الصيام 2

 

نستكمل ما قد بدءناه فى العدد الماضى من الحديث عن الصيام ومازلنا معا فى نفس القصة لأنها كبيرة ومتشعبة من آيات وأحاديث وأقوال الصالحين وخاصة إنه واحد من خمسة اتبنى عليهم الإسلام كما جاء فى الحديث، ومن الآيات التى حينما نذكرها فى هذا المقام تجعل المرء مندهشا على أى ربط بينها وبين الذى نحن بصدده وهو الكلام عن الصيام، ولكن إذا تمهلنا وبحثنا ودرسنا جيدا هذا الموضوع وجدنا العلاقة قوية جدا بين الآية وبين الموضوع وهذه الآية هى قول الحق سبحانه وتعالى فى سورة البقرة ﴿وَاسْتَعينُوا بِالصبَّرِ وَالصَّلاةِ نجد أن التفسير أوضح لنا العلاقة بين الآية والصيام فقد قيل فى هذه الآية: الصبر يعنى الصوم وكان رسول الله يسمى رمضان شهر الصبر لأن الصبر: حبس النفس عن الهوى وإيقافها وحبسها على أمر المولى، وفى مسند الشهاب عن النبى أنه قال (الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله) وروى البيهقى فى شعب الإيمان عنه أنه قال (التسبيح نصف الميزان والحمد لله تملأه والتكبير تملأ ما بين السماء والأرض والصوم نصف الصبر والطهور نصف الإيمان) فنستخلص من الحديثين الشريفين السابقين أن الصوم ربع الإيمان، وقال الله تبارك تعالى ﴿وَاسْتَعينُوا بِالصّبْرِ البقرة:351، فقيل: معناه على مجاهدة النفس، وقيل أيضاً: على مصابرة العدوّ، وقال بعض العلماء: استعينوا بالصبر على الزهادة فى الدنيا بالصوم، لأن الصائم كالزاهد العابد، فالصوم مفتاح الزهد فى الدنيا وباب العبادة للمولى لأنه منع النفس عن ملاذها وشهواتها من الطعام والشراب كما منعها الزاهد العابد بدخوله فى الزهد وشغله بالعبادة، ولذلك جمع رسول الله بينهما فى المعنى فقال (إن الله عزّ وجلّ يباهى ملائكته بالشاب العابد، فيقول: أيها الشاب التارك شهوته من أجلى المبتذل شبابه لى أنت عندى كبعض ملائكتى)، وقال فى الصائم: مثل ذلك (يقول عزّ وجلّ: يا ملائكتى انظروا إلى عبدى ترك شهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلى) ففى الصوم عون على مجاهدة النفس وقطع حظوظها ومنع عادتها وفيه إضعاف لها ونقصان لهواها، وقال رسول الله (يقول الله عزّ وجلّ: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به) فأضافه عزّ وجلّ إليه تفضيلاً له، وقيل: ما فى عمل ابن آدم شىء إلا ويقع فيه قصاص ويذهب برد المظالم إلا الصوم فإنه لا يدخله قصاص، ويقول الله عزَّ جلّ يوم القيامة: هذا لى فلا يقتص منه أحد شيئاً، يقال: ما من عمل إلا وله جزاء معلوم إلا الصوم فإنه لا تعلم نفس ماجزاؤه ويكون أجره بغير حساب يفرغ له إفراغاً ويجازف مجازفة وهو أحد الوجوه فى قوله عزّ وجلّ ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ السجدة :17، قيل: كان عملهم الصيام، وكذلك فى تأويل قوله عزّ وجلّ: السائحون قيل هم الصائمون كأنهم ساحوا إلى ربهم عزّ وجلّ بجوعهم وعطشهم وتركوا قرّة أعين أبناء الدنيا من أكلهم وشربهم فآواهم مولاهم فيما أخفى لهم من قرّة أعين جزاء لعملهم، وقال تعالى ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ الزمر :10، قيل: الصائمون والصبر اسم من أسماء الصوم فلما أخفى ذكره بالصوم فى نفسه أخفى الله عزّ وجلْ جزاءه إياه عن غير نفسه.

