يحاول بعض الناس أما عمدا أو جهلا أن يخدعوا أنظار المسلمبن عما كان عليه السلف الصالح ويدعون معرفتهم ويتسببون فى حيرة الناس حتى أنهم ليتسائلون:

 

 

شعر الصوفية أم القرآن؟ 2

نكمل ما قلناه بالعدد السابق عن هذا الموضوع فنقول وبالله التوفيق:

بعد أن أثبت لنا المولى تبارك وتعالى فى الآية الكريمة السابق ذكرها بالعدد السابق فقال ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴾ الشعراء 224، أى السفهاء, أو الضالون عن طريق الرشد, الحائرون فيما يفعلون ويذرون, لا يستمرون على وتيرة واحدة فيما يقولون ويفعلون ثم استثنى منهم أهل الإيمان أهل الرشد, المهتدون إلى طريق الحق الثابتين عليه.

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ الشعراء 225، أى الشعراء الضالون فى كل واد من أودية القيل والقال, وفى كل شعبه من شعب الوهم والخيال, وفى كل مسلك من مسالك الغى والضلال يهيمون قال أبو السعود ثم استثنى من الشعراء المؤمنين, فقال: ﴿إِلا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ الشعراء 227، كعبد الله بن رواحه وحسان بن ثابت وكعب بن زهيرة وكعب بن مالك.

﴿وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا الشعراء 227، أى: كان ذكر الله وتلاوة القرآن أغلب عليهم من الشعر, وإذا قالوا الشعر قالوا فى توحيد الله والثناء عليه, والحكمة والموعظة, والزهد والأدب, ومدح الرسول وأولياء الله، وهجاء أحق الخلق بالهجاء؛ وهم من كذّب رسول الله وهجاه.

وعن كعب بن مالك: أن رسول الله قال له: (اهجهم, فوالذى نفسى بيده لهو أشد عليهم من رشق النبل). وكان يقول لحسَّان: (قل وروح القدس معك) فانظر ماذا يقول واحد مثل حسّان بن ثابت ومعه فى قصائده روح القدس وهو جبريل عليه السلام، الذى أنزل الوحى على رسولنا الكريم, فكلامه كله لا يخلو من ذكر الله والتوحيد والموعظة الحسنه والحكمة.

وقد ذكرنا لك بالعدد السابق الحديث بأسانيده (إن من الشعر لحكمة) ويقول الحق تبارك وتعالى: ﴿يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ ﴾ البقرة 269. وقد قال الإمام القشيرى الحكمة: أن يحكم عليه خاطر الحق لا داعى الباطل. ويقال الحكمة: الصواب. ويقال الحكمة: شهود الحق  وفى اصطلاح الصوفية يعبرون عن أسرار الذات بالقدرة, وعن أنوار الصفات - وهى ظهور آثارها - بالحكمة. وقيل الحكمة أى السنة. ويقول الحق تبارك وتعالى فى كتابه العزيز ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ 2-3 سورة الجمعة.

وهو يعلم ﴿َآَخَرِينَ مِنْهُمْ﴾ بعد الأميين الذين هم فى عصره وهم الصحابة – ﴿َآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ أى لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون, وهم الذين يأتون بعد الصحابة إلى يوم القيامة. هـ

إذن الرسول يعلم الكتاب والحكمة إلى يوم القيامة وكل ما ذكرته من معان قرآنيه للإمام ابن عجيبة والإمام الطبرى والإمام القشيرى والإمام النيسابورى وآخرين. فقصائد القوم تنطق بمعانى آيات الكتاب وما يتزكى به المسلم ويتطهر به, وما تروى به القلوب من نبع الحكمة.

ونذكر لك أيها القارئ الكريم بعض الأمثلة من قصائد السادة الصوفية التى لا تحتاج منك إلى جهد فى فهما مثل قصيدة سيدى قريب الله والتى منها الأبيات التالية:

أضرب عن الناس وادخل حضرة الله    والله والله لا تلقى سوى الله

والله والله لا يغنيك ذو سعة         فى أى أمر ولا يحميك ذو جاه

ولا يضرك دون الله من احد               فوَحد الله خل الشرك بالله

ولا تقل إن ذاك الذكر مبتدع             احذر أقاويل قطاع عن الله

أضلهم قول أفاك وذو عمه               عن المهيمن ساه نائم لاه

فالذكر في الملأ العٌلوى جاء به   حديث قدسى من الهادى عن الله
فمن يكن ذاكراُ لله في ملأ    فى الأرض يُذكر فى الأعلى لدى الله
أسبغ وضوءك وادخل بسكينة      فى حضرة الذكر وانو القرب لله

واخلص لربك إخلاصا بلا غرض       وغمض العين ولتنظر إلى الله

فهذا جزء من قصيدة طويلة تتحدث عن ذكر الله فى جماعة وتسمى الحضرة، وأن الله هو وحده الذى يجب الانشغال به فلا نافع ولا ضار سواه، كما تذكر الحديث القدسى الذى يؤيدها وتحثنا على الالتزام بآداب الحضرة.

