كان ... ما كان
موقف
إبليس من آدم

أوحى الله تعالى من الأرض إنى خالق من أديمك خلقاً،
فمنهم من يطيعنى ومنهم من يعصينى فمن أطاعنى أدخلته الجنة ومن عصانى
أدخلته النار.
فلما قبض ملك الموت قبضة من الأرض فحزنت على ما نقص
منها فأوحى الله إليها إنى سوف أرد إليك ما أخذ منك، وهو قوله تعالى
﴿منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى﴾.
أمر المولى تبارك وتعالى الملائكة بصب ماء من الجنة على
قبضة التراب ثم سلط عليها الحرارة وجعل من هذا الخليط (تراب - ماء -
هواء - نار) جسداً مصوراً وألقاه فى طريق الملائكة مدة أربعين سنة،
فكان إبليس اللعين يمر على هذا الجسد ويضربه بيده أو بقدمه، فعلم أنه
أجوف فدخل إلى بطنه فاطلع على جميع أعضائه ظاهراً وباطناً إلا قلبه
فإنه لم يطلع عليه أحد غير الله تعالى، فلما خرج من داخله أضمر فى نفسه
أمراً، لإن سلطنى الله عليه لعذبته، وإن سلطه الله علىّ لعصيته، لما
هذا الحقد وكل هذه العداوة؟
لكى نجيب على هذا السؤال يجب أن نعود إلى ما كان
قبل
ذلك:
تبدأ الحكاية من قبل خلق سيدنا آدم خلق الله تعالى الجن
واسكنهم الأرض فتناكحوا وتناسلوا وكثروا حتى امتلئت بهم الأرض طولاً
وعرضاً، وزاد بأسهم على بعض فكثرت بينهم الحروب، وكثرت المعصية، وكان
منهم إبليس وكان كثير العبادة والورع وتضرع إلى ربه أن يرفعه من هذه
الأرض ويبعده عن هؤلاء القوم، فأجابه ربه وصار وسط الملائكة وعرف بينهم
بـ عزازيل، وعبد الله فى سماء جازها، ولما اشتد بأس الجن بعضهم على بعض
وزادت معاصيهم غضب الله عليهم وبعث جنود من الملائكة وعلى رأسهم عزازيل
فحاربوا الجن وقتلوا منهم ماشاء الله وطردوا الباقية إلى شعب الجبال
وجزائر البحار، وجعل الله عزازيل على سماء الدنيا خازناً، فوقع فى صدره
الكبر والخيلاء، وهو أقصر طريق إلى البلاء، وكان قد قرأ على ساق العرش
{إنى جاعل فى الأرض خليفة} مثل ما حدث مع بقية الملائكة، وفات من الوقت
الكثير حتى بات على يقين أنه المقصود، وأن ملكه على الأرض سيسود، فلما
رأى جسد سيدنا آدم عليه السلام أمامه موجود خشى أن يكون هو المقصود
فحقد عليه وأضمر له العداء.
ولما أُمِرَ بالسجود امتنع ولهواه اتبع فقال الله تعالى
له ﴿ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى﴾ فقال ﴿أنا خير منه خلقتنى من نار
وخلقته من طين﴾ والنار أشرف من الطين، وأنا كنت مستخلفاً فى الأرض،
وأنا المُلبس بالريش، والموشح بالنور، والمتوج بالكرامة، وأنا الذى
عبدتك فى سمائك وأرضك دهراً طويلاً قبل أن تخلقه، فقال تعالى له ﴿فاخرج
منها إنك رجيم0 وإن عليك لعنتى إلى يوم الدين﴾، ﴿لأملأن جهنم منك وممن
تبعك﴾ فقال إبليس عند ذلك ﴿رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون﴾ فقال الله تعالى
﴿فإنك من المنظرين﴾.
