كان .. ما .. كان

سيدنا موسى 6

 

انتهينا فى المرة السابقة عند استعداد سيدنا موسى للذهاب إلى فرعون .. فلما قدم سيدنا موسى بلاد مصر، وقابل أمّه وأخاه وقال سيدنا موسى: يا هارون، إن ربى قد أمرنى أن آتى فرعون فأدعوه إلى الله، وأمر أن تعاوننى، قال:

نستكمل نصيحة مؤمن آل فرعون وموعظته واحتجاجه:

قال الله تعالى ﴿وَقَالَ الَّذِى آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ¤ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ¤ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ غافر40: 38-40.

يدعوهم إلى طريق الرشاد الحق، وهى متابعة نبى الله موسى وتصديقه فيما جاء به من عند ربه.

ثم زهدهم فى الدنيا الدنية الفانية المنقضية لا محالة، ورغبهم فى طلب الثواب عند الله الذى لا يضيع عمل عامل لديه، القدير الذى ملكوت كل شئ بيديه.

ثم شرع فى إبطال ما هم عليه، وتخويفهم مما يصيرون إليه، فقال ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ ¤ تَدْعُونَنِى لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ¤ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلَا فِى الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ¤ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ¤ فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ¤ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ غافر40: 41-46.

كان يدعوهم إلى عبادة رب السموات والارض، الذى يقول للشئ كن فيكون، وهم يدعونه إلى عبادة فرعون الجاهل الضال الملعون! ولهذا قال لهم على سبيل الانكار ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ ¤ تَدْعُونَنِى لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّار﴾.

ثم بين لهم بطلان ما هم عليه من عبادة ما سوى الله من الانداد والاوثان، وأنها لا تملك من نفع ولا إضرار، فقال ﴿لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلَا فِى الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ أى لا تملك تصرفا ولا حكما فى هذه الدار، فكيف تملكه يوم القرار؟ وأما الله عزوجل فإنه الخالق الرازق للابرار والفجار، وهو الذى أحيا العباد ويميتهم ويبعثهم، فيدخل طائعهم الجنة، وعاصيهم إلى النار.

ثم توعدهم إن هم استمروا على العناد بقوله ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ قال الله ﴿فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ أى بإنكاره سلم مما أصابهم من العقوبة على كفرهم بالله، ومكرهم فى صدهم عن سبيل الله، مما أظهروا للعامة من الخيالات والمحالات، التى ألبسوا بها على عوامهم وطغامهم.

ولهذا قال ﴿وَحَاقَ﴾ أى أحاط ﴿بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ¤ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ أى تعرض أرواحهم فى برزخهم صباحا ومساء على النار. ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾.

والمقصود أن الله تعالى لم يهلكهم إلا بعد إقامة الحجج عليهم، وإرسال الرسول إليهم، وإزاحة الشبه عنهم، وأخذ الحجة عليهم منهم، بالترهيب تارة والترغيب أخرى، كما قال تعالى ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ¤ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ¤ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ¤ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ الأعراف 7: 130-133، يخبر تعالى أنه ابتلى آل فرعون القبط، بالسنين وهى أعوام الجدب التى لا يستغل فيها زرع ولا ينتفع بضرع. فلم ينتفعوا ولم يرتدعوا، بل تمردوا واستمروا على كفرهم وعنادهم. ﴿وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ أى مهما جئتنا به من الآيات - وهى الخوارق للعادات - فلسنا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نطيعك، ولو جئتنا بكل آية. وهكذا أخبر الله عنهم فى قوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ¤ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ يونس 10: 96-97. قال الله تعالى ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ

فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مغلولا، ثم أبى إلا الاقامة على الكفر والتمادى فى الشر، فتابع الله عليه بالآيات، فأخذه بالسنين: فأرسل عليه الطوفان ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم، آيات مفصلات، فأرسل الطوفان ففاض على وجه الارض ثم ركد، لا يقدرون على أن يحرثوا ولا أن يعملوا شيئا، حتى جهدوا جوعا. فلما بلغهم ذلك ﴿قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَائِيلَ الأعراف 7: 134. فدعا موسى ربه فكشفه عنهم.