وإليك أيضا أبيات من قصيدة لسيدى فخر الدين؛ يقول فيها:

سيدا لم تزل وغيرك زالوا          وجميعا إلى جنابك آلوا

وكريما ورحمة وإماما              وعظيما وليس فيك يقال

وأمان بغير حصنك وهم       وهدى غير ما تقول ضلال

فكل الأبيات تتحدث عن الحبيب المصطفى أنه الباقى ذكره وأنه رحمة وأنه إمام وانه كثير العطاء والسخاء وانه أمان وحصن الخ ... والكلام هنا مفهوم وسهل ومباشر.

ولكن الكثير من قصائد الصوفية التى تتحدث عن معان عالية من الآيات أو السير والسلوك إلى الله أو النصائح والحكم تحتاج إلى فهم لاصطلاحات أهل الله ومعرفتها، ومن هذه القصائد ما ينشر فى صفحات التدارس فى المجلة، فيمكنك تتبع شرح بعض الأبيات لتتعرف على قصائدهم وما تحوى من معان عظيمه لألفاظ وآيات كتاب الله عز وجل.

ومن أمثلة القصائد التى قد يصعب فهما ولا ينصح لمن ليس له شيخ موجه مربى من أهل الله أن يخوض فيها: قول العارف بالله الشيخ محمد عثمان عبده:

كفر الناس بتكفير الذى     عبد الرحمن لما أن كفر

الكفر الأول هو الخروج من الدين والكفر الثانى هو التغطية ولا يكون إلا فى مراتب الدين العالية التى يحصل فيها السالك على علوم وأسرار لا يصلح له إلا أن يكتمها ويغطيها. وبالطبع فهناك أمثلة فى القرآن على احتواء نفس الكلمة على معنيين مثل قوله سبحانه ﴿ليس على الأعمى حرج﴾ وقوله أيضا ﴿من كان فى هذه اعمى فهو فى الآخرة أعمى﴾ فالعمى الأول عمى البصر والعمى الثانى عمى القلب والبصيرة.

فالبيت السابق يخبرنا بأن الناس كفروا عندما يكفروا عباد الرحمن الذين تعلموا علوما من القرآن فغطوها وستروها وذلك لحكمة إلهية مثل الخضر كان شرطه مع سيدنا موسى هو أن لا يسأله عن شيئ وعندما سأله للمرة الثالثة قال له ﴿هذا فراق بينى وبينك﴾، ومثل ذلك الولى الذى علمه الله من الاسم الرحمن الذى علّم القرآن إذا كفَّره الناس فهم بذلك يكفرون وذلك لقول المصطفى الحديث: (من كفَّر مسلما فقد كفَر) وفى رواية (إلا باء بها أحدهما)، فالكفر الثانى فى البيت معناه التغطية وليس الخروج من الدين.

ويتهم البعض الصوفية بأنها تقول: وما الكلب والخنزير إلا إلاهنا؛ فهم مخطئون والعبارة تقول إلا إلى هنا – وكان القائل يشير إلى التراب - لأنهم يوم القيامة يكونوا ترابا. فالتجنى سهل والافتراء والكذب والبهتان لكن عاقبتهم العقاب والعذاب والعياذ بالله. فالأولى أن نسأل أهل الذكر إن كنا لا نعلم فعندما قال سيدنا عمر: ‘يا سارية الجبل’ وسأله الصحابة قال: ‘هى كلمات أجراها الله على لسانى’ فالكلام كلام الله ولكن على لسان عمر فافهم. وعندما قال سيدى إبراهيم فى الحضرة: ‘أنا الله’ قالوا له: لقد كفرت. وسألهم: لماذا؟ قالوا: لقد قلت أنا الله. فقال لهم: خذوا هذا السيف واقتلونى إن قلت هذا مرة أخرى. فعندما قالها ثانيه، وأرادوا قتله بالسيف كان السيف يمر فى رقبته كأنه يمر فى الهواء. فقالوا له: لقد فعلنا ولكن دون جدوى. فقال لهم: اعلموا من القائل، فالقائل هو الله ولكن على لسانى ولست أدعى أننى الله.

ويقول المولى تبارك وتعالى: ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه... ﴾ فكان سيدنا عمر بهذا المعنى الحجاب الذى خاطب الله به سارية، ويكون سيدى إبراهيم كذلك، فالله واحد أحد فى كل زمان وفى كل مكان، فان نطق بالحقائق على ألسنه عباده الصالحين فما ذاك إلا للإخبار عن صدقهم وولايتهم، منحنا الله حبهم وحب من يحبهم، آمين.

وهكذا فقصائد الصوفية التى تأتى للصالحين حال غيابهم عن الخلق فى مشاهدة الحق سبحانه لا تحوى سوى الحقائق، وعندما نسمعها فهى تحفز الهمم لذكر الله وطاعته، وحب المصطفى وأهل بيته، وهى تسير على درب القرآن، تستقى من باطنه وتشرح من ظاهره وتصول فى حده وتجول فى مطلعه، لأنها تعبر عن مشارب الصالحين من هذا الرحيق المختوم، وختامه مسك وفى ذلك فليتنافس المتنافسون.

 

محمد مقبول