هجرته وسر صحبته

 

هناك عاملٌ واحد لا تصحُّ العلاقة بين النبى المصطفى وبين الصحابة الكرام بغيره، ولا تصحُّ نجاةُ الأمة المحمدية ودخولُها الجنةَ إلا به، تماما كما أشار حضرته إلى ذلك فى (حديث افتراق الأمة) حين قال فى الفرقة الناجية (ما أَنا عليه وأصحابى) وذلك فيما أخرجه الترمذى عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله (ليأتين على أمتى كما أَتى على بنى إِسرائيل حَذْوَ النَّعْلِ بالنَّعْلِ؛ حتى إِنْ كان منهم من أَتى أمَّه علانيةً لكان فى أَمتى من يصنع ذلك، وإِنَّ بنى إِسرائيل تفرَّقت على ثِنْتَيْنِ وسبعين ملَّة وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين ملَّة، كلُّهم فى النار إِلا ملَّة واحدة). قالوا: من هى يا رسول الله؟ قال (ما أَنا عليه وأصحابى). وهذه الكناية التى استخدمها نبينا الأمِّى العربى الرءوف الرحيم هى الطلسم الذى يتعين على كل من كان طالبا للنجاة مع الله ورسوله أن يفُكَّه، فليس كلُّ أحد يعرف سرَّ الكناية ولا كل أحد يقدر على فك الطلاسم، سيما إذا كان واضع الطلسم هو من لا ينطق عن الهوى .. إن هو إلا وحى يوحى .. علمه شديد القوى .. والمتأمل الجاد فى أخبار هجرة المصطفى قد يجد ضالَّته المنشودة بعد أن يرى كيف كان سلوك الصدِّيق مع حبيبه المصطفى !، وكيف كان سلوك أبى الحسنين ! وكيف كان سلوك سيدتنا أسماء وأخوها سيدنا عبد الله وخادمُهم عامر بن فهيرة وأجيـرُهم "ابن الأيقط" وهو من المشركين! بل وكيف كان حال سراقة يوم أن أوشك على الهلاك فنجا بعد أن أطلعه الله على "سر الأسرار" وهو سر أيضا صحبته؛ ألا وهو (حبُّ النبى المصطفى المختار)، وذلك عندما يتمكن هذا الحبُّ من قلب صادقٍ مخلصٍ فى دعواه فيكون سببا لنجاته فى الدين والدنيا والآخرة.

قراءة فى الهجرة ...

[أخرج الطبرانى عن أسماء بنت أبى بكر قالت:كان النبى يأتينا بمكة كل يوم مرتين، فلما كان يوم من ذلك جاءنا فى الظهيرة، فقالت: يا أبت، هذا رسول الله فبأبى وأمى، ما جاء به هذه الساعة إلا أمر...]

تعليق "تواضع الأعلى لمن دونه": انظر وتأمل مودة العالى فى الرتبة لمن هو دونه، وذلك لبيان شرفه وقدره وليهيئ الأمة إلى قبول فكرة كون الصدِّيق أهلا للخلافة من بعده .  

[... فقال رسول الله (هل شعرتَ أنَّ الله قد أذن لى فى الخروج؟) فقال أبو بكر : فالصحابَة يا رسول الله. قال: (الصحابةَ) -أى طلب الصحبة- قال: إنَّ عندى راحلتين قد علفتهما منذ كذا وكذا إنتظاراً لهذا اليوم، فخذ إحداهما، فقال (بثمنها يا أبا بكر) فقال: بثمنها - بأبى وأمى - إن شئت...]

تعليق "محبة الصدِّيق": تأمل يا أخى سؤاله للصديق : هل شعرتَ .. ؟ فشأن المحب والمحبوب أن ينصبغ كل منهما بصبغة أخيه فيشعر بمشاعره من غير إعلام أو إخبار .. ثم انظر كيف بحث الصدِّيق المحب الخالص فى محبته عما يمكن أن يطلبه المحبوب قبل أن يطلبه! وكيف يُعْمِلُ فكرَه ويعصِفُ ذهنَه ليكون على أهبة الاستعداد لمطلوبه ، فيعلف ناقتين لمدة ستة أشهر تحسُّبا لما يمكن أن يكون ... ثم تأمل تلك المحبة الجارفة التى تفجرت عندما عرض عليه النبى الهجرة والصحبة فيطلبها هو قبل أن يفعل النبى على سبيل الأدب الرفيع لكى يكون هو الطالب لصحبة النبى لا المطلوب تأدبا مع حضرة جنابه العالى . وتصف السيدة عائشة فى رواية كيف كان فرح الصديق بعرض النبى له صحبته .. قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله قال: "الصحبة" .. فوالله ما شعرت قطُّ قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكى من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذٍ يبكى ..

