يحاول بعض الناس أما عمدا أو جهلا أن يخدعوا أنظار المسلمبن عما كان عليه السلف الصالح ويدعون معرفتهم ويتسببون فى حيرة الناس حتى أنهم ليتسائلون:

 

 

لا تشد الرحال !! 2

 

تحدثنا فى العدد السابق عن حديث شد الرحال ولم ينته الحديث عنه بعد، فمازال أمامنا أشياء كثيرة نود أن نوضحها فى هذا الموضوع، منها أقوال العلماء عن هذا الحديث، ومن هؤلاء العلماء المشهود لهم فى كل عصر الإمام أبو حامد الغزالى رحمه الله تعالى، فقد قال رحمه الله فى كتابه إحياء علوم الدين عن هذا الحديث ما نصه: والحديث إنما ورد فى المساجد وليس فى معناها المشاهد لأن المساجد بعد المساجد الثلاثة متماثلة، ولا بلد إلا وفيه مسجد، فلا معنى للرحلة إلى مسجد آخر، وأما المشاهد فلا تتساوى، بل بركة زيارتها على قدر درجاتهم عند الله ، نعم لو كان فى موضع لا يسجد فيه فله أن يشد الرحال إلى موضع فيه مسجد وينتقل إليه بالكلية إن شاء، ثم ليت شعرى هل يمنع هذا القائل من شد الرحال إلى قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل إبراهيم وموسى ويحيى وغيرهم عليهم السلام؟!! فالمنع من ذلك فى غاية الإحالة، فإذا جوّز هذا فقبور الأولياء والعلماء والصلحاء فى معناها، فلا يبعد أن يكون ذلك من أغراض الرحلة، كما أن زيارة العلماء فى الحياة من المقاصد، هذا فى الرحلة، انتهى.

ونرى كلام هذا العالم الجليل واضح لا مراء فيه، فهو يؤكد على أن الحديث إنما يقتصر على المساجد دون غيرها وأتى بدلائل أخرى أوردها فى النص أعلاه.

وننتقل إلى عالم آخر وهو الإمام تقى الدين السبكى فقد قال رحمه الله فى كتابه شفاء السقام فى زيارة خير الأنام عن هذا الحديث ما نصه أيضاً: هذا الحديث متفق على صحته عن أبى هريرة عن النبى وورد بألفاظ مختلفة أشهرها (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدى هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) وهذه رواية سفيان بن عيينة عن الزهرى، والآخر (تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد) من غير حصر وهذه رواية معمر عن الزهرى، والآخر (إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد مسجد الكعبة ومسجدى ومسجد إيلياء) وهذه من طريق غير الزهرى، وهذه الروايات الثلاث ذكرها مسلم فى فضل المدينة عن أبى هريرة، وذكر قبل ذلك فى سفر المرأة عن أبى سعيد الخدرى عن النبى (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدى هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) ولفظه كما ذكرنا بصيغة النهى، واللفظ السابق بصيغة الخبر، وورد فى خبر أبى سعيد أيضاً (إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد مسجد إبراهيم ومسجد محمد، ومسجد بيت المقدس) رواه إسحاق بن راهوية فى مسنده، وورد فى حديث ابن عمر .

وأما معناها: فاعلم أن هذا الاستثناء مفرغ، تقديره: لا تشد الرحال إلى مسجد إلا إلى المساجد الثلاثة. أو لا تشد الرحال إلى مكان إلا إلى المساجد الثلاثة. ولابد من أحد هذين التقديرين ليكون المستثنى مندرجاً تحت المستثنى منه. والتقدير الأول أولى، لأنه جنس قريب. ولما سنبينه من قلة التخصيص أو عدمه على هذا التقدير انتهى.

وأقول: إنه يتعين التقدير الأول، ففيه يكون المستثنى من جنس المستثنى منه يدل على ذلك ويؤكده المرويات التالية:

1- عن أبى هريرة عن النبى قال (تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد).

2- وعنه أيضاً عن النبى (إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد).

3- عن أبى سعيد الخدرى عن النبى قال (إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد).

فهذه المرويات الثلاثة جاءت من غير حصر، فلا أمر ولا نهى، ولكنها جاءت بصيغة الخبر ويدل عليه أيضاً:

1- كان رسول الله يشد الرحال إلى مسجد قباء. وهو ليس من الثلاثة. فقد روى البخارى ومسلم عن ابن عمر  قال: كان النبى يأتى قباء راكباً وماشياً.

2- ما ثبت وقوعه من رسول الله من تكرار زيارته لأهل البقيع والدعاء لهم. فقد روى مسلم عن سيدتنا عائشة  قالت: كان رسول الله كلما كان ليلتها منه يخرج إلى البقيع من آخر الليل فيقول (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد).

