النسر 2

ذكرنا فى العدد الماضى ما قاله الجوهرى من أن ’نسر‘ صنم لذى الكلاع بأرض حمير، وكان يغوث لمذحج، ويعوق لهمدان من أصنام قوم نوح . قال الله تعالى: ﴿ولا يغوث ويعوق نسرا﴾ انتهى، واليوم نكمل لكم:

وإلى هذا أشار العباس ، عم النبى ، لما أتى النبى منصرفه من تبوك، فقال: يا رسول الله إنى أريد أن أمتدحك، فقال له رسول الله : (قل لا يفضض الله فاك) فأنشد العباس يقول:

من قبلها طبت فى الظلال وفى     مستودع حيث يخصف الورق

ثم هبطت البلاد لا بشر             أنت ولا مضغة ولا علق

بل نطفة تركب السفين وقد          ألجم نسراً وأهله الغرق

تنقل من صالب إلى رحم            إذا مضى عالم بدا طبق

وردت نار الخليل مكتتما           فى صلبه أنت كيف يحترق

حتى احتوى بيتك المهيمن من     خندق علياء تحتها النطق

وأنت لما ولدت أشرقت الأر       ض وضاعت بنورك الأفق

فنحن فى ذلك الضياء وفى النو    ر وسبل الرشاد نخترق

تتمة: روى الدارقطنى عن عقبة بن عامر الجهنى ، قال: قال رسول الله : (لما عرج بى إلى السماء الدنيا، دخلت جنة عدن، فوقعت فى يدى تفاحة، فلما وضعتها فى يدى انقلبت حوراء عيناء مرضية، أشفار عينها كمقادم النسور، فقلت لها: لمن أنت. فقالت: للخليفة بعدك).

الحكم: يحرم أكله لاستخباثه، وأكله الجيف.

الأمثال: قالوا: أعمر من نسر وقالوا: أتى الأبد على لبد وهذا اللبد الذى هو آخر نسور لقمان بن عاد.

وكان لقمان بن عاد الأصغر، قد سيره قومه، وهم عاد الذين ذكرهم الله فى كتابه العزيز، إلى الحرم يستسقى لهم، ومعه رهط من قومه، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة خارج الحرم، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهراً، وكان مسيرهم شهراً. فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم، وقد بعثهم قومهم يتغوثون لهم، من البلاء الذى أصابهم، شق ذلك عليه، فقال: هلك أخوالى وأصهارى، وهؤلاء مقيمون عندى، وهم ضيفى، والله ما أدرى كيف أصنع بهم. فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين فقالتا: قل شعراً لا يدرون من قاله، لعل ذلك يحركهم! فقال شعراً يؤنبهم فيه ويذكرهم الأمر الذى وفدوا لأجله، فلما غنتهم الجرادتان شعره، قال بعضهم لبعض: إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذى نزل بهم وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم.

فقال مرثد بن سعد، وكان قد آمن بهود سراً: إنكم والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم، وأنبتم إلى ربكم سقيتم. فأظهر إسلامه عند ذلك، وقال شعراً يذكر فيه إسلامه. فقالوا لمعاوية بن بكر: احبس عنا مرثد بن سعد، فلا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا.

ثم خرجوا إلى مكة يستسقون لعاد، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر، حتى أدركهم قبل أن يدعوا الله بشيئ مما خرجوا له، فلما انتهى إليهم، قام يدعو الله، ووفد عاد يدعون. فقال: اللهم أعطنى سؤلى وحدى ولا تدخلنى فى شيئ مما يدعوك به وفد عاد.

وكان قيل بن عتر رأس وفد عاد، فقال وفد عاد: اللهم أعط ما سألك، واجعل سؤلنا مع سؤله. فقال قيل: يا إلهنا إن كان هود صادقاً، فاسقنا فإنا قد هلكنا. فأنشأ الله سحائب ثلاثاً: بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السحاب: يا قيل، اختر لنفسك وقومك من هذه السحائب، فقال قيل: اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحائب ماء، فناداه مناد: اخترت رماداً رمداً لا يبقى من آل عاد أحداً.

وساق الله السحابة السوداء التى اختارها قيل، بما فيها من النقمة، إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد يقال له المغيث، فلما رأوها استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا، يقول الله عز وجل: ﴿بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم﴾ الآية.