[... قالت: فهيّأنا لهم سُفْرة، ثم قطعت نِطاقها فربطتها ببعضه...]

تعليق "محبة أسماء بنت الصدِّيق": وهذا مشهد من بعض محبة السيدة أسماء بنت أبى بكر، فهى واحدة ممن علا ذكرهم فى تظاهرة الحب لإنجاح هجرة النبى المصطفى ، حتى أنها لم تجد ما تربط به سفرة الطعام فشقت نطاقها نصفين فربطتها بنصفه وربطت فم القربة أو السقاء بالنصف الآخر، فلما علم النبى بذلك قال لها (أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين فى الجنة) كما ورد فى صحيح مسلم، فلقِّبَت بـ "ذات النطاقين".

[... فخرجا فمكثا فى الغار فى جبل ثور. فلما انتهيا إليه دخل أبو بكر الغار قبله، فلم يترك فيه جُحْراً إلا أدخل فيه أصبعه مخافة أن يكون فيه هامَّة. وخرجت قريش حين فقدوهما فى بُغائهما، وجعلوا فى النبى مائة ناقة، وخرجوا يطوفون فى جبال مكة حتى انتهَوا إلى الجبل الذى هما فيه. فقال أبو بكر لرجل مواجه الغار: يا رسول الله، إنَّه ليرانا. فقال (كلا إنَّ ملائكة تسترنا بأجنحتها) فجلس ذلك الرجل فبال مواجه الغار، فقال رسول الله (لو كان يرانا ما فعل هذا)].

تعليق "تضحية وإيثار": من أسمى معانى الحب أن تحب إن كان أذى أو ضرر أن يقع بك أنت لا بمحبوبك، لهذا قال الصدِّيق للنبى حين همَّ أن يدخل الغار: مكانَك حتى أستبرئ الغار. فلما خرج تذكر أنه لم يستبرئ الجحور فقال ثانيةً للنبى : مكانَك حتى أستبرئ الجحرة. فدخل فألقم الأغوار حجارةً حتى بقى واحدٌ فألقمه كعبَه كى لا يصيب الأذى رسول الله .

[... فمكثا ثلاث ليالٍ، يُرَوِّحُ عليهما عامر بن فُهَيرة مولى أبى بكر بغنمٍ لأبى بكر، ويُدلج من عندهما، فيصبح مع الرعاة فى مراعيها، ويُرَوِّحُ معهم ويبطىء فى المشى، حتى إذا أظلم اليل انصرف بغنمه إليهما؛ فتظن الرعاة أنه معهم. وعبد الله بن أبى بكر يظلّ بمكة يتطلَّب الأخبار، ثم يأتيهما إذا أظلم الليل فيخبرهما، ثم يُدلج من عندهما فيصبح بمكة...]

تعليق "تظاهرة حب للنبى المصطفى ": وهاكم السيد عبد الله بن أبى بكر وهذا عامر بن فهيرة وآخر يدعى بن أرقط أو ابن أيقط من المشركين استأجره النبى وصاحبه ليكون دليلَهما .. كلُّهم جمعٌ مبارك فى هذه التظاهرة التى كان شعارها (نحن فداك يا رسول الله)، كلهم يحب الرسول ، حتى ذلك المشرك .. لو أراد أن يكسب مائة ناقة جائزة – وأكثر - لكان أقرب الناس لنوالها .. ونحسبه ما فعل إلا لأنه وجد فى حب رسول الله ما يملك عليه عقله وقلبه وروحه ...

[... ثم خرجا من الغار فأخذا على الساحل، فجعل أبو بكر يسير أمامه، فإذا خشى أن يُؤتى من خلفه سار خلفه، فلم يزل كذلك مسيره. وكان أبو بكر رجلاً معروفاً فى الناس، فإذا لقيه لاقٍ فيقول لأبى بكر: من هذا معك؟ فيقول: هادٍ يهدينى - يريد الهدى فى الدِّين - ويحسب الآخر دليلاً...]

