أشد
القواطع
ومن
عجيب
يكون الجهل محتكم اليه والحق ذا يحظى بانكار
عن أبى
أسماء
عن ثوبان قال، قال رسول الله
(أخوف ما أخاف على أمتى بعدى الأئمة المضلين)
أخرجه الترمذى فى الجامع والامام أحمد فى المسند.
رسولنا الأمين عليه أفضل الصلوات
والتسليم
أدى الأمانة وورثها عنه علماء أجلاء فضلاء نفوا عنها تحريف الضالين
وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
وقد كان الصحابة
رضوان
الله عليهم يتلقون من النبى
نصوص الكتاب والسنة فى باب الأسماء والصفات وسائر العقائد والمسائل
العملية، مؤمنين بها وفق المنهج الأمثل الذى رسمه الله
ثم سار عليه التابعون، واستمرت الأمة الاسلامية على هذا المنهج على
عقيدة صافية راسخة، حتى قام بعد الزنادقة أعداء الاسلام بالدخول فيه
لأغراض سيئة وحاولوا استغلال تلك العقيدة لمآربهم الخبيثة لانتقاصها
وايداع الخلط فى امتنا، فأرادوا كيد الاسلام من الداخل حتى يكون أفتك.
وهكذا تعرضت - وما زالت تتعرض - جوانب من العقيدة الاسلامية لمحاولات
خبيثة للتلاعب والدس وتشويه حقائقها وطمس معالمها.
عن عمر ابن العباس قال خطبنا عمر بن الخطاب قال (ان أخوف ما أخاف
عليكم: تغير الزمان وزيغة عالم وجدل منافق بالقرآن وأئمة مضلين يضلون
الناس بغير علم).
هؤلاء
أهل الأهواء الضالة الذين
يقطعون
بين المسلمين وبين ربهم ويحرفون لهم دينهم، وهم أشد القواطع، الذين
اعتمدوا على الأدلة العقلية فى أمور دينهم وفهم عقيدتهم - ويا ليتهم
أحسنوها - فتأولوا الآيات الصريحة، وردوا الأحاديث الثابتة الصحيحة
وقدموا الآراء العقلية على الأدلة الشرعية، كما قدموها على منهج سلف
الأمة الصالح، الحق، اسلوباً ومضمونا، واستطاعوا نشرها بين الناس
بالمكر والتمويه. عن يحيى بن عبد الرحمن عن الضحاك بن مزاحم قال "أولئك
يتعلمون الورع، أما إنه سيأتى عليكم زمان يتعلمون فيه الكلام".
والعذر كل العذر اذا ذكرنا كلمة الحق وصفاً
للسلف،
فالسلف الصالح غنىّ عن الوصف والكيف والخلط، انما طالما هناك من
يتقمصون لباس التقوى، ويستحبون العمى على الهدى، ويزعمون أن زعمهم هو
عقيدة السلف الصالح، والحقيقة أن هذا الزعم عقيدة المجسمة والمشبهة لا
عقيدة السلف الصالح، ولكن هؤلاء كعادتهم يتلبسون بلباس السلف الصالح
ويتسلقون على أكتافهم ويتسمون بأسمائهم - رغم اختلاف تسمياتهم على مر
الزمان - ذلك لخداع العوام المحبين بالفطرة للسلف الصالح حتى يُحسن
الظن بهم ويُعتقد بصحة انتسابهم للسلف.
عن أبى ثعلبة الخشبى
قال قال رسول الله
(ان أحبكم الى وأقربكم منى
محاسنكم أخلاقاً وان أبغضكم الى وأبعدكم منى مساوئكم أخلاقاً،
الثرثارون، المتشدقون، المتفيقهون).
وان أخفوا على العامة حقيقة ما يعتمدون عليه
كإحدى
ركائز زعمهم - أو ما يزعمون أنها عقيدة - وهو الكلام أو علم الكلام
الذى ذمه السلف وذموا أهله والخوض فيه وسردوا عواقبه الوخيمة التى نشهد
منها الآن من مخالفة للسنة والجماعة والسلف الصالح بل ولتعاليم ديننا
الحنيف الذى لا يمته أى من الغلو والتشدد والتطرف فكما قال رسولنا
الكريم
(إياكم والغلو فى الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو فى الدين)
أخرجه النسائى وابن ماجه.
عن حذيفة
قال "المنافقون اليوم شر منهم
على عهد رسول الله
"،
قيل وكيف ذاك، قال "انهم كانوا على عهد رسول الله
يخفونه وهم اليوم يظهرونه".
فذاك ما يعتمد عليه مستحبى العمى على الهدى
سواء
أُعلن أم أُخفى ذلك، وبالطبع لن ينتظر أحد أن يدينوا أنفسهم ولكنها
الحقيقة حتى لو أخفوها فهى معلومة.
