النخل الباسقات

 

يقول المولى تبارك وتعالى ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ ق 9: 11.

أيها الأحباب تعالوا لنرتقى بالمعانى القرآنية ولانقف عند حد فى المعانى، فنتشرع مثلاً ولا نتحقق، أو نقر بعلم الشريعة وننكر علم الحقيقة، فهذا تفسق من الدين فإن للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً، كما قال الحبيب صلوات الله وسلامه عليه، فنترك بذلك علم التأويل وعلم الاشارة، فيفوتنا من الحقيقة الجانب العظيم الذى ساقه لنا من تقربوا الى الله من عباده الصالحين، الذين غاصوا فى بحار القرآن، فاستخرجوا لنا من الجواهر واللآلىء واليواقيت، ما إن علمناها سمت عقولنا وأرواحنا، وسرنا وتقدمنا فى التقرب إلى الله، كما جاء فى الحاوى للفتاوى للإمام السيوطى: أبى هريرة قال: قال رسول الله عن رب العزة (من عادى لى ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلىّ عبدى بشىء أحب إلىّ مما افترضت عليه، ومايزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه، وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددى عن نفس المؤمن يكره الموت وأكره مساءته) تفرد به البخارى، فهؤلاء الأولياء لابد أن الله قد اختصهم بعلم أعلى من علم العامة ويقول المولى تبارك وتعالى ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ يوسف 76، فهذا يعلم عن الآية شيئاً والآخر أعلم منه فى نفس الآية فقد بصّره الله بما لم يطلع عليه أحد قبله ليعطى سبحانه ما يشا وله الخيار، وإلا لكان للقرآن تفسيراً واحداً وفقط وهذا غير حاصل.

نرجع إلى الآية التى نحن بصددها فنتعرف عليها من جهة الشرع أولاً: ونقر ما تعرفنا عليه ثم نستزيد من العلم الفوقى فنتفوق ونرقى.

أولاً: من تفسير الشريعة يقول الامام ابن كثير: قوله تعالى ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا﴾ أى: نافعاً، ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ﴾ أى: حدائق من بساتين ونحوها، ﴿وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾ وهو: الزرع الذى يراد لحبه وادخاره ﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ﴾ أى: طوالاً شاهقات، وقال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسدى، وغيرهم: الباسقات الطوال، ﴿لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ﴾ أى: منضود، ﴿رِزْقًا لِلْعِبَادِ﴾ أى: للخلق، ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ وهى: الأرض التى كانت هامدة، فلما ﴿أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ الحج 5، من أزاهير وغير ذلك، مما يحار الطرف فى حسنها، وذلك بعد ما كانت لا نبات بها، فأصبحت تهتز خضراء، فهذا مثال للبعث بعد الموت والهلاك، كذلك يحيى الله الموتى، وهذا المشهد من عظيم قدرته بالحس أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث.

وانظر ماذا قال ابن عجيبة فى تفسيره الشرعى: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا﴾ كثير المنافع، ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ﴾ بساتين كثيرة، ﴿وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾ أى: حب الزرع الذى شأنه أن يحصد من البُرِّ والشعير وأمثالهما، وتخصيص حب الحصيد بالذكر لأنه المقصود بالذات؛ إذ به جل القوام، ﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ﴾ طوالاً فى السماء، أو: حوامل، من: بسَقت الشاة: إذا حملت، وتخصيصها بالذكر مع اندراجها فى ﴿جَنَّاتٍ﴾ لبيان فضلها على سائر الأشجار، ﴿لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ﴾ منضود، بعضه فوق بعض، والمراد: تراكم الطلع، أو: كثرة ما فيه من الثمر، ﴿رِزْقًا لِلْعِبَادِ﴾ أى: لرزق أشباحهم، كما أن قوله ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى﴾ ق 8، لرزق أرواحهم، وفيه تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بما ذكر من حيث التذكُّر والتبصُّر الذى هو رزق الروح أهم وأقدم من تمتُّعه من حيث الرزق الحسى، ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ﴾ بذلك الماء، ﴿بَلْدَةً مَيْتًا﴾ أرضاً جدبة، لا نماء فيها أصلاً، فلما أنزلنا عليها الماء ربت واهتزت بالنبات والأزهار، بعد ما كانت جامدة، وضمَّن البلدة معنى البلد فذَكَّر الوصف ﴿كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ من القبور، فكما حييت هذه البلدة الميتة كذلك تُخرجون أحياء بعد موتكم، لأن إحياء الموت كإحياء الأموات، وقدّم الخبر للقصد إلى القصر، والإشارة فى ﴿كَذَلِكَ﴾ إلى الحياة المستفادة من الإحياء، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعد رتبها، أى: مثل ذلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور، لا شىء مخالف لها، وفى التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء، وعن حياة الأموات بالخروج؛ تفخيم لشأن النبات، وتهوين لأمر البعث، وتحقيق للمماثلة؛ لتوضيح منهاج القياس، وتقريبه إلى أفهام الناس.