وكان أول من أبصر ما فيها، وعرف أنها ريح مهلكة، امرأة من عاد، يقال لها مهدو، فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت، فلما أفاقت، قالوا لها: ماذا رأيت؟ قالت: رأيت ريحاً فيها كشهب النار، أمامها رجال يقرعونها فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فلم تدع من عاد أحداً إلا أهلكته. واعتزل هود ومن معه من المؤمنين فى حظيرة، ما يصيبه ومن معه، من الريح إلا ما يلين عليهم ويلذ الأنفس، وإنها لتمر من عاد بالظعن، فتحملهم بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة حتى هلكوا عن آخرهم. فلما هلكت عاد خير لقمان بين أن يعيش عمر سبع بقرات سمر من أظب عفر، فى جبل وعر لا يمسها القطر، أو عمر سبعة أنسر، كلما هلك نسر خلف من بعده نسر، وكان قد سأل الله تعالى طول العمر، فاختار النسور فكان يأخذ الفرخ حين خروجه من البيضة فيربيه فيعيش ثمانين سنة، هكذا حتى هلك منها ستة فسمى السابع لبداً. فلما كبر وهرم وعجز عن الطيران، كان يقول له لقمان: انهض لبد، فلما هلك لبد مات لقمان. وروى أن الله تعالى أمر الريح فهالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام، لهم أنين تحت الرمل، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل، وأرسل طير أسود، فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه، ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ، فإنها عتت عن الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها. وفى الحديث أنها خرجت على قدر خرم الخاتم.

وروى عن على ، أنه قال: إن قبر نبى الله هود بحضرموت، فى كثيب أحمر.

وقال عبد الرحمن بن سابط: بين الركن والمقام وزمزم اقبر تسعة وتسعين نبياً منهم هود وشعيب وصالح وإسماعيل عليهم السلام. وقد ذكرت العرب لبداً فى أشعارها كثيراً فمن ذلك قول النابغة الذبيانى:

أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا        أخنى عليها الذى أخنى على لبد

عصام

 
 

 

 

 

كان ... ما كان

موقف إبليس من آدم

أوحى الله تعالى من الأرض إنى خالق من أديمك خلقاً، فمنهم من يطيعنى ومنهم من يعصينى فمن أطاعنى أدخلته الجنة ومن عصانى أدخلته النار.

فلما قبض ملك الموت قبضة من الأرض فحزنت على ما نقص منها فأوحى الله إليها إنى سوف أرد إليك ما أخذ منك، وهو قوله تعالى ﴿منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى﴾.

أمر المولى تبارك وتعالى الملائكة بصب ماء من الجنة على قبضة التراب ثم سلط عليها الحرارة وجعل من هذا الخليط (تراب - ماء - هواء - نار) جسداً مصوراً وألقاه فى طريق الملائكة مدة أربعين سنة، فكان إبليس اللعين يمر على هذا الجسد ويضربه بيده أو بقدمه، فعلم أنه أجوف فدخل إلى بطنه فاطلع على جميع أعضائه ظاهراً وباطناً إلا قلبه فإنه لم يطلع عليه أحد غير الله تعالى، فلما خرج من داخله أضمر فى نفسه أمراً، لإن سلطنى الله عليه لعذبته، وإن سلطه الله علىّ لعصيته، لما هذا الحقد وكل هذه العداوة؟

لكى نجيب على هذا السؤال يجب أن نعود إلى ما كان قبل ذلك:

تبدأ الحكاية من قبل خلق سيدنا آدم خلق الله تعالى الجن واسكنهم الأرض فتناكحوا وتناسلوا وكثروا حتى امتلئت بهم الأرض طولاً وعرضاً، وزاد بأسهم على بعض فكثرت بينهم الحروب، وكثرت المعصية، وكان منهم إبليس وكان كثير العبادة والورع وتضرع إلى ربه أن يرفعه من هذه الأرض ويبعده عن هؤلاء القوم، فأجابه ربه وصار وسط الملائكة وعرف بينهم بـ عزازيل، وعبد الله فى سماء جازها، ولما اشتد بأس الجن بعضهم على بعض وزادت معاصيهم غضب الله عليهم وبعث جنود من الملائكة وعلى رأسهم عزازيل فحاربوا الجن وقتلوا منهم ماشاء الله وطردوا الباقية إلى شعب الجبال وجزائر البحار، وجعل الله عزازيل على سماء الدنيا خازناً، فوقع فى صدره الكبر والخيلاء، وهو أقصر طريق إلى البلاء، وكان قد قرأ على ساق العرش {إنى جاعل فى الأرض خليفة} مثل ما حدث مع بقية الملائكة، وفات من الوقت الكثير حتى بات على يقين أنه المقصود، وأن ملكه على الأرض سيسود، فلما رأى جسد سيدنا آدم عليه السلام أمامه موجود خشى أن يكون هو المقصود فحقد عليه وأضمر له العداء.

