أم أبيها:

السيدة فاطمة الزهراء

  

مولدها ونشأتها :

أيام إعادة قريش بناء الكعبة وقبل بعثة الحبيب المصطفى بنحو خمس سنوات، وبعد حدث عظيم ليس لقريش فقط بل هو للعالم أجمع، حينما ارتضت قريش رسول الله حكما لينهى الخلاف القَبَلِى فيما بينهم حول وضع الحجر الأسود بعد تجديد بناء الكعبة وكان الحبيب المحبوب سببا رئيسيا فى وقف نزيف الدم الذى كاد أن ينزف بين القبائل.

واقترن هذا الحدث العظيم بولادة قُرة عين المصطفى ليستقبل سيدة نساء العالمين، الحوراء الآدمية الطاهرة المطهرة، ألا وهى السيدة فاطمة الزهراء رضوان الله تبارك وتعالى عنها، وقد سماها "فاطمة" لاشتقاقها من الفطم وهو القطع، وقد روى الديلمى عن أبى هريرة والحاكم عن الإمام على أنه قال (إنما سميت فاطمة لأن الله فطمها ومحبيها عن النار).

كما سميت بالزهراء لأنها زهرة المصطفى ، وقيل لأنها طَهرت من النفاس بعد ساعة من ولادتها لئلا تفوتها صلاة، ولذلك سميت بالزهراء. ولقبت (بالبتول) لأنه سبحانه وتعالى قطعها عن النساء حسنا وفضلا وشرفا، وقيل لانقطاعها إلى الله. وكنيت بـ (أم أبيها) كما أخرجه الطبرانى فى المعجم الكبير.

ويقول الإمام فخر الدين :

أُمُّنَا الزَّهْرَاءُ ذَاتُ الْـ             إِجْتِبَا نُورًا ثَنِيَّا

بِنْتُ مَنْ خُصَّتْ بِخَيْرِ الْـ       خَلْقِ بَدْءًا أَوَّلِيَّا

وكانت من أحب أبنائه بل أحب الناس إليه مطلقا، وللترمذى عن بريدة والسيدة عائشة قالت "ما رأيت أحدا أشبه سمتا ولا هديا برسول الله من فاطمة فى قيامها وقعودها، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها وأجلسها فى مجلسه". وفى رواية "ما رأيت أحد أشبه وجها برسول الله من فاطمة".

وعن سيدنا أسامة بن زيد أن رسول الله قال: (أحب أهلى إلى فاطمة) وعن السيدة عائشة أنها قالت "ما رأيت أفضل من فاطمة غير أبيها" وعن سيدنا عبد الله بن عباس أنه قال لفاطمة (إن الله غير معذبك ولا ولدك بالنار).

وكانت السيدة فاطمة الزهراء واحدة زمانها، وعظيمة دهرها، وقد تهيأ لها من الكثير من مشاهد النبوة والوحى، وقد صحبت أباها من نعومة أظفارها إلى أن فارقها المصطفى , يوم التحق بالرفيق الأعلى، على مدى ربع قرن، ثم لم تلبث أن لحقت به .

زواجها :

ولما شبت وترعرعت تزوجها الإمام على، وكان هذا الحدث العظيم فى شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة ولم يتزوج قبلها ولا عليها حتى انتقلت.

وفى تفسير قوله تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾ الفرقان 25: 54، روى بعض أهل التفاسير: أن رسول الله قال للسيدة فاطمة: إن علياً يخطبك فسكتت، وفى رواية قال لها (أى بنية إن ابن عمك قد خطبك فماذا تقولين)؟ فقالت: رضيت بما رضى الله ورسوله، وقد كان خطبها الصديق أبو بكر والفاروق عمر فقال لكلٍ (أنتظر بها القضاء) فجاء أبو بكر وعمر إلى على يأمرانه أن يخطبها، فقال الإمام على: فنبهانى، فجئته فقلت: تزوجنى فاطمة؟ قال (وعندك شئ)؟ قال: فرسى وبدنى -أى درعى- قال (أما فرسك فلابد لك منها، وأما بدنك فبعها) فبعتها بأربعمائة وثمانين درهماً فجئته فوضعتها فى حجره، فقبض منها قبضة فقال (أى بلال ابتع بها طيباً) ولما أراد أن يعقد خطب الحبيب المصطفى خطبة منها:

(الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع سلطانه، النافذ أمره فى سمائه وأرضه، الذى خلق الخلق بقدرته وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيهم محمدا، إن الله تبارك اسمه وتعالت عظمته قال عز من قائل ﴿وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾ فأمر الله مجرى إلى قضائه، وقضاؤه مجرى إلى قدره، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ الرعد 13: 39، ثم إن الله أمرنى أن أزوج فاطمة من على، فاشهدوا على أنى قد زوجته على أربعمائة مثقال فضة، أرضيت يا على)؟ قال: رضيت.

فقام على بين يدى رسول الله والحياء يملأ صفحة وجهه وقال فى أدب موفور بنبع القرآن والبلاغة النبوية: الحمد لله شكراً لأنعمه وأياديه، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تبلغه وترضيه، وهذا محمد رسول الله زوجنى ابنته فاطمة على صداق مبلغه أربعمائة درهم، فاسمعوا ما يقول واشهدوا.

ولما تم العقد جاءت أم أيمن بالزهراء حتى جلست فى جانب البيت وجلس على فى جانب آخر، وجاء رسول الله فقال لفاطمة (ائتنى بماء) فقامت تعثر فى ثوبها من الحياء فأتته بقعب فيه ماء، فأخذه رسول الله ومج فيه ثم قال لها (تقدمى) فنضح من الماء بين يديها وعلى رأسها وقال (اللهم إنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) ثم قال (ائتونى بماء) فقال على : فعلمت الذى يريد، فقمت وملأت القعب فأتيت به فأخذه فمج فيه وصنع بى كما صنع بفاطمة ودعا لى بما دعا لها به، ثم قال (اللهم بارك فيهما وبارك عليهما وبارك لهما فى شملهما) وتلا قوله تعالى ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ والمعوذتين ثم قال (ادخل بأهلك باسم الله والبركة).

فخر الإمام على ساجدا شكرا لله تعالى، فقال المصطفى (جمع الله شملكما وبارك عليكما، وأخرج منكما صالحاً طيباً وجعل نسلكما مفاتيح الرحمة ومعدن الحكمة).

يَا رَسُولَ اللهِ يَا مَنْ             خَصَّ بِالزَّهْرَا عَلِيَّا

أَعْطَتِ الزَّهْرَا عَظِيمَيْنِ         وَمَا انتَبَذَتْ قَصِيَّا

وذات مرة يسأل الإمام علىّ رسول الله : أيما أحب إليك أنا أم فاطمة? فقال (فاطمة أحب إلى منك، وأنت أعز على منها، وكأنى بك وأنت على حوضى تذود عنه الناس، وإن عليه لأباريق مثل عدد نجوم السماء، وإنى وأنت والحسن والحسين وعقيل وجعفر فى الجنة إخوانا على سرر متقابلين) ثم قرأ ﴿إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾.

ويدخل رسول الله على الإمام علىّ والسيدة فاطمة وهما يضحكان، فلما رأياه سكتا، فقال لهما (ما لكما كنتما تضحكان فلما رأيتمانى سكتما)? فبادرت الزهراء فقالت: بأبى أنت يا رسول الله علىّ قال: أنا أحب إلى رسول الله منك، فقلت: بل أنا أحب إليه منك، فتبسم رسول الله وقال (يا بنية .. لك رقة الولد وعلى أعز علىّ منك).

وكان الإمام على عند رسول الله فقال الحبيب المصطفى (أى شئ خير للمرأة)? فسكتوا، فلما رجع الإمام على قال للسيدة فاطمة: أى شئ خير للنساء? فقالت: لا يراهن الرجال!! فذكر ذلك للمصطفى فقال (إنما فاطمة بضعة منى) وفيه دليل على فرط ذكائها، وكمال فطنتها، وقوة فهمهما، وعجيب إدراكها.

