ﴿لَيْسَ بِى ضَلاَلَةٌ﴾ الأعراف 7: 61، وهود قال ﴿لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ﴾ الأعراف 7: 67. وغير ذلك، وموسى قال لفرعون ﴿وَإِنِّى لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً﴾ الإسراء 17: 102. وقال لنبينا : ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ فكان دفاع الأنبياء على ألسنتهم ودفاع النبى على لسان الحق تبارك وتعالى، ومعناه ما ضلَّ صاحبُكم، ولا غَفَل عن الشهود طَرْفَةَ عينٍ.

ونستكمل فى العدد القادم إن شاء الله ...

المراجع: تفسير الرازى والزمخشرى وابن عجيبة وابن عطية والماوردى وابن كثير والتسترى والقشيرى وسيد طنطاوى.

سامر الليل

 
 

ومن أراد الاستزادة فليطلع على موقع النبى

أسرة التحرير