من يطع الرسول

يقول الحق سبحانه ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ النساء 4: 80

فى هذا النداء لم يحدد الله المؤمنين أو حتى الناس وإنما يمكن أن يكون لجميع الخلائق، كما أن النداء أيضا لم يحدد زمن بمعنى أنه صالح لكل العصور والأزمنة وبالتالى ينطبق على كل الأنبياء والرسل والملائكة فى كل زمان ومكان، وهو:

أولا: تشريف للنبى بأعلى القدر والمقدار حيث يدلنا على أنه لا ينطق بغير ما أراد الله ولا يأمر إلا بأمره ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ النجم 53: 3، وبالتالى فهو ينسب له العصمة من أى خطأ، وهو ما ليس متاح لأى بشر غيره، يقول (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون).

ثانيا: هذه الآية تعطى للنبى الحق فى أن يأمر فيطاع وتؤكد فى نفس الوقت للخلق أنه فى كل حالاته لن يصدر منه ما لا يرضى عنه الله، وأنه قد انقطعت عنه مصادر التضليل من النفس والأهواء والدنيا والشيطان، وفى هذا تأكيد لما روته السيدة عائشة من سؤالها للنبى : أوليس لك شيطان؟ ورده عليها (نعم ولكن الله أعاننى عليه فأسلم).

ثالثا: فى هذه الآية إشارة إلى علو قدر المصطفى ومدى قربه من الله حيث جعل مدخل طاعة الله هو طاعته وأقرن طاعته سبحانه بطاعته دائما، وهو ما يظهر فى آيات الطاعة مثل ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ أل عمران 3: 32، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْئٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾ النساء 4: 59، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ الأنفال 8: 20، ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ النور 24: 54، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ محمد 47: 33، ﴿وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا﴾ الحجرات 49: 14، ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ النساء 4: 13، ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ النساء 4: 69، ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ النور 24: 52، ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ الأحزاب 33: 71، ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ الفتح 48: 17، ولا ترى فى أى أمر بالطاعة إلا إقران بطاعة الرسول، بل إنه سبحانه فى بعض الآيات أمر بطاعته منفردا مثل: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ النور 24: 54،  ولم يجل الله سبحانه وتعالى أى نبى غيره بهذا.

وتاملوا معنا آراء المفسرين الأجلاء فى الآية التى بين أيدينا:

ففى تفسير فتح القدير:

﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ فيه أن طاعة الرسول طاعة لله، وفى هذا من النداء بشرف رسول الله ، وعلوّ شأنه، وارتفاع مرتبته ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، ووجهه أن الرسول لا يأمر إلا بما أمر الله به، ولا ينهى إلا عما نهى الله عنه ﴿وَمَن تولى﴾ أى: أعرض ﴿فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ أى: حافظاً لأعمالهم، إنما عليك البلاغ.

ومن تفسير الطبرى:

القول فى تأويل هذه الآية: قال أبو جعفر: وهذا إعذارٌ من الله إلى خلقه فى نبيه محمد ، يقول الله تعالى ذكره لهم: من يطع منكم، أيها الناس، محمدًا فقد أطاعنى بطاعته إياه، فاسمعوا قوله وأطيعوا أمرَه، فإنه مهما يأمركم به من شىء فمن أمرى يأمركم، وما نهاكم عنه من شيئ فمن نهيى، فلا يقولنَّ أحدكم: إنما محمد بشر مثلنا يريد أن يتفضَّل علينا!

ومن تفسير الإمام القشيرى:

هذه الآية تشير إلى الجَمْع لحال الرسول ، فقال سبحانه طاعته طاعتنا، فمن تقرَّبَ منه تقرَّبَ منا، ومقبولُه مقبولُنا، ومردودُه مردودنا.

ومن تفسير الرازى:

والمعنى أن من أطاع الرسول لكونه رسولا مبلغا إلى الخلق أحكام الله فهو فى الحقيقة ما أطاع إلا الله، وذلك فى الحقيقة لا يكون إلا بتوفيق الله، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا، فإن من أعماه الله عن الرشد وأضله عن الطريق، فان أحداً من الخلق لا يقدر على إرشاده.

واعلم أن من أنار الله قلبه بنور الهداية قطع بأن الأمر كما ذكرنا، فإنك ترى الدليل الواحد تعرضه على شخصين فى مجلس واحد، ثم إن أحدهما يزداد إيماناً على إيمان عند سماعه، والآخر يزداد كفراً على كفر عند سماعه، ولو أن المحب لذلك الكلام أراد أن يخرج عن قلبه حب ذلك الكلام واعتقاد صحته لم يقدر عليه، ولو أن المبغض له أراد أن يخرج عن قلبه بغض ذلك الكلام واعتقاد فساده لم يقدر، ثم بعد أيام ربما انقلب المحب مبغضا والمبغض محباً، فمن تأمل للبرهان القاطع الذى ذكرناه فى أنه لا بد من إسناد جميع الممكنات إلى واجب الوجود، ثم اعتبر من نفسه الاستقراء الذى ذكرناه، ثم لم يقطع بأن الكل بقضاء الله وقدره، فليجعل واقعته من أدل الدلائل على أنه لا تحصل الهداية إلا بخلق الله من جهة أن مع العلم بمثل هذا الدليل، ومع العلم بمثل هذا الاستقراء لما لم يحصل فى قلبه هذا الاعتقاد، عرف أنه ليس ذلك إلا بأن الله صده عنه ومنعه منه. بقى فى الآية مسائل:

المسألة الأولى: قوله ﴿مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾ من أقوى الدلائل على أنه معصوم فى جميع الأوامر والنواهى وفى كل ما يبلغه عن الله، لأنه لو أخطأ فى شيئ منها لم تكن طاعته طاعة الله وأيضا وجب أن يكون معصوما فى جميع أفعاله، لأنه تعالى أمر بمتابعته فى قوله ﴿واتبعوه﴾ الأعراف 7: 158، والمتابعة عبارة عن الاتيان بمثل فعل الغير لأجل أنه فعل ذلك الغير، فكان الآتى بمثل ذلك الفعل مطيعاً لله فى قوله ﴿واتبعوه﴾ فثبت أن الانقياد له فى جميع أقواله.

