ناصح

 

كنت قاعد فى مكتبى لقيت واحد من زملاء العمل بيقول: يا إخواننا علينا بشرع الله والحكم بيه، وإلا اللى ما بيحكم بما أنزل الله دول الكفار، قلت له يا عم انت إيه الحكاية؟ أول مرة أشوفك دلوقت قاعد تتكلم فى الدين، فينك من زمان؟ قال لى ربنا هدانى، قلت له ربنا هداك تقوم تكفر باقى الناس اللى معاك!! سبحان الله إيه الهداية العجيبة دى؟!! وبعدين سألته: انت سمعت الكلام ده فين؟ قال لى فى خطبة الجمعة اللى فاتت لقيت الخطيب بيقول كده، قلت له: وان شاء الله انت ناوى تكفر الناس عشان سمعت الخطيب بيقول كده، ألم تسمع حديث المصطفى اللى بيقول (أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) والحديث ده رواه البخارى ومسلم والإمام احمد ابن حنبل وكتير من الناس المحترمين بتوع زمان رضوان الله عليهم أجمعين، قلت له: عارف يعنى إيه (باء بها أحدهما)؟ قال لى: يعنى ايه؟ قلت له: يعنى لو الانسان اللى انت قلت عليه كافر ده طلع مش كافر هايرجع الكفر عليك انت. قال لى: استغفر الله استغفر الله استغفر الله، قال لى: يعنى دى مصيبة كبيرة. قلت له: وأى مصيبة، انت عاوز تطلع الناس من دينها ويكون ده أمر سهل.

بعدين قلت له: تعالى كده نمسكهم واحدة واحدة. قال لى: هم إيه دول اللى هانمسكهم؟ قلت له: الآيات اللى انت بسببهم بتقول الكلام ده، وهم ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِى ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ • وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ • وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ • وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ قلت له تعرف الآيات دول فى سورة إيه والمشايخ بتوع زمان لما فسروهم قالوا فيهم إيه؟ قال لى لأ، قلت كمان ما عارفهم فى أى سورة من القرآن الكريم ولا اللى قبلنا قالوا فيهم إيه، طيب ياعم قاعد تتكلم وتفتى ليه؟!! عشان سمعت كلمتين فى خطبة بقى الدين كله عندك، وتبتدى فى أصعب حاجة فيه وهى تكفير الناس بغير علم ... عامة أنا برضه مايخلصنيش تفضل كده مش عارف، أقول لك ياسيدى حاجة عن الآيات دى: أولاً الآيات دى فى سورة المائدة ابتداء من الآية رقم 44 إلى 47، ثانيا السورة دى نزلت بعد الفتح، عارف فتح إيه؟ فتح مكة طبعا، فالسورة دى مدنية، ومدنية دى أصل القصة والموضوع، لأن الموضوع كان كلام زى ماهو واضح فى الآيات كلام لليهود والنصارى، لكن فى زماننا ده مسكوا بس فى جزء من الآيات وهو ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ و﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ و﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ عشان فيه ناس بتشوف الشئ اللى فى المجتمع مش ماشى مع مفهومهم للدين ده يبقى حرام وكفر، نرجع لقصتنا، مسكوا فى أجزاء الآيات دى وبس، ومن هنا كان تكفيرهم للناس، ولكن ربنا عشان يظهر لنا الحق فين وإيه هو الصح اللى علينا نتبعه، خَلّى كلام اللى قبلنا من الصحابة والتابعين يفضل قاعد لغاية أيامنا دى عشان نهتدى بيه وما نكفر الناس بالباطل، فتعالى معايا نشوف اللى قبلنا فى الموضوع ده قالوا إيه:

أولا: فى تفسير الإمام الرازى: قال فيه: اعلم أن هذا تنبيه من الله تعالى لليهود، وقال أيضاً عن سيدنا عكرمة أنه قال فى هذه الآية: قال عكرمة: قوله ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله﴾ إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله، إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى، ولكنه تارك له، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية، وهذا هو الجواب الصحيح والله أعلم، قلت له شفت الفرق الواضح بين كلامك اللى انت فهمته فى خطبة الجمعة وكلام أصحاب سيدنا رسول الله وفهمهم لكتاب الله عز وجل؟ قال لى شفت.