لذا يمكننا أن نقول: ليس المراد من الحديث النهى عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة. وإنما المراد منه: بيان فضل وقدر هذه المساجد الثلاثة على ما سواها من المساجد لأن النبى كان يقوم بالسفر إلى ما عداها كمسجد قباء ومقبرة شهداء أحد وبدر ومقبرة أهل المدينة "البقيع" وهذا يدل على أن الحديث جاء لبيان فضيلة المساجد الثلاثة.

وقال الإمام السمهودى رحمه الله تعالى: وإذا ثبت أن الزيارة قربة. فالسفر إليها قربة كذلك وقد ثبت خروجه من المدينة لزيارة الشهداء وقد أطبق - أى اتفق - السلف والخلف وأجمعوا عليه.

أما حديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدى والمسجد الأقصى) فمعناه: لا تشد إلى مسجد لفضيلة، لما فى رواية الإمام أحمد بسند حسن عن أبى سعيد الخدرى (لا ينبغى للمطى أن تشد رحالها إلى مسجد ينبغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام ومسجدى هذا والمسجد الأقصى). ويدل على هذا المعنى أيضا: الإجماع على شد الرحال للمعرفة ولقضاء النسك "الحج" وكذلك للجهاد والهجرة من دار الكفر والتجارة ومصالح الدنيا. انتهى.

وكذلك فإن الحديث يدل على أن السفر لا يكون إلا باعتبار الغرض الباعث عليه كالحج والعمرة أو طلب العلم أو زيارة الوالدين أو الهجرة أو طلب الرزق أو طلب العظة والاعتبار وتذكر الآخرة أما شد الرحال إلى المساجد الثلاثة، فإن الغرض الباعث على السفر إليها هو فضيلة أماكنها وزيادة الأجر والثواب لقاصديها للتعبد فيها والتمتع بزيارة النبى .

وقد أجمع الصحابة والعلماء على أن أشرف بقعة فى الأرض هى قبر رسول الله ثم البيت الحرام ثم مكة، ثم المدينة، ثم بيت المقدس، ثم سائر بلاد المسلمين.

وخلاصة القول: أن الحديث لا ينهى عن شد الرحال لزيارة النبى وزيارة أصحاب القبور من العلماء والشهداء والصالحين فى أضرحتهم ومشاهدهم على مختلف درجاتهم، وذلك لأن الحديث يفسر بأحد هذين التأويلين وهما:

التفسير الأول: إن الحديث خاص بالنهى عن شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة، ولا يتناول هذا النهى القبور أو غيرها، لأنه يتعين أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه وكذلك نظراً لفعل الرسول من قيامه بزيارة قبور الشهداء فى بدر وأحد وزيارته الدائمة لقبور أهل البقيع ومسجد قباء، ولما رواه الهيثمى فى مجمع الزوائد عن البزار عن سيدتنا عائشة  قالت: قال رسول الله (أنا خاتم الأنبياء، ومسجدى خاتم مساجد الأنبياء، أحق المساجد أن يزار وتشد إليه الرواحل المسجد الحرام ومسجدى، صلاة فى مسجدى أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام).

والتفسير الثانى: أن حديث شد الرحال لا ينهى ولا يأمر وإنما هو يبين لنا فضيلة هذه المساجد الثلاثة على ما عداها من المساجد كونها مساجد أنبياء، ويدل على صحة هذا القول حديث سيدتنا عائشة السابق الذى رواه البزار، فالحديث لا يتعرض لزيارة القبور والأضرحة، لا أمراً ولا نهياً.

وقال الشيخ محمد بن علوى المالكى غفر الله لنا وله: فكلامه فى المساجد ليبين للأمة أن ما عدا هذه المساجد الثلاثة متساوٍ فى الفضل، فلا فائدة فى التعب بالسفر إلى غيرها وأما هى فلها مزيد فضل، ولا دخل للمقابر فى هذا الحديث، فاقحامها فى هذا الحديث يعتبر ضرباً من الكذب على رسول الله ، هذا مع أن الزيارة مطلوبة، بل وكثير من العلماء يذكرونها فى كتب المناسك على أنها من المستحبات، ويؤيد هذا أحاديث كثيرة، انتهى.

إن من ادعى أن الحديث يشمل النهى عن زيارة القبور وشد الرحال لهذا الغرض مخطئ فى فهمه لأنه ينسب إلى الحديث ما لا يصح له أن ينسب إليه، لأنه ليس من موضوعه وليس ما يراد منه، لا من حيث اللغة ولا من حيث الشرع ولا من فعل الصحابة والتابعين، وقد روى عنهم القيام بزيارة القبور والأضرحة والجلوس عندها كما سبق ذكره.

وسنتناول فى العدد القادم الحديث الثانى المستندين إليه (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) أحمد، والطبرانى، والضياء عن أسامة بن زيد. أحمد، والبخارى، ومسلم، والنسائى.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،،

 محمد مقبول