ولما أُمِرَ بالسجود امتنع ولهواه اتبع فقال الله تعالى له ﴿ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى﴾ فقال ﴿أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين﴾ والنار أشرف من الطين، وأنا كنت مستخلفاً فى الأرض، وأنا المُلبس بالريش، والموشح بالنور، والمتوج بالكرامة، وأنا الذى عبدتك فى سمائك وأرضك دهراً طويلاً قبل أن تخلقه، فقال تعالى له ﴿فاخرج منها إنك رجيم0 وإن عليك لعنتى إلى يوم الدين﴾، ﴿لأملأن جهنم منك وممن تبعك﴾ فقال إبليس عند ذلك ﴿رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون﴾ فقال الله تعالى ﴿فإنك من المنظرين﴾.

فانظروا معى إلى أى مدى فعل به كبره وبغضه لسيدنا آدم، فقد عماه عن طاعة أمر الله، ولم تنفعه كثرة عبادته لجهله، لأنه لو علم لسجد طاعة لأمر الله، ولكنه لم يفهم أن القبلة آدم والسجود لله تعالى، والغرور جعله يقول ﴿أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين﴾ معتقد أن النار أسمى وأشرف من الطين، والعكس صحيح، وإليكم خمسة عشر نقطة توضح مدى جهله وإنه ذكر هذا الكلام على سبيل التعنت:

الأولى: إن النار طبعها الإفساد والإتلاف بخلاف التراب.

الثانية: إن النار طبعها (الخفة - والطيش - والحدة) والتراب طبعه الرزانة والسكون والثبات.

الثالثة: إن التراب التكوّن منه، وفيه أرزاق الحيوان وأقواتهم ولباس العباد وزينتهم وآلات معيشتهم ومساكنهم، والنار لا يكون فيها شئ من ذلك.

الرابعة: التراب ضرورى للحيوان لا يستغنى عنه ولا عما يتكون فيه ومنه، والنار يستغنى عنها الحيوان البهيم مطلقاً، وقد يستغنى عنها الإنسان الأيام والشهور فلا تدعوه إليها ضرورة.

الخامسة: أن التراب إذا وضع فيه القوت أخرجه أضعاف أضعاف ما وضع فيه، فمن بركته يؤدى ما استودع فيه إليك مضاعفاً، ولو استودعته النار لخانتك وأكلته ولم تبق ولم تذر.

السادسة: إن النار لا تقوم بنفسها بل هى محتاجة إلى من تقوم به يكون حاملاً لها، والتراب لا يحتاج إلى حامل، فالتراب أكمل منها لغناه وفقرها.

السابعة: إن النار محتاجة إلى التراب وليس التراب محتاجاً إليها لأن المحل الذى تقوم به النار لا يكون إلا متكوناً من التراب أو فيه، فهى الفقيرة إلى التراب وهو الغنى عنها.

الثامنة: أن المادة الإبليسية هى المارج من النار وهو ضعيف تتلاعب به الأهوية فيميل معها كيفما مالت ولهذا غلب الهوى على المخلوق منه فأمره وقهره، أما التراب فهو قوى لا يذهب مع الهوى، قهر هواه وأمره ورجع إلى ربه، فاجتباه واصطفاه.

التاسعة: إن النار وإن كان منها بعض المنفعة لكن الشر كامن فيها، أما التراب فالخير والبركة كامن فيه.

العاشرة: أن الله تعالى أكثر ذكر الأرض فى كتابه وأخبر عن منافعها وخلقها وأنه جعلها مهاداً وفراشاً وبساطاً وقراراً وكفاتاً للأحياء والأموات ودعا عباده للتفكير فيها والنظر إلى آياتها وعجائبها وما أودع فيها، ولم يذكر النار إلا فى معرض العقوبة والتخويف والعذاب، إلا فى موضعين تذكره بنار الآخرة ومتاع لبعض أفراد الناس النازلون بالأرض الخالية.

الحادية عشر: إن الله وصف الأرض بالبركة وأما النار فإنه لم يخبر أنه جعل فيها بركة أصلاً.

الثانية عشر: إن الله تعالى جعل الأرض محل بيوته التى يذكر فيها اسمه فلو لم يكن فى الأرض إلا بيته الحرام لكفاها ذلك شرفاً وفخراً على النار.

الثالثة عشر: إن الله أودع فى الأرض المعادن والأنهار والحيوانات والثمار وغيرها من الأشياء النافعة ولم يودع فى النار شيئاً.

الرابعة عشر: إن النار وضعت خادمة لمن فى الأرض، فالنار محلها محل الخادم لهذه الأشياء فهى خادمة فقط، إذا استغنيت عنها أبعدتها وطردتها، وإذا احتجت إليها استدعيتها كما يفعل المخدوم مع الخادم.

الخامسة عشر: إن الطين مركب من تراب وماء، الماء الذى جعل الله تعالى كل شئ منه حياً والتراب الذى جعله الله خزانة المنافع والنعم.

وللحديث بقية ...

أحمد نور الدين عباس