أبناءها :

وقد خيمت السعادة على بيت الزهراء بل على العالم بأسره، وذلك عندما وضعت البتول طفلها الأول وكان ذلك فى السنة الثالثة من الهجرة ففرح به النبى فرحا شديدا، وتلا الآذان على مسامعه وحنكه بنفسه وسماه "الحسن" وصنع عقيقة فى يوم سابعه، وحلق شعره وتصدق بزنته فضة، وكان الإمام "الحسن" أشبه خلق الله برسول الله فى وجهه، وما أن بلغ الإمام "الحسن" من العمر عاما حتى تلاه الإمام "الحسين" فى شهر شعبان من السنة الرابعة من هجرة الحبيب، وتفتح قلب رسول الله لسبطيه "الحسنين" فغمرهما بكل ما امتلأ به قلبه من حب وحنان، وكان صلوات ربى وسلامه عليه وآله يقول (اللهم أنى أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما) وتتابع الثمر المبارك فولدت الزهراء فى العام الخامس من الهجرة النبوية الشريفة عقيلة أهل البيت ألا وهى السيدة "زينب" وبعد عامين من مولدها المبارك تأتى السيدة "أم كلثوم".

وبذلك آثر الله سيدة نساء العالمين بالنعمة الكبرى، بأنه سبحانه حصر فى ولدها ذرية نبيه المصطفى صلوات ربى وسلامه عليه وآله، وحفظ بها أفضل سلالات البشرية.

يقول الامام فخر الدين

ؤأمنا الزهراء ذات       الاجتبا نورا ثنيا

حياتها وزهدها :

لم تكن حياة فاطمة فى بيت زوجها مترفة ولا ناعمة، بل كانت خشنة زاهدة، وقد كفاها زوجها الخدمة خارجا وسقاية الحاج وأسنده لأمة، وكان على يساعدها فى شؤون المنزل. قال على : لقد تزوجت فاطمة وما لى ولها فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل ونجلس عليه بالنهار، ومالى ولها خادم غيرها، ولما زوجها رسول الله بى بعث معها بخميلة ووسادة أدم حشوها ليف ورحائين وسقاء وجرتين، فجرت بالرحى حتى أثرت فى يدها، واستقت بالقربة بنحرها، وقمّت البيت حتى اغبرت ثيابها. ولما علم على أن النبى قد جاءه خدم قال لفاطمة: لو أتيت أباك فسألتيه خادما، فأتته فقال النبى ما جاء بك يا بنيه؟ قالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت، فأتاها رسول الله من الغد فقال: ما كانت حاجتك؟ فسكتت فقال على: والله يا رسول الله لقد سنوت حتى اشتكيت صدرى، وهذه فاطمة قد طحنت حتى مجلت يداها وقد أتى الله بسبى فأخدمنا.

فقال الرسول (لا والله، لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تتلوى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم ولكن أبيع وأنفق عليهم بالثمن) فرجعا إلى منزلها، فأتاهما رسول الله ليخفف عنهما عناءهما وقال لهما برفق وحنان (ألا أخبركما بخير مما سألتمانى)؟ قالا: بلى. فقال (كلمات علمنيهن جبريل: تسبحان الله دبر كل صلاة عشرا، وتحمدان عشرا، وتكبران عشرا، وإذا أويتما إلى فراشكما تسبحان ثلاثة وثلاثين، وتحمدان ثلاثة وثلاثين، وتكبران أربعا وثلاثين). أنظر إلى هدية المصطفى لابنته التى كانت أحب الخلق إليه. ولا يمكن أن يظن ظان أن المصطفى كان يفرض على أهله زهدا هم له كارهون ولكن ذلك كان خلقا أصيلا فيهم بجانب أخلاق الإيثار والتضحية والوفاء... انظر كيف وصفهم القرآن:

﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ... يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا • وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا • إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا • إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا • فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا • وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا • مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ... إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ الإنسان 76: 5-22.