فلما لم يفوا له بشئ مما قالوا أرسل الله عليهم الجراد، فأكل الشجر فيما بلغنى، حتى إن كان ليأكل مسامير الابواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم، فقالوا مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشف عنهم، فلم يفوا له بشئ مما قالوا، فأرسل الله عليهم القمل، فذكر أن موسى، أمر أن يمشى إلى كثيب حتى يضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيل عظيم، فضربه بها، فانثال عليهم قملا، حتى غلب على البيوت والاطعمة، ومنعهم النوم والقرار، فلما جهدهم قالوا مثل ما قالوا له، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشئ مما قالوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، فملات البيوت والاطعمة والآنية، فلا يكشف أحد ثوبا ولا طعاما، إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه. فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشف عنهم، فلم يفوا بشئ مما قالوا، فأرسل الله عليهم الدم، فصارت مياه آل فرعون دما، لا يستقون من بئر ولا نهر، ولا يغترفون من إناء، إلا عاد دما عبيطا.

قال الله تعالى ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَائِيلَ ¤ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ¤ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ الأعراف 7: 134-136.

يخبر تعالى عن كفرهم وعتوهم واستمرارهم على الضلال والجهل، والاستكبار عن اتباع آيات الله، وتصديق رسوله، مع ما أيده به من الآيات العظيمة الباهرة، والحجج البليغة القاهرة، التى أراهم الله إياها عيانا، وجعلها عليهم دليلا وبرهانا. وكلما شاهدوا آية وعاينوها، وجهدهم وأضنكهم، حلفوا وعاهدوا موسى لئن كشف عنهم هذه ليؤمنن به، وليرسلن معه من هو من حزبه، فكلما رفعت عنهم تلك الآية عادوا إلى شر مما كانوا عليه، وأعرضوا عما جاءهم به من الحق ولم يلتفتوا إليه، فيرسل الله عليهم آية أخرى هى أشد مما كانت قبلها وأقوى، فيقولون ويكذبون، ويعدون ولا يفون ﴿لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَائِيلَ﴾ فيكشف عنهم ذلك العذاب الوبيل، ثم يعودون إلى جهلهم العريض الطويل. هذا، والعظيم الحليم القدير، ينظرهم ولا يعجل عليهم، ويؤخرهم ويتقدم بالوعيد إليهم. ثم أخذهم بعد إقامة الحجة عليهم، والاعذار إليهم، أخذ عزيز مقتدر، فجعلهم عبرة ونكالا وسلفا لمن أشبههم من الكافرين، ومثلا لمن اتعظ بهم من عباده المؤمنين.

كما قال تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين، فى سورة حم والكتاب المبين ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ¤ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ¤ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ¤ وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ¤ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ¤ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِنْ تَحْتِى أَفَلَا تُبْصِرُونَ ¤ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ¤ فَلَوْلَا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ¤ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ¤ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ¤ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ الزخرف 43: 46-56.

يذكر تعالى إرساله عبده الكليم الكريم إلى فرعون الخسيس اللئيم، وأنه تعالى أيد رسوله بآيات بينات واضحات، تستحق أن تقابل بالتعظيم والتصديق، وأن يرتدعوا عماهم فيه من الكفر ويرجعوا إلى الحق والصراط المستقيم، فإذا هم منها يضحكون وبها يستهزئون، وعن سبيل الله يصدون وعن الحق ينصرفون. فأرسل الله عليهم الآيات تترى يتبع بعضها بعضا، وكل آية أكبر من التى تتلوها، لان التوكيد أبلغ مما قبله. ﴿وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ¤ وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ﴾ لم يكن لفظ الساحر فى زمنهم نقصا ولا عيبا، لان علماءهم فى ذلك الوقت هم السحرة، ولهذا خاطبوه به فى حال احتياجهم إليه، وضراعتهم لديه، قال الله تعالى ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾. ثم أخبر تعالى عن تبجح فرعون بملكه، وعظمة بلده وحسنها، وتخرق الانهار فيها، وهى الخلجانات التى يكسرونها أيام زيادة النيل ثم تبجح بنفسه وحليته، وأخذ يتنقص رسول الله موسى، ويزدريه بكونه ﴿َلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ يعنى كلامه، بسبب ما كان فى لسانه من بقية تلك اللثغة، التى هى شرف له وكمال وجمال، ولم تكن مانعة له أن كلمه الله تعالى وأوحى إليه، وأنزل بعد ذلك التوراة عليه.

