كان .. ما .. كان

سيدنا يوسف 4

 

قال الله فى كتابه الكريم ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ يوسف 56، سيدنا يوسف من المحسنين بل أفضلهم فى زمانه، فمكنه الله من أرض مصر، حتى ملكها بأجمعها، وذلك لما تولى الأمر فى البلاد اجتهد فى جمع الطعام وتكثير الزراعات، حتى دخلت سنوات القحط، وعم القحط البلاد مصر والشام ونواحيها، وتوجه الناس إليه، فباعهم الطعام فى السنة الأولى بما لديهم من نقود حتى لم يبقى لديهم منها شيئ، ثم باعهم فى السنة الثانية الطعام بالحلى والحلل، ثم باعهم فى السنة الثالثة بأمتعو البيوت كالعفش والمفروشات، ثم باعهم فى السنة الرابعة بالدواب التى لديهم، وفى السنة الخامسة باعهم بما يملكون من بيوت وعقارات، ثم باعهم فى السنة السادسة بأولادهم، ثم فى السنة السابعة بركابهم حتى استعبدهم جميعاً، ثم عرض الأمر على الملك، فترك له الأمر يفعل بهم مايشاء، فأعتقهم سيدنا يوسف ورد عليهم ما أخذه منهم وفى تلك الآية السابقة تسلية لأهل البلاء إذا كانوا أهل تقوى وإحسان، وبشارة لهم بالعز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والنصر والتمكين فى الأرض بعد الاستضعاف والهوان.