فانظروا معى إلى أى مدى فعل به كبره وبغضه لسيدنا آدم،
فقد عماه عن طاعة أمر الله، ولم تنفعه كثرة عبادته لجهله، لأنه لو علم
لسجد طاعة لأمر الله، ولكنه لم يفهم أن القبلة آدم والسجود لله تعالى،
والغرور جعله يقول ﴿أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين﴾ معتقد أن
النار أسمى وأشرف من الطين، والعكس صحيح، وإليكم خمسة عشر نقطة توضح
مدى جهله وإنه ذكر هذا الكلام على سبيل التعنت:
الأولى: إن النار طبعها الإفساد والإتلاف بخلاف التراب.
الثانية: إن النار طبعها (الخفة - والطيش - والحدة)
والتراب طبعه الرزانة والسكون والثبات.
الثالثة: إن التراب التكوّن منه، وفيه أرزاق الحيوان
وأقواتهم ولباس العباد وزينتهم وآلات معيشتهم ومساكنهم، والنار لا يكون
فيها شئ من ذلك.
الرابعة: التراب ضرورى للحيوان لا يستغنى عنه ولا عما
يتكون فيه ومنه، والنار يستغنى عنها الحيوان البهيم مطلقاً، وقد يستغنى
عنها الإنسان الأيام والشهور فلا تدعوه إليها ضرورة.
الخامسة: أن التراب إذا وضع فيه القوت أخرجه أضعاف
أضعاف ما وضع فيه، فمن بركته يؤدى ما استودع فيه إليك مضاعفاً، ولو
استودعته النار لخانتك وأكلته ولم تبق ولم تذر.
السادسة: إن النار لا تقوم بنفسها بل هى محتاجة إلى من
تقوم به يكون حاملاً لها، والتراب لا يحتاج إلى حامل، فالتراب أكمل
منها لغناه وفقرها.
السابعة: إن النار محتاجة إلى التراب وليس التراب
محتاجاً إليها لأن المحل الذى تقوم به النار لا يكون إلا متكوناً من
التراب أو فيه، فهى الفقيرة إلى التراب وهو الغنى عنها.
الثامنة: أن المادة الإبليسية هى المارج من النار وهو
ضعيف تتلاعب به الأهوية فيميل معها كيفما مالت ولهذا غلب الهوى على
المخلوق منه فأمره وقهره، أما التراب فهو قوى لا يذهب مع الهوى، قهر
هواه وأمره ورجع إلى ربه، فاجتباه واصطفاه.
التاسعة: إن النار وإن كان منها بعض المنفعة لكن الشر
كامن فيها، أما التراب فالخير والبركة كامن فيه.
العاشرة: أن الله تعالى أكثر ذكر الأرض فى كتابه وأخبر
عن منافعها وخلقها وأنه جعلها مهاداً وفراشاً وبساطاً وقراراً وكفاتاً
للأحياء والأموات ودعا عباده للتفكير فيها والنظر إلى آياتها وعجائبها
وما أودع فيها، ولم يذكر النار إلا فى معرض العقوبة والتخويف والعذاب،
إلا فى موضعين تذكره بنار الآخرة ومتاع لبعض أفراد الناس النازلون
بالأرض الخالية.
الحادية عشر: إن الله وصف الأرض بالبركة وأما النار
فإنه لم يخبر أنه جعل فيها بركة أصلاً.
الثانية عشر: إن الله تعالى جعل الأرض محل بيوته التى
يذكر فيها اسمه فلو لم يكن فى الأرض إلا بيته الحرام لكفاها ذلك شرفاً
وفخراً على النار.
الثالثة عشر: إن الله أودع فى الأرض المعادن والأنهار
والحيوانات والثمار وغيرها من الأشياء النافعة ولم يودع فى النار
شيئاً.
الرابعة عشر: إن النار وضعت خادمة لمن فى الأرض، فالنار
محلها محل الخادم لهذه الأشياء فهى خادمة فقط، إذا استغنيت عنها
أبعدتها وطردتها، وإذا احتجت إليها استدعيتها كما يفعل المخدوم مع
الخادم.
الخامسة عشر: إن الطين مركب من تراب وماء، الماء الذى
جعل الله تعالى كل شئ منه حياً والتراب الذى جعله الله خزانة المنافع
والنعم.
وللحديث بقية ...
أحمد نور الدين عباس |