ولكن قبل الخوض فى ذكر ذم السلف لهذا المنهج -
بالأدلة
والبراهين والأسانيد - وهو علم الكلام المذموم يجب ايضاح الآتى:
أن السلف فى ذمهم للكلام وأهله انما قصدوا بذلك ما
ادخله
الضالين فى العقيدة من الدلائل والمسائل المبتدعة، فلم يذموا جنس
الكلام فكل بنى آدم يتكلم، ولم يذموا الاستدلال والنظر والتأمل والجدل
الذى أمر به الله ورسوله الكريم
،
فقد قال الله
﴿ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن ان
ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾
النحل 125.
وقد قال رسولنا الأمين
(ما ضل قوم بعد هدى كانوا
عليه
إلا أوتو الجدل).
الامام أحمد فى مسنده والترمذى والحاكم فى المستدرك.
بالطبع لا يوجد اعتراض بين الآية الكريمة والحديث الشريف.
فالسلف لا ذموا كلاماً هو حق، بل ذموا الكلام الباطل المخالف
للكتاب والسنة والعقل ولهذا صار مصطلح الكلام عند السلف خاصاً بالكلام
المذموم والجدل العقيم الضال بعد الهدى. فالدين الاسلامى يخاطب العقل
فى الانسان ولطالما كان العقل محله القلب كما هدانا مولانا فى خطابه
للأمه "﴿أفلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها﴾، هذا يدل على
أمرين: أن العقل علم، وأن محله القلب، قال مجاهد: لكل انسان أربع أعين
عينان فى رأسه لدنياه، وعينان فى قلبه لآخرته، فإن عميت عينا رأسه
وأبصرت عينا قلبه لم يضره عماه شيئاً، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا
قلبه لم ينفعه نظره شيئاً".
فكما قال الامام فخر الدين
"عمى الأبصار لا يمكن من رؤية الأنوار وأما عمى البصائر فهو دائرة
الدوائر".
فمنهم من اتخذ علم الكلام منهجا وخالف بذلك الكتاب
والسنة على بصيرة - عامية - ومن تابعهم انخدع بأقوالهم لعدم معرفته
للحق فى بعض المسائل لانهم يحرفون الكلم عن مواضعه،
قال مالك سمعت عمر بن الخطاب عن النبى
يقول "حذرنا رسول الله
من كل منافق عليم اللسان).
رواه الامام أحمد فى مسنده،
فأصلوا اصول جعلوها حاكمة على الشرع. ولكن ما ينفك أهل العلم رفض تلك
الأفكار والأراء والأهواء بل رفض الأشخاص أنفسهم حتى يحيدوا عن الباطل.
فكثرت أقوال السلف فى ذم الكلام واهله والنهى عن
الخوض
فيه والتحذير منه بشدة وبيان عواقبه الغير محمودة وأنه لا يتأتى بخير
وحكموا بتجهيل أهله وتضليلهم:
فقال الامام الشافعى
"لأن يبتلى المرأ بكل ما نهى
عنه
ما عدا الشرك بالله، خير من النظر فى علم الكلام، فانى والله اطلعت من
أهل الكلام على شئ ما ظننته قط".
رواه أبو نعيم "الجلية" والهروى "ذم الكلام" وابن عساكر "تبينة كذب
المفترى".
حتى قال أيضاً "حكمى فى أهل الكلام أن يضربوا
بالجريد، والنعال، ويطاف بهم في العشائر
والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام".
رواه الهروى "ذم الكلام".
وقد قال الامام أحمد
"لا تجالسوا أهل
الكلام وان ذبوا عن السنة".
رواه ابن الجورى فى مناقب الامام أحمد.
وقال ايضا فى جامع بيان العلم وفضله "لا يفلح صاحب كلام
أبداً،
ولا تكاد ترى أحداً نظر فى الكلام الا وفى قلبه ذغل".
وقال أيضاً "لا أحب لأحد أن يجالسهم ولا يخالطهم ولا يأنس
بهم،
فكل من أحب الكلام لم يكن آخر أمره إلا إلى البدعة، فإن الكلام لا
يدعوهم إلى خير، فلا أحب الكلام ولا الخوض ولا الجدال، عليكم بالسنن
والفقه الذى تنتفعون به، ودعوا الجدال وكلام أهل الزيغ والمراء".
وقال
فى تلبيس ابليس "علماء الكلام زنادقة".
والأصعب من ذلك أن البعض منهم - مستحبى
العمى على الهدى - ينسبون أنفسهم لمذهب الامام أحمد بل يسمون أنفسهم فى
بعض الأحيان بالحنابلة، رغم أن الامام أحمد بن حنبل
،
لم يحرم الصلاة فى مساجد آل البيت وأولياء الله الصالحين ولم يدعُ أبدا
لهدم أى ضريح، فكيف ينسبون أنفسهم لمثل هذا المذهب الجليل؟؟
فلم العجب اذن حينما خدعونا فقالوا لنا، فلنهدم
مقامات
أوليائنا!