وكل عبد أراد الله عزتـــــــه               فهو العزيز وعز الله يغشاه

قد لاح عِزُّ له فى الأرض منتشر     فهو الحبيب لمن ناداه لباه

قال تعالى ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ يوسف 58، روى أن أخوة سيدنا يوسف لما دخلوا عليه فى قصر ملكه كان فى هيئة عظيمة من الملك، والتاج على رأسه، فلم يعرفوه، ولكنه عرفهم، وقال لهم: من أنتم؟ وما أمركم؟ وماجاء بكم إلى بلادى، ولعلكم عيون؟ فقالوا: معاذ الله، نحن بنو أب واحد، وهو شيخ صديق نبى من الأنبياء اسمه يعقوب. فسألهم: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثنى عشر، فذهب أحدنا إلى البرية فهلك. فقال: فكم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة. قال: فأين الحادى عشر؟ قالوا: عند أبيه يتسلى به عن الهالك. قال: فمن يشهد لكم؟ قالوا: لا يعرفنا هاهنا من يشهد لنا. قال: فدعوا عندى بعضكم رهينة. وائتونى بأخ لكم من أبيكم حتى اصدقكم. ﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِى وَلَا تَقْرَبُونِ يوسف 60، فاقترعوا فيما بينهم فأصابت القرعة شمعون، سيدنا يوسف أمر فتيانه بتجهيزهم، كما أمرهم بأن يضعوا الأموال التى دفعوها لشراء القمح والطعام فى رحالهم، قيل فى هذا الموضوع، أنه وضع أموالهم فى رحالهم لأنهم إذا عرفوا سوف يرجعون لأعادة المال إليه، وقيل أنه رد إليهم أموالهم لأنه خشى أن لا يكون لدى أبيه من الأموال ما يعينهم على العودة مرة أخرى، فلما رجعوا إلى أبيهم بأحمالهم الكثيرة، وكان سيدنا يوسف قد أفاض عليهم، فقالوا: يا ابانا إن عزيز مصر قد اكرمنا كرامة، لو أنه ابن من أبناء يعقوب مازاد على كرامته، وإنه أرتهن شمعون، وطلب منا أن نأتيه بأخينا بنيامين، فيا أبانا أرسله معنا فى المرة القادمة كى نكتال، ﴿فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ يوسف 63، فرد عليهم سيدنا يعقوب ﴿قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يوسف 64، فذهبوا إلى متاعهم، وأخذوا يفتحونه فوجدوا الأموال التى دفعوها ثمناً للغلال والطعام الذى جاءوا به، فأسرعوا إلى سيدنا يعقوب فقالوا له: يا أبانا هذه أموالنا ردت إلينا فارسل معنا أخانا بنيامين وسوف نحفظه ويزداد كيلنا، ﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ يوسف 66، لثانى مرة سيدنا يعقوب يخفف الحمل عن أولاده، فى أول مرة ورد قوله فى القرآن ﴿قَالَ إِنِّى لَيَحْزُنُنِى أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ يوسف 13، لما رجعوا قالوا له إن الذئب أكل سيدنا يوسف، المرة الثانية أخذ عليهم العهد والميثاق علشان يرجعوا بأخيهم بنيامين، وترك لهم مخرج لأى شئ سيحدث فقال ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾ يوسف 66، يعنى إذا كنتم مغلوبين على أمركم، سيدنا يعقوب أمرهم بأن لا يدخلوا مصر من باب واحد، ولكن من أبواب متفرقة ﴿وَقَالَ يَا بَنِىَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِى عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَىْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ يوسف 67، فدخلوا مصر من حيث أمرهم أبوهم، ثم اجتمعوا، فدخلوا على سيدنا يوسف وهو جالس على سريره فى قصره، قالوا: يا أيها العزيز هذا هو أخونا الذى أمرتنا أن نأتيك به، فقال: لقد أحسنتم وأصبتم، ثم أمر بالموائد، فأجلس كل اثنين من ام على مائدة، فتبقى بنيامين وحيداً فبكى، فقال سيدنا يوسف: مايبكيك؟ قال: لو كان أخى يوسف حياً لجلست معه، فقال سيدنا يوسف: إذا كنت وحيداً فأنا أحق بك، وأنزلك عندى فى هذا القصر، وأكل معك، فلما كان الليل جاءهم بالفرش، وطلب من كل أخوين أن يناما على فراش، واشار لبنيامين أن ينام معه، فلما أصبح الصباح ذكر له بنيامين حزنه على يوسف أخيه، فقال سيدنا يوسف له: اتحب أن اكون أخاك عوض عن أخيك الذاهب؟ فقال بنيامين: ومن يجد أخاً مثلك، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى سيدنا يوسف وقام إليه فعانقه، وقال له: إنى أنا أخوك فلا تبتئس بما فعلوه بنا فيما مضى، فإن الله قد أحسن إلينا، ولا تعلمهم بما عرفت، وأمر سيدنا يوسف فتيانه بتحميل الأبل، ثم أمرهم بوضع السقاية فى رحل أخيه ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِى رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ يوسف 70، قال لهم الحاجب: ألم يحسن الملك إليكم؟ ألم يكرمكم؟ قالوا: بلى، قال: وكيف تأخذون السقاية، وقد فقدت من حين دخلتم عليه، ولم يكن يسرقها أحد غيركم، ﴿قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ يوسف 73، فقالوا لهم: فما جزاء من أخذها منكم إن كنتم كاذبين، قالوا: جزاؤه من توجد فى رحله أن يقيم عند المسروق منه سنة كاملة فى الأسر، وكان هذا الأمر جائزاً فى شريعة سيدنا يعقوب، فقال الحاجب لابد أن تفتش الرحال، فدنـوا بها عند سيدنا يوسف فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ففتشها، فلم يجد شيئ، فلم يبقى إلا وعاء أخيه بنيامين، فقال: هذا غلام صغير، وما أظنه يسرق أو يأخذ شيئاً، قالت أخوته: والله لا يترك بلا تفتيش حتى يطيب خاطرك علينا، فلما فتشوه وجدوا فى رحله السقاية، فأقبل أولاد سيدنا يعقوب على أخيهم بنيامين يوبخوه بالكلام، وقالوا لسيدنا يوسف ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ يوسف 77، وقيل فى السرقة المنسوبة لسيدنا يوسف أنه أخذ صنم من الذهب ورماه فى البئر، فاتهموه بذلك، فقال سيدنا يوسف لهم: امضوا إلى أبيكم واتركوا أخاكم عندى سنة كما هو شرعكم فقالوا ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ يوسف 78، ﴿قَالَ مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ يوسف 79.

فماذا حدث بعد ذلك؟

 

أحمد نور الدين عباس