ثانياً: فى تفسير الإمام ابن كثير أن الآيات نزلت فى طائفتين من اليهود، وقال على بن أبى طلحة، عن ابن عباس أجمعين، قوله ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق. رواه ابن جرير، وقال عبد الرزاق أيضًا: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ قال: هى به كفر، قال ابن طاوس: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال الثورى، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. رواه ابن جرير، وقال وَكِيع عن سفيان، عن سعيد المكى، عن طاوس ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ قال: ليس بكفر ينقل عن الملة، وقال ابن أبى حاتم، عن طاوس، عن ابن عباس فى قوله ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ قال: ليس بالكفر الذى يذهبون إليه.

قلت له شفت ازّاى طلع الموضوع هين وبسيط، وبعدين تحب أزيدك كمان؟ قال لى زدنى، قلت له تسمع عن حاجة اسمها العفو، قال لى يعنى إيه؟  قلت له إذا عفى المجنى عليه عن الجانى كانت هذه كفارة له، قال لى: آه. قلت له: معنى كده إن المجنى عليه مش عاوز الحكم بما أنزل الله وهو القصاص؟!! فسكت وقعد يهز فى رأسه.

قلت له: تلاقى الناس اللى دايماً بيقولوا الكلام بتاعك ده وموضوع الحكم بما أنزل الله يقصدوا بيها الحدود، تعرفها طبعاً، قال أيوه: زى حد القتل والسرقة وكذا وكذا، قلت له: طيب، تسمع عن عام الرمادة، قال: إيه الكلام اللى انت بتقوله ده، إيه الحاجات دى؟ قلت له: مشكلتنا إن الدين بتاعنا كبير أوى ومتين أوى وسيدنا النبى قال فى الحديث اللى أورده الإمام البيهقى فى سننه (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق) عشان كده مش بين يوم وليلة تسمع لك كلمتين أو تصلى لك ركعتين بقيت انت شيخ الاسلام والعالم العلامة والحبر الفهامة؛ لا، الموضوع كبير جداً ... نرجع لموضوع عام الرمادة، عام الرمادة ده كان عام فيه قحط شديد فى زمن الفاروق سيدنا عمر بن الخطاب ، فماذا فعل الفاروق فى هذا العام؟ قال لى: عمل إيه؟ قلت له: وقّف حد السرقة، عشان الناس كانت بتسرق من الجوع ومش لاقيين ياكلوا. انتبه زميلى وقال لى: ياسلام، وقّف حد السرقة! قلت: آه وقّف حد السرقة، قلت له: مش عارف ليه الناس مش بيذكروا القصص اللى زى دى؟ مع إنهم لو تعرضوا لها هايلاقوا فيها إجابات كتير وردود أكتر على تساؤلات كانت عندهم ومش لاقيين لها إجابة، بدل ما يتخبطوا ويحكموا على أشياء بالكفر وهى على غير حكمهم، قلت: بس تلاقيهم كتير يذكروا ليك حكايات عن سيدنا عمر بن الخطاب ، قال لى: بالظبط صح كتير بيتكلموا عنه. قلت له: لكن فى التشدد والغلظة والقسوة وفقط، وسيدنا عمر برئ من كل هذه الأمور.