فذكر المفسرون فى تفسير هذه الآيات ومنهم الإمام الرازى:

والواحدي من أصحابنا ذكر فى كتاب «البسيط» أنها نزلت فى حق على ، وصاحب «الكشاف» ذكر هذه القصة، فروى عن ابن عباس «أن الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول الله فى أناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر على وفاطمة وفضة جارية لهما، إن شفاهما الله تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهم شيء فاستقرض على من شمعون الخيبرى اليهودى ثلاثة أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم ووضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين أطعمونى أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه –أعطوه كل مالديهم من طعام- وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صائمين، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، وجاءهم أسير فى الثالثة، ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ على بيد الحسن والحسين ودخلوا على الرسول ، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال (ما أشد ما يسوءنى ما أرى بكم) وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك، فنزل جبريل وقال: خذها يا محمد هنّاك الله فى أهل بيتك فأقرأه السورة».أهـ. فيا هنيئا لهم بأخلاقهم التى جعلتهم محل ثناء الحق سبحانه وملائكته، وهذه هى السيدة فاطمة وأهلها .

وقد بلغ من حب رسول الله للزهراء أنه لا يخرج من المدينة حتى يكون آخر عهده بها رؤية السيدة فاطمة، وإذا عاد من سفره بدأ بالمسجد فيصلى ركعتين، ثم يأتى بيت البتول، وبعدها يأتى أزواجه، وقد قال (فاطمة بضعة منى فمن أغضبها فقد أغضبنى) وفى رواية (فاطمة بضعة منى يقبضنى ما يقبضها، ويبسطنى ما يبسطها، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبى) وفى أخرى (فإنما فاطمة بضعة منى يريبنى ما رابها ويؤذينى ما أذاها) بل يصل الأمر ذروته حينما قال صلوات ربى وسلامه عليه وآله  (إن الله يرضى لرضاك ويغضب لغضبك).

وتقول السيدة عائشة "ما رأيت أحد أشبه كلاما وحديثا برسول الله من فاطمة، كانت إذا دخلت قام إليها فقبلها، ورحب بها، وأخذ بيديها وأجلسها فى مجلسه، وكانت هى إذا دخل عليها قامت إليه فقبلته، وأخذت بيده، وأجلسته مكانها".

ولقد هم الإمام على بالزواج من بنت أبى جهل، على السيدة فاطمة ، وكان ذلك صلة للرحم وحرجا من بنى هاشم، ولكن الأدب مع الرسول وبنته أقوى من هذه الصلة فيما أحله الشرع للمسلمين من تعدد الزوجات، والدليل على ذلك أنه عندما بلغ رسول الله ذلك خرج إلى المسجد مغضبا حتى بلغ المنبر فخطب الناس فقال (إن بنى هشام بن مغيرة استأذنونى أن ينكحوا ابنتهم على بن أبى طالب فلا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، إلا أن يريد على بن أبى طالب أن يطلق ابنتى وينكح ابنتهم، وإنى لست أحرم حلالا، ولا أحل حراما، لكن والله لا تجتمع بنت رسول الله، وبنت عدو الله أبدا). فترك على الخطبة وتخلص من الحرج. وهذا دليل على حبه واحترامه للسيدة فاطمة فليتنا نتعلم منه ولعل الله أن يرزقنا حبها وحب ذريتها إلى يوم الدين.

وفاة الرسول :

وكان بداية مرضه بعد حجة الوداع فى اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11هجرية - وكان يوم الاثنين – وقد صلى المصطفى بالناس وهو مريض أحد عشر يوما وجميع أيام المرض كانت ثلاثة عشر يوما. وقد هرعت السيدة فاطمة لتوها لتطمئن عليه، وهو عند أم المؤمنين عائشة ، فلما رآها هش للقائها وقال (مرحبا بابنتى)... وعن السيدة عائشة قالت: اجتمع نساء النبى فلم تغادر منهن امرأة، قالت فجاءت فاطمة تمشى كأن مشيتها مشية رسول الله فقال رسول الله (مرحبا بابنتى)، ثم أجلسها فأسر إليها حديثا فبكت، فقلت حين بكت: خصك رسول الله بحديثه دوننا ثم تبكين، ثم أسر إليها حديثا فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا قط أقرب من حزن، فسألتها عما قال لها فقالت: ما كنت لأفشى سر رسول الله . حتى إذا قبض سألتها فقالت: إنه كان حدثنى قال (كان جبريل يعارضنى كل عام مرة وإنه عارضنى العام مرتين، ولا أظن إلا أجلى قد حضر، فاتقى واصبرى، ونعم السلف أنا لك) فبكيت بكائى الذى رأيت، فلما رأى جزعى سارنى الثانية (يا فاطمة أما ترضين أن تكونى سيدة نساء أهل الجنة؟ وإنك أول أهلى لحوقا بى) قالت فضحكت لذلك.