وتنقصه فرعون - لعنه الله - بكونه لا أساور فى يديه، ولا زينة عليه! وإنما ذلك من حلية النساء، لا يليق بشهامة الرجال، فكيف بالرسل الذين هم أكمل عقلا، وأتم معرفة، وأعلى همة وأزهد فى الدنيا، وأعلم بما أعد الله لاوليائه فى الآخرة؟ وقوله ﴿أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾ لا يحتاج الامر إلى ذلك، فإن كان المراد أن تعظمه الملائكة فالملائكة يعظمون ويتواضعون لمن هو دون موسى بكثير، كما جاء فى الحديث (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع) فيكف يكون تواضعهم وتعظيمهم لموسى الكليم عليه الصلاة والتسليم والتكريم! وإن كان المراد شهادتهم له بالرسالة فقد أيد من المعجزات بما يدل قطعا لذوى الالباب، ولمن قصد إلى الحق والصواب، ويعمى عما جاء به من البينات والحجج الواضحات من نظر إلى القشور، وترك لب اللباب، وطبع على قلبه رب الارباب، وختم عليه بما فيه من الشك والارتياب، كما هو حال فرعون القبطى العمى الكذاب.

قال الله تعالى ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ أى استخف عقولهم ودرجهم من حال إلى حال إلى أن صدقوه فى دعواه الربوبية، لعنه الله وقبحهم ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ¤ فَلَمَّا آسَفُونَا﴾ أى أغضبونا ﴿انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ أى بالغرق والاهانة وسلب العز، والتبدل بالذل وبالعذاب بعد النعمة، والهوان بعد الرفاهية، والنار بعد طيب العيش، عياذا بالله العظيم، وسلطانه القديم من ذلك.

هذا كله ولم ينل بنى إسرائيل من ذلك شئ بالكلية. وهذا من تمام المعجزة الباهرة، والحجة القاطعة، أن هذا كله يحصل لهم عن فعل موسى، فينالهم عن آخرهم، ولا يحصل هذا لاحد من بنى إسرائيل، وفى هذا أدل دليل.

﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا﴾ أى لمن اتبعهم فى الصفات ﴿وَمَثَلًا﴾ أى لمن اتعظ بهم وخاف من وبيل مصرعهم، ممن بلغه جلية خبرهم وما كان من أمرهم، كما قال الله تعالى ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ¤ وَقَالَ مُوسَى رَبِّى أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ¤ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِى صَرْحًا لَعَلِّى أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّى لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ¤ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ¤ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ¤ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ ¤ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ القصص 28: 36-42.

يخبر تعالى أنهم لما استكبروا عن اتباع الحق، وادعى ملكهم الباطل ووافقوه عليه وأطاعوه فيه، اشتد غضب الرب القدير العزيز، الذى لا يغالب ولا يمانع عليهم، فانتقم منهم أشد الانتقام، وأغرقه هو وجنوده فى صبيحة واحدة فلم يفلت منهم أحد، ولم يبق منهم ديار، بل كل قد غرق فدخل النار، وأتبعوا فى هذه الدار لعنة بين العالمين، ويوم القيامة بئس الرفد المرفود، ويوم القيامة هم من المقبوحين.

فكيف فعل فرعون مع وزيره هامان؟

أحمد نور الدين عباس