وفى المسألة الثانية: قوله ﴿مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾ يدل على أنه لا طاعة إلا لله البتة، وذلك لأن طاعة الرسول لا تكون إلا طاعة لله، فكانت الآية دالة على أنه لا طاعة لأحد إلا لله. قال مقاتل فى هذه الآية: ان النبى كان يقول (من أحبنى فقد أحب الله ومن أطاعنى فقد أطاع الله) فقال المنافقون: لقد قارب هذا الرجل الشرك وهو أن ينهى أن نعبد غير الله، ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى، فأنزل الله هذه الآية.

أما قوله ﴿وَمَن تولى فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ ففيه قولان: أحدهما: أن المراد من التولى هو التولى بالقلب، يعنى يا محمد حكمك على الظواهر، أما البواطن فلا تتعرض لها. والثانى: أن المراد به التولى بالظاهر، ثم ههنا ففى قوله: ﴿فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ قولان:

الأول: معناه فلا ينبغى أن تغتم بسبب ذلك التولى وأن تحزن، فما أرسلناك لتحفظ الناس عن المعاصى، والسبب فى ذلك أنه كان يشتد حزنه بسبب كفرهم وإعراضهم، فالله تعالى ذكر هذا الكلام تسلية له عن ذلك الحزن.

الثانى: أن المعنى فما أرسلناك لتشتغل بزجرهم عن ذلك التولى وهو كقوله: ﴿لا إِكْرَاهَ فِى الدين﴾ البقرة 2: 256، ثم نسخ هذا بعده بآية الجهاد.

ومن تفسير الألوسى:

﴿مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾ بيان لأحكام رسالته إثر بيان تحققها، وإنما كان كذلك لأن الآمر والناهى فى الحقيقة هو الحق سبحانه، والرسول إنما هو مبلغ للأمر والنهى فليس الطاعة له بالذات إنما هى لمن بلغ عنه. وفى بعض الآثار عن مقاتل أن النبى كان يقول (من أحبنى فقد أحب الله تعالى ومن أطاعنى فقد أطاع الله تعالى) فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل لقد قارف الشرك، وهو نهى أن يعبد غير الله تعالى ما يريد إلا أن نتخذه رباً كما اتخذت النصارى عيسى؟ فنزلت الآية. فالمراد بالرسول نبينا ، والتعبير عنه بذلك ووضعه موضع المضمر للإشعار بالعلية، وقيل: المراد به الجنس ويدخل فيه نبينا دخولاً أولياً، ولكن يأباه تخصيص الخطاب فى قوله تعالى ﴿وَمَن تولى فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ وجعله من باب الخطاب لغير معين خلاف الظاهر، و﴿مِنْ﴾ شرطية وجواب الشرط محذوف، والمذكور تعليل له قائم مقامه أى ومن أعرض عن الطاعة فأعرض عنه لأنا إنما أرسلناك رسولاً مبلغاً لا حفيظاً مهيمناً تحفظ أعمالهم عليهم وتحاسبهم عليها، ونفى كما قيل كونه حفيظاً أى مبالغاً فى الحفظ دون كونه حافظاً لأن الرسالة لا تنفك عن الحفظ لأن تبليغ الأحكام نوع حفظ عن المعاصى والآثام، وانتصاب الوصف على الحالية من الكاف، وجعله مفعولاً ثانياً لأرسلنا لتضمينه معنى جعلنا مما لا حاجة إليه، و﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق به وقدم رعاية للفاصلة، وفى إفراد ضمير الرفع وجمع ضمير الجر مراعاة للفظ من ومعناها، وفى العدول عن ومن تولى فقد عصاه الظاهر فى المقابلة إلى ما ذكر ما لا يخفى من المبالغة.

ومن تفسير الزمخشرى:

﴿مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾ لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله به ولا ينهى إلا عما نهى الله عنه فكانت طاعته فى امتثال ما أمر به والانتهاء عما نهى عنه طاعة لله، وروى أنه قال (من أحبنى فقد أحبّ الله، ومن أطاعنى فقد أطاع الله) فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل، لقد قارف الشرك وهو ينهى أن يعبد غير الله! ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى، فنزلت: ﴿وَمَن تولى﴾ عن الطاعة فأعرض عنه ﴿فَمَا أرسلناك﴾ إلا نذيراً، لا حفيظاً ومهيمناً عليهم تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم، كقوله: ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ الأنعام 6: 107.

والخلاصة:

هى كما ذكرنا اولا؛ أن هذه الآية تقريظ للرسول الكريم فما ينطق عن الهوى، وإثبات لحفظ الرسالة من خلال عصمته , وإلحاق وتقريب له بمولاه فلا يفصل فى طاعته واحترامه عن الذى أرسله حيث أنه سبحانه ضمن له صحة عمله وقوله، وكيف لا وهو الشاهد المبشر النذير الداعى إلى الله بإذنه والسراج المنير.

سامر الليل

 

ومن أراد الاستزادة فليطلع على موقع النبى

أسرة التحرير