ولما حضرت النبى الوفاة، بكت السيدة فاطمة حتى سمع النبى صوتها فقال (لا تبكى يا بنية، قولى إذا مت: انا لله وانا إليه راجعون، فان لكل إنسان بها من كل مصيبة معوضة) قالت فاطمة: ومنك يا رسول الله؟ قال (ومنى).

وبعد أن دفن الصحابة رسول الله وانصرف الناس قالت البتول لزوجها الإمام على : يا أبا الحسن دفنتم رسول الله ؟ قال: نعم، فقالت : كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله ؟! أما كان فى صدوركم لرسول الله الرحمة؟! أما كان معلم الخير؟! قال: بلى يا فاطمة ولكن أمر الله الذى لا مرد له، فجعلت تبكى وهى تقول: يا أبتاه الآن انقطع جبريل وكان جبريل يأتينا بالوحى من السماء. وبكت الزهراء أم أبيها، وبكى المسلمون جميعا نبيهم ورسولهم الحبيب سيدنا محمد .

وفى رواية عن عروة ابن الزبير عن عائشة أن فاطمة أرسلت إلى أبى بكر تسأله ميراثها من النبى فيما أفاء الله على رسوله تطلب صدقة رسول الله التى بالمدينة وفدك وما بقى من خمس خيبر فقال أبو بكر: أن رسول الله قال (لا نورث ما تركناه فهو صدقة إنما يأكل آل محمد من هذا المال –يعنى مال الله– ليس لهم أن يزيدوا على المأكل) وإنى والله لا أغير شيئا من صدقات النبى ، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله ، ولست تاركا شيئا كان رسول الله يعمل به إلا عملت به، فإنى أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ. فتشهد على. ثم قال -أى الرسول الذى أرسلته: إنا عرفناك يا أبا بكر. فقال: والذى نفسى بيده لقرابة رسول الله أحب إلى أن أصل من قرابتى وأوسع منه. والحكمة من ذلك أن الله تعالى صان الأنبياء أن يورثوا دنيا؛ لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح فى نبوتهم بأنهم طلبوا دنيا وورثوها لورثتهم، أما السيدة فاطمة التى كانت أزهد الناس فى الدنيا والتى كان فرحها الأصيل بسرعة لحاقها بأبيها رسول الله ، وما طلبها لصدقات أبيها إلا لمحبيها وأهلها من الفقراء والمساكين، فلم تعرف وبنيها سادة أهل الجنة جميعهم رضى الله عنهم وأرضاهم وأرضانا بهم وحشرنا فى زمرتهم؛ لم يعرفوا جميعا إلا بالجود والسخاء والزهد فى الدنيا، فلم تكن لتطلب لنفسها شيئا فكيف تسعى لشيئ من الدنيا التى كانت سعادتها بسرعة تركها ولحاقها بأبيها سيد الخلق، فطابت سيدة النساء فاطمة وطاب أبناءها وطابت ذريتها بها، وبقيت زاهدة راضية حتى وافاها الأجل، فكانت أول اللاحقين بأبيها من أهل بيته كما بشرها بذلك، فطابت بالبشرى.

وعن ختام حياتها يروى لنا الإمام أحمد فى مسنده وابن سعد فى طبقاته عن سلمى قالت:

اشتكت فاطمة شكوها التى قبضت فيه! فكنت أمرضها، فأصبحت يوما، وخرج على لبعض حاجته، فقالت: يا أَمَة، اسكبى لى غسلا، فسكبت لها غسلا فاغتسلت كأحسن ما رأيتها تغتسل ثم قالت: أعطينى ثيابى الجدد، فلبستها، ثم قالت: قربى فراشى وسط البيت، فاضطجعت واستقبلت القبلة، وجعلت يدها تحت خدها وقالت: يا أَمَة إنى مقبوضة وقد تطهرت فلا يكشفنى أحد! فقُبضت مكانها، فجاء على فأخبرته فقال: لا والله لا يكشفها أحد، فدفنها بغسلها ذلك.