قلت: إيه رأيك فى كلام الناس دول؟ نظر إلى باستغراب شديد وقال لى: طيب إزاى الراجل كان فى الخطبة قاعد يقول كده؟ قلت له: أنا وانت مش مشكلتنا فى كده، دى مشكلة اللى بيسمع ويصدق من غير ما يتحقق، قلت له: وكمان فيه مشكلة تانية أكبر انت مش واخد بالك منها، وهى دى المصيبة الكبيرة، وهى إنك تقعد تسمع للتلفزيون مثلاً تلاقى واحد قاعد يكلم الناس كلام غلط فى غلط، والناس منساقة وراه، بسبب عدم علمهم بالنصوص أو الحقيقة فين، لكن لو كل واحد واخد باله كويس إنه هاييجى يوم من الأيام ويكون فيه فى مكان مظلم لا يرى فيه نفسه، طبعاً عارف أنا باتكلم عن إيه بالظبط؟ قال لى: أيوه هو فيه غيره "القبر". قلت له: بالظبط دلوقت فهمتنى، طالما الإنسان متيقن من اليوم ده، مش خايف لما ييجى يسألوه الملكين انت قلت الكلام ده ليه؟ هايرد يقول إيه ساعتها؟ هايقولهم أنا سمعت الراجل فى التلفزيون بيقول كده!! والا هايقول لهم زى حالاتك أنا سمعت الراجل فى خطبة الجمعة بيقول كده!! طيب فرضاً هو هايقول كده، طيب والملكين هايعملوا إيه بقى؟!! اللهم احفظنا وسلمنا يا كريم، والله دى مصيبة كبيرة فعلاً، لما الواحد ياخد دينه من تلفزيون أو خطبة جمعة لراجل واقف على المنبر مايعرفش إيه هى أفكاره أو توجهاته، ساعتها يبقى يستاهل كل اللى يجرى له، وحضرتك عامل فيها ناصح، وقاعد توعظ الناس بكلام مرسل من غير دليل أو برهان، وهان عليك دينك لدرجة إنك ماتتحقش من أى كلمة أى واحد يقولها لك فى الدين، بحجة إنه قال لك آية أو حديث، وانت مش فاهم معناهم بترددهم وخلاص، وماشى وراه زى ما يسوقك انت ماشى.

قال لى: توبة إن كنت أقول كلام مش فاهمه كويس أو من غير ما اتأكد من سنده الصحيح واللى قبلنا قالوا فيه إيه، قلت له نصيحتى ليك أهم حاجة هى إنك تتأكد من مصدر الكلام اللى بيقولوه الناس، وإوعى حد يقول لك آية ويفسرها لك من رأسه وتمشى وراه أو يقول لك حديث ويفسره لك من رأسه وتمشى بيه، لازم تتحرى الدقة وتتأكد من سند كلامه وتفسيره ده، هل فيه حد من الصحابة أو التابعين قالوه؟ وقلت له: تعرف أبو حصين؟ قال لى أبو حصين مين؟ قلت له ده واحد قال عنه الإمام الذهبى فى كتاب سير أعلام النبلاء إنه كان إمام حافظ واسمه عثمان بن عاصم بن حصين، من أهل الكوفة، وقالوا عنه "لا ترى حافظاً يختلف على أبى حصين" من شدة حفظه لأحاديث سيدنا رسول الله ، وقال عنه ابن معين والنسائى "أبو حصين ثقة" كان إذا سئل عن مسألة، قال: ليس لى بها علم والله أعلم، شوف مع شدة علمه وحفظه للأحاديث كان بيقول إيه، لأن لازم الواحد يكون متأكد جداً جداً من الكلام اللى بيقوله فى الدين، وكان أبو حصين بيقول فى صنف من الناس أيامه كانوا بيفتوا بدون علم كان بيقول عنهم "إن أحدهم ليفتى فى المسألة، ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر" والمقصود بـ "عمر" هنا هو سيدنا عمر بن الخطاب ، فياريت نتعلم من الناس دول ونمشى على دربهم، ربنا يحفظنا ويحفظك، ويحفظ السامعين. آمين.

 

سامر الليل

 

 
 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصوفية فى موقع الطريقة البرهانية.

أسرة التحرير