تعليق "لا لوم على المحب فى أفعاله": انظر حال المحب إذا اعتراه فناء عقله فى محبوبه فلا يلقى بالاً لعقلانية الأفعال ولا للوم عاذل أو غافل بطَّال ... فإذا ذكر الطلب -أى من يطلبونهما- سار من خلفه، وإذا ذكر الرصد -أى من يرصدونهما ويترقبونهما- سار أمامه ومرة عن اليمين ومرة على اليسار ... يقول: لا آمن عليك ... هكذا فى بعض الروايات.

[...حتى إذا كان بأبيات قُدَيد - وكان على طريقِهِما - جاء إِنسان إلى بنى مُدْلج فقال: قد رأيت راكبين نحو الساحل، فإنِّى لأجدها لصاحب قريش الذى تبغون. فقال سراقة بن مالك: ذانك راكبان ممن بعثنا فى طَلِبَة القوم، ثم دعا جاريته فسارَّها، فأمرها أن تخرج فرسه ثم خرج فى آثارهما. قال سراقة: فدنوت منهما – وفى رواية للإمام أحمد قال سيدنا أبو بكر : فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك بن جُعْشُم على فرس له. فقلت: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا...]

تعليق: وهذا سراقة خرج من بيته للدنيا طالباً فرجع إليه فى الآخرة راغباً وللنبى صاحباً.

[... قال (لا تحزن إن الله معنا) ...]

تعليق "الخلافة طائر له جناحان": قول النبى للصِّدِّيق أبى بكر (لا تحزن إن الله معنا) ... هو منحة الحبيب إلى الحبيب، فللأولياء فى كتاب الله وصفان هما ﴿لا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ ... وقد نال إحداها الصديق ليلة الهجرة بقول النبى له (لا تحزن إن الله معنا) ... ثم نال الأمان من الخوف يوم انتقال النبى حتى أن كلَّ الناس بكى إلا الصديق ظل رابط الجأش متماسكا ... لأجل هذا كان كثيرا ما يردد قولته المشهورة "لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدمى فى الجنة"، فكأنَّ الخلافةَ طائرٌ له جناحان؛ أحدهما: (لا تحزن)، والثانى: (لا تخف)، وهو قول الله عن أوليائه ﴿لا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾.

[... حتى إذا دنا منا فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين، أو قال: رمحين أو ثلاثة، قلت: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا وبكَيت. قال: "لِمَ تبكى؟" قلت: أما والله ما على نفسى أبكى، ولكن أبكى عليك. فدعا عليه رسول الله فقال "اللهم أكفناه بما شئت" فساخت قوائم فرسه إلى بطنها فى أرض صَلْد، ووثب عنها وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك، فادعُ الله أن ينجينى مما أنا فيه، فوالله لأعمينَّ على من ورائى من الطلب. وهذه كنانتى فخذ منها سهماً، فإنك ستمر بإبلى وغنمى]

تعليق "رحمة النبى فى كيفية الدعاء": ما أحوج المضطر إلى قوة الله وبطشه وجبروته وانتقامه ممن أراد به سوءا، ولكن للمبعوث رحمة للعالمين منطقٌ آخر ... فانظر إليه وهو يدعو على سراقة دعاءً يصعب وصفه إلا على الأديب الأريب الحاذق البليغ ... فقد اقتصر فى صدر دعائه على مطلوبه فقط دون زيادة أو نقصان وبدون تحديد طريقة أو هيئة مخصوصة كما يفعل البعض فقال: اللهم اكفناه ... ثم بلغ أقصى درجات الأدب مع مولاه فترك له طريقة الكفاية أو الخلاص طمعا فى أن يكون له النصيب الأوفى من خالقه فينضوى مسلما تحت لواء الإسلام ... وهذا ما كان بعد ذلك من الكريم الأعلى قبولا لشفاعة الرءوف الرحيم ... وكيف لا وقد استوجب سراقة كلَّ الخير بعد أن هدى الله قلبه وعرف للحبيب محمدٍ فضلَه وقدرَه بقولته البديعة "يا محمد قد علمتُ أن هذا عملُك، فادعُ الله أن ينجينى مما أنا فيه" فأحسن العقيدة وأحسن الطلب، ما أروعه ... ثم صدَق الفعال فعمَّى على من يطلب النبى وصاحبَه وضلَّله لينجو الركبُ المبارك ويسيرُ آمناً مأموناً.

والحديث موصول ...

د. إبراهيم الدسوقى

 

 
 

ومن أراد الاستزادة فليطلع على موقع النبى

أسرة التحرير