فلقد أدخلوا المنطق فى مباحثهم - وياليتهم أحسنوا
استخدامه
- بل بنوا عليه قواعد بدعية اشتبه لها الحق بالباطل - ولكن هيهات ذاك
الاختلاط على السائرين الحق الى الله - فدخل شر عظيم وبلاء جسيم وكثر
الخلاف بين المسلمين. فحق قول أحد التائبين عن الاقدام فى التأويل
والضلال:
نهاية إقدام العقول
عقال
وغاية سعى العالمين ضلال
وقد قال الامام الغزالى
"أكثر الناس
شكاً عند الموت أهل الكلام"، فالاختلاف والافتراق حتى كثر بينهم، حتى
كفروا وفسقوا وخطأوا من خالفهم - حتى اصبح هذا الرمى من أيسر الأقوال -
سواء منهم أو من غيرهم فهم أكثر الناس تناقضاً وانتقالاً من قول الى
قول.
فضعف الايمان جالب للانسان كثرة الجدل والمناظرة بالباطل لا
للوصول
للحق بل للمعارك الكلامية الهادفة للانتصار وليس ابتغاء الحق. وضعف
الايمان يزين للنفس الأهواء والآراء الباطلة كما الجهل بمذهب السلف
الصالح والكتاب والسنة. قال
(انما يهلكون بعد البينات بالمحدثات المخالفات وتزيين المضلات،
بالأهواء المغويات، وتحريف المحكمات).
لذلك ظهرت البدع والانحرافات العقائدية والفقهية
التى تتسم بمخالفة السنة والجماعة فقهاً وعقيدة وسلوكاً.
فالتسمية بالكلامية لن تكون مبعث الذم الا اذا اتخذها
مستحبى
العمى على الهدى، ولا التسمية بالسلف ستكون مبعث المدح - خاصة بعد
انكشاف تستر الغواة فى السلف الصالح، انما المعيار الحقيقى هو
معتقداتهم وأحكامهم التى اتخذوها كعقيدتهم أو زعمهم. "فحق قول رسولنا
الكريم
وخوفه على أمته".
ولكن الله عز وجل
دائما وأبدا - وخاصة فى فترات الضعف والانحراف - يُخلف العلماء الأجلاء
الهادين الى الصراط المستقيم بالهدى القرآنى السليم والنبوى الشريف.
وفى
ذلك
قول الامام الغزالى
"لا نسلم أن جهل أهل التشبيه جهل بألفاظه - أى بألفاظ الشريعة - بل
تقصيرهم فى كسب معرفة التقديس وتقديمه على النظر فى الألفاظ، ولو حصلوا
تلك المعرفة أولاً وقدموها لما جهلوها وانما الواجب عليهم تحصيل هذا
العلم ثم مراجعة العلماء اذا شكوا فى ذلك ثم كفّ النفس عن التأويل
والزامها التقديس، واذا رسم لهم العلماء ذلك، فإذا لم يفعلوا جهلوا".
وها هم أجلة العلماء قد رسموا ذلك
من
قبل وما زالوا وسيظلوا يزيلوا الغمة ويهدوا الأمة كما فى قول مولانا
وامامنا فى بيانه للأمه "ان النصوص المستخدمة فى الدعوة الى الله من آى
الكتاب العزيز وأحاديث الذى لا ينطق عن الهوى، مقدمة على الفهم، أى أن
الفهم والعقل يتبع النص، والفهم لابد أن يكون فهماً فقهياً وليس فهماً
منطقياً، بمعنى أن الفقه مربوط بأسباب
نزول، وناسخ ومنسوخ، ومحكم
ومتشابه، ومطلق ومقيد، وما الى ذلك من باقى علوم الفقه، كما أن هناك شئ
يغفل عنه بعض الدعاة، وهو فقه الزمان والمكان وعقول المخاطبين"، فحق
قول مولانا بأن "العيب لا يمكن أن يلحق النص، حاشاه من العيب أوالنقص
ولكن العيب يتعلق بالداعية نفسه". وهنا يتضّح تماماً قول امامنا فخر
الدين
عمن "نبه على اللازم دون الملزوم".
وبذلك تكون قد اتضحت (معرفة التقديس
وتقديمه
على النظر فى الألفاظ) التى تحدث عنها الامام الغزالى
.
ويتلخص كل ما سبق فى قول مولانا السديد
للأمه،
بأنه "يجب على الوعاظ والدعاة أن يتفقهوا بفقه النص واستيعاب العقل له،
وليس تطويع النص لمنطق العقل".
وكما قال امامنا
فخر
الدين
:
البعض
بالقرآن
ضل وما اهتدى ضل الطريق وباء بالخسران
وأيضاً
قوله
:
فان صراطى
مستقيم
وتابعى على أثرى يسعى اذا الناس ضلّت
فحقاً
سكن الفؤاد فعش هنيئاً يا جسد هذا النعيم هو المقيم للأبد
فهل لنا أعظم مما نحن فيه من هدى ونعيم! فلنشكر المولى على هُدانا
ولأنه عفانا من ابتلاء غيرنا، وندعوه بأن يعرفنا وجميع اخواننا - وليس
بعضنا - مسلك الحب, حتى تحوى قلوبنا الواحد صاحب الشهود والمشاهدة
الشاهد على قلوبنا.
فاطمة الزهراء
|