وقيل: غسلتها السيدة (أسماء بنت عميس) والذى صلى عليها الإمام علىّ ودفنها ليلا بوصية منها، فى محل فيه ولدها الحسن تحت محرابها، وكان موتها بعد المصطفى بستة أشهر على الصحيح.

وقيل: أن السيدة فاطمة الزهراء أوصت الإمام على بثلاث وصايا فى حديث دار بينهما قبل وفاتها، وقالت الزهراء يا ابن عم .. إنه قد نعيت إلى نفسى، وإننى لا أرى حالى إلا لاحقة بأبى ساعة بعد ساعة، وأنا أوصيك بأشياء فى قلبى. فقال : أوصينى بما أحببت يا بنت رسول الله فجلس عند رأسها وأخرج من كان فى البيت، فقالت : يا ابن العم ما عهدتنى كاذبة ولا خائفة، ولا خالفتك منذ عاشرتنى، فقال : معاذ الله! أنت أعلم بالله تعالى، وأبر واتقى وأكرم وأشد خوفا من الله تعالى، وقد عز على مفارقتك وفقدك، إلا أنه أمر لابد منه، والله لقد جددت على مصيبة رسول الله وجل فقدك، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكانت وصيتها هى:

أولا: أن يتزوج الإمام على بالسيدة "أمامة بنت العاص بن الربيع" وهى بنت أختها السيدة "زينب" وفى اختيارها لها قالت: أنها تكون لولدى مثلى فى حنوتى ورؤومتى.

ثانيا: أن يتخذ لها نعشا وصفته له، وكانت التى أشارت عليها بهذا النعش أسماء بنت عميس ، وذلك لشدة حياءها فقد استقبحت أن تحمل على الآلة الخشبية ويطرح عليها الثوب فيصفها، ووصفه أن يأتى بسرير ثم بجرائد تشد على قوائمه، ثم يغطى بثوب.

ثالثا: أن تدفن ليلا بالبقيع.

ولم يطل الأمر بل لم يطل مقامها فى الدنيا كثيرا بعد وفاة المصطفى وقد اختلفت الروايات فى تحديد تاريخ وفاتها، فقيل فى الثالث من جمادى الآخرة سنة عشرة للهجرة وقيل توفيت لعشر بقين من جمادى الآخرة، والراجح أنها توفيت فى شهر رمضان سنة إحدى عشر من الهجرة، أى بعده صلوات ربى وسلامه عليه وآله بستة أشهر.

ويخرج لنا الحاكم على شرط الشيخين وكذا الطبرانى فى معجمه والإمام أحمد فى "فضائل الصحابة" أن عليا قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من وراء الحجب: يا أهل الجمع، غضوا أبصاركم عن فاطمة بنت محمد حتى تمر .. وفى رواية أخرى "إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش يا أهل الجمع نكسوا رؤوسكم، وغضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد على الصراط، فتمر مع سبعين ألف جارية من الحور العين كمر البرق" .. وصدق رسول الله فى قوله (يا فاطمة أما ترضين أن تأتى يوم القيامة سيدة نساء المؤمنين) ونذكر له حديثا للبتول أيضا (إن الله تعالى غير معذبك ولا ولدك بالنار) بل عدها الحبيب المحبوب من أفضل نساء العالمين حين قال (أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم).

سَيِّدَاتُ الْكَوْنِ كُلٌّ             أُعْطِيَتْ فَضْلًا حَبِيَّا

ونختم بالحديث الذى أتى به صاحب كتاب "كشف الخفا" وكذلك السخاوى فى "المقاصد الحسنة" أنه صلوات ربى وسلامه عليه وآله قال (أنا ميزان العلم وعلى كفتاه والحسن والحسين خيوطه والأئمة من أمتى عموده وفاطمة علاقته، توزن فيه أعمال المحبين لنا والمبغضين لنا).

راوية رمضان