وتعالوا نضيف الى ما قرأناه من معان قد أقررنا بها ولكن ألفاظ القرآن غنية، أغناها المغنى سبحانه فمازالت تعطى كالنخلة ولا ينتهى عطاء المولى تبارك وتعالى وفى ذلك المعنى يقول الإمام فخر الدين مخبراً عن كرم الحبيب المصطفى:

وَكَفُّهُ مِنْ عَطَاءِ اللهِ يَمْنَحُنَا     وَمِنْ تَدَانِيهِ يُطْعِمُنَا وَيَسْقِينَا (28/2)

فيقول ابن عجيبة فى الإشارة والتأويل فى معنى الآيات السابقة: ونزَّلنا من السماء ماء العلوم اللدينة، كثير البركة والنفع، فأنبتنا به جنات المعارف وحب الحصيد، وهو حب المحبة؛ لأنه يحصد من القلب محبة ما سوى الله، والنخل باسقات، أى: شجرة المعرفة الكاملة لها طلع نضيد: ثمرة المعرفة وحلاوة الشهود، رزقاً لأرواح العباد، وأحيينا به نفساً ميتة بالغفلة والجهل، كذلك الخروج من ظلمة الجهل إلى نور العلم، أى: مثل هذا الخروج البديع يكون الخروج، وإلا فلا.

فعرفنا من ذلك أن الماء هنا يفسر بلغة الإشارة بالعلم اللدنى ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ الكهف 65، ولا نستطيع أن نقول هذا إلا بسند من عالم وإلا فقد تجرأنا على القرآن، تجرأنا على الله والعياذ بالله، وعرفنا أن النخل الباسقات هى شجرة المعرفة الكاملة التى تأتى لنا بثمار المعرفة وهى حلاوة الشهود لوجه الله الكريم، والذى هو تجليات من الأنوار يراها الولى بعيون الروح لا بعيون الجسد فقد طلب سيدنا موسى أن يراه بعيون الجسد فقال له المولى ﴿لَنْ تَرَانِى﴾ الأعراف 143، وأقول أى بعيون رأسه وإنما تستطيع بعيون الروح حينما تفنا وتصعق وفى هذا متعة لا تعادلها متعة وفى هذا الصدد يقول ابن عجيبة: رؤية الحق جائزة واقعة عند الصوفية فى الدارين، ولكن لا ينالها فى هذه الدار إلا خواص الخواص، ويُعبّرون عنها بالشهود والعيان، ولا يكون ذلك إلا بعد الفناء، وفناء الفناء بعد موت النفس وقتلها، ثم الغيبة عن حسها ورسمها، تكون بعد التهذيب والتدريب والتربية على يد شيخ كامل، لايزال يسير به ويقطع به فى المقامات، ويغيبه عن نفسه ورؤية وجوده، حتى يقول له: ها أنت وربك، وذلك أن الحق جل جلاله تجلى لعباده بأسرار المعانى خلف رداء الأوانى، وهو حس الأكوان، فأسرار المعانى لا يمكن ظهورها إلا بواسطة الأوانى، أو تقول: أسرار الذات لا تظهر إلا فى أنوار الصفات، فلو ظهرت أسرار الذات بلا واسطة لاضمحلت الأشياء واحترقت، كما فى الحديث (حِجَابُهُ النُّورُ، لَو كشَفَهُ لأحرقَت سُبُحَاتُ وَجههِ ما انتَهَى إلَيه بَصَرُهُ من خلَقِهِ).

فلا بد أن يفنى العبد عن صفات نفسه الذميمة ويتحلى بصفاة الله المحمودة التى يريدها الله منا وهذا يتأتى بالمجاهدة ومخالفة النفس فيما تقوله لنا من الأمور المذمومة وفى ذلك يقول العبد الصالح لمريديه:

وَلَيْسَ مُرِيدِى مَنْ عَشَى عَنْ كَلَامِنَا    وَلَا قَائِلُ لِلنَّفْسِ يَانَفْسُ مَالَكِ (10/6)

حتى يصل إلى هذا المقام، وهذا رزق تحيى به الأرواح بالذكر بعد الغفلة، والعلم بعد الجهل، والنور بعد الظلام، كذلك الخروج، وفى هذ المعنى يقول من تحقق بكمال العبودية لله:

وَإِنَّ عُلُومِى بَاسِقَاتٌ وَطَلْعُهَا           نَضِيدٌ وَرِزْقٌ لِلعِبَادِ وَرَحْمَتِى (1/30)

فالنخل الباسقات إشارة للعلوم العالية التى يتحلى بها الشيخ وهى ذات طلع نضيد أى كطلع النخلة الذى يحمل فى طيه ثمر متراكم فوق بعضه أى كثير يعنى علوم كثيرة وذلك قبل أن تنشق فإذا انشقت أصبحت رزقاً للعباد ورحمة لأنها توصلهم إلى الحضرة وتكون سر سعادتهم فى الدنيا والآخرة، هدانا الله إلى علمه وجعلنا من المصدقين حتى ننال هذا الرزق وهذه الرحمة آمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وإلى اللقاء فى العدد القادم بإذن الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محمد مقبول