نشرنا فى صفحات القواطع عن موضوع القواطع عن المهيمن من كتاب المرشد الوجيز، وها نحن فى هذا الباب نستكمل الموضوع بجوانب أخرى تكمله حتى تعم الفائدة:

 

 

ينظر إلى قلوبكم

تحدثنا سابقا عن القلب وأهميته إذ أن بصلاحه يصلح سائر الجسد وبفساده يفسد سائر الجسد، وتحدثنا عن عيوبه وأمراضه ولكن تعالوا بنا نتسائل ما هو القلب؟ من تعاريف القلب أنه هو قطعة اللحم الصنوبرية الشكل المودعة فى الجانب الأيسر من الصدر وهذا القلب يكون للبهائم أيضاً، وأما المعنى الإصطلاحى عند العارفين فهو لطيفة ربانية روحانية لها تعلق بالقلب الجسمانى كتعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات، وهذا هو المراد بقول الحق فى الآيات الكريمة على سبيل المثال منها لا الحصر، قوله تعالى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ الرعد 13: 28، وفى هذه الآية الكريمة قالوا: الطمأنينة على قسمين: طمأنينة إيمان وطمأنينة شهود عيان. قوم اطمأنوا إلى غائب موجود، وقوم إلى آخر مشهود. قوم اطمأنوا بوجود الله من طريق الإيمان على نعت الدليل والبرهان، وقوم اطمأنوا بشهود الله من طريق العيان على نعت الذوق والوجدان، وهذه ثمرة الإكثار من ذكر الله.

قال الشيخ الشاذلى : حقيقة الذكر: ما اطمأن بمعناه القلب، وتجلّى فى حقائق سحاب أنوار سمائه الرب.

وقوله عز وجل ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ﴾ الحج 22: 46، وفى معنى عماء القلب قالو:

عمى القلوب هو انطماس البصيرة، وعلامة انطماسها أمور: إرسال الجوارح فى معاصى الله، والانهماك فى الغفلة عن الله، والوقيعة فى أولياء الله، والاجتهاد فى طلب الدنيا مع التقصير فيما طلبه منه الله. وفى الحِكَم: «اجتهادك فيما ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك، دليل على انطماس البصيرة منك». وعلامة فتحها أمور: المسارعة إلى طاعة الله، واستعمال المجهود فى معرفة الله، بصحبة أولياء الله، والإعراض عن الدنيا وأهلها، والأنس بالله، والغيبة عن كل ما سواه.

والبصر والبصيرة متقابلان فى أصل نشأتهما، فالبصر لا يُبصر إلا الأشياء الحسية الحادثة، والبصيرة لا تُبصر إلا المعانى القديمة الأزلية، فإذا انطمست البصيرة كان العبد مفروقاً عن الله، لا يرى إلا الأكوان الظلمانية الحادثة. وفى ذلك يقول الشيخ المجذوب :

مَنَ نَظَرَ الكَوْن بِالْكَوْنِ غَرَّهُ فى عمى البصيرة، ومن نظر الكَوْن بالمُكَوِّنْ صادق علاج السريرة.

وإذا انفتحت البصيرة بالكلية استولى نورها على نور البصر، فانعكس نور البصر إلى البصيرة، فلا يرى العبدُ إلا أسرار المعانى الأزلية، المفنية للأوانى الحادثة، فيغيب عن رؤية الأكوان بشهود المُكَوِّنْ. وعِلاَجُ انفتاحها يكون على يد طبيب ماهر عارف بالله، يقدحها له بمرود التوحيد، فلا يزال يعالجها فيبتدى بتوحيد الأفعال، ثم توحيد الصفات، ثم توحيد الذات، حتى تنفتح. فتوحيد الأفعال والصفات يُشهد قُرب الحق من العبد، وتوحيد الذات يُشهد عدمه لوجود الحق ، وهو الذى أشار إليه فى الحكم بقوله: «شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق، لا عدمك ولا وجودك. كان الله ولا شىء معه، وهو الآن على ما عليه كان». فيرى حينئذ من أسرار الذات وأنوار الصفات ما لا يراه الناظرون، ويشاهد ما لا يشاهده الجاهلون. وفى ذلك يقول سيدى الحلاج :

قلُوبُ العَارفينَ لَهَا عُيُونٌ            تَرَى مَا لا يُرَى للنَّاظِرِينَا

وأجْنِحَةٌ تَطِيرُ بِغَيْرِ رِيشٍ            إلَى مَلَكُوتِ رَبِّ العَالمِينا

وألْسِنَةٌ بأسْرَارٍ تُنَاجِى              تَغيبُ عن الكِرَامِ الكَاتِبِينا

وقيل فى المعنى الإصطلاحى للقلب أيضاً: هو جوهر نورانى مجرد، وهو وسط بين الروح والنفس، وبهذا الجوهر تتحقق الإنسانية ويسمى الحكماء هذا الجوهر النفس الناطقة.

وإلى حديث قدسى يبين لنا أهمية هذا الجوهر النورانى أو هذه اللطيفة الربانية التى وضعها المولى تبارك وتعالى فى الإنسان، فإلى جانب أن القلب هو محل نظر الحق من العبد، فقد قال المولى عز وجل (ما وسعنى سمائى ولا أرضى ولكن وسعنى قلب عبدى المؤمن) وإذا أردنا أن نفهم معنى هذا ا لحديث دون الوقوع فى التشبيه، وتنزيه الحق عن المكان والجهة وقال سيدى فخر الدين فى هذا الموضوع:

ولا تقولن فى التشبيه قولتهم         وكن بما جاء عنا العين مكتحلا

ولكى نحذر الزلل والوقع فى مثل هذه الأمور التى قد تودى بعقيدة المرء إلى مهاوى لا يعلمها إلا الله، فعلينا أن نرجع إلى ساداتنا أهل الله الصالحين العارفين حقاً الذين أوقدت فتيلتهم من زيت الحبيب المصطفى فأضاءت جهاتهم وتولدت منهم المعارف والعلوم الربانية اللدنية، فحينما تكلموا على هذا الحديث قالوا: هذا الوسع على ثلاثة أنواع كلها شائعة فى القلب:

النوع الأول: هو وسع العلم وذلك هو المعرفة بالله فلا شئ فى الوجود يعرف آثار الحق ويعرف ما يستحقه كما ينبغى إلا القلب، لأن كل شيئ سواه إنما يعرف ربه من وجه دون وجه، لا من كل الوجوه فهذا أوسع.

النوع الثانى: هو وسع المشاهدة وذلك هو الكشف الذى يطلع القلب على محاسن جمال الله تعالى به فيذوق لذة أسمائه وصفاته بعد أن يشهدها، ولا شئ سواه كذلك فإنه إذا تعقل مثلاً علم الله تعالى بالموجودات وسار فى فلك هذه الصفة ذاق لذتها وعلم بمكانة هذه الصفة من الله، ثم فى القدرة كذلك ثم فى جميع أوصاف الله وأسمائه تعالى، فإنه يتسع كذلك وهذا الوسع للعارفين.

النوع الثالث: وسع الخلافة وهو التحقيق بأسمائه وصفاته.

عصام