فانظر معى أيها القارئ الكريم ما فى هذا الأمر من عظم الجزاء بل وفيه من أجزل العطاء، فمن تشريفه أن المولى تبارك وتعالى أضافه إليه بقوله عز وجل فى الحديث القدسى (فإنه لى) فما أعظم من هذا التشريف.

وقالوا فى الصوم أنه: عند الصائمين هو صوم القالب فأما صوم الخصوص من الموقنين فإن الصوم عندهم هو صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية ثم صوم السمع والبصر واللسان عن تعدى الحدود وصوم اليد والرجل عن البطش والسعى فى أسباب النهى، فمن صام بهذا الوصف فقد أدرك وقته فى جملة يومه وصار له فى كل ساعة من نهاره وقت وقد عمر يومه كله بالذكر، ولمثل هذا قيل: نوم الصائم عبادة ونفسه تسبيح.

وقالوا أيضاً: الصوم على ثلاثة أوجه: صوم الروحِ بقصر الأمل، وصوم العقل بخلاف الهوى، وصوم النفس بالإمساك عن الطعام والمحارِم.

وبهذا لم يكن المنشود من الصيام بالإمساك عن الشهوتين وفقط وهما الجماع والبطن، بل ليجعلنا نترقى ونذهب إلى ما هو أعلى من ذلك بصيام الجوارح كلها وعدم ارسالها فيما نهى الله عنه، وامتثالها واتباعها لما أمر رسوله الكريم به وقيل فى الإحياء عن أبى الدرداء: قال أبو الدرداء يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف لا يعيبون صوم الحمقى وسهرهم، ولذرة من ذوى يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغتربين، ولذلك قال بعض العلماء كم من صائم مفطر وكم من مفطر صائم والمفطر الصائم هو الذى يحفظ جوارحه عن الآثام ويأكل ويشرب والصائم المفطر هو الذى يجوع ويعطش ويطلق جوارحه ومن فهم معنى الصوم وسره علم أن مثل من كف عن الأكل والجماع وأفطر بمخالطة الآثام كمن مسح على عضو من أعضائه فى الوضوء ثلاث مرات فقد وافق فى الظاهر العدد إلا أنه ترك المهم وهو الغسل فصلاته مردودة عليه بجهله ومثل من أفطر بالأكل وصام بجوارحه عن المكاره كمن غسل أعضاؤه مرة مرة فصلاته متقبلة إن شاء الله لإحكامه الأصل وإن ترك الفضل ومثل من جمع بينهما كمن غسل كل عضو ثلاث مرات فجمع بين الأصل والفضل وهو الكمال وقد قال (إن الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته) أخرجه الخرائطى فى مكارم الأخلاق من حديث ابن مسعود ولما تلا قوله عز وجل ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها﴾ وضع يده على سمعه وبصره فقال (السمع أمانة والبصر أمانة) ولولا أنه من أمانات الصوم لما قال (فليقل إنى صائم) أى إنى أودعت لسانى لأحفظه فكيف أطلقه بجوابك، فإذن قد ظهر أن لكل عبادة ظاهرا وباطنا وقشرا ولبا ولقشرها درجات ولكل درجة طبقات فإليك الخيرة الآن فى أن تقنع بالقشر عن اللباب أو تتحيز إلى غمار أرباب الألباب.

فتأمل يا أخى أصحاب الذوق الرفيع والهمم العالية كيف ينظرون إلى أوامر الحق ونواهيه، وكيف ينظرون إلى أركان الإسلام نفسها، فلم يكتفو بالنظر إلى الشكل بل أرسلوا هِمَمهم لتنال من المضمون، كى لا يصبح العمل كقرية خاوية على عروشها أو كالجسد الذى لا روح فيه، ويحضرنى فى هذا المقام لطيفة عن نبى الله داود أنه سأل ابنه سليمان: ما آنس الأشياء وأوحشها، فقال له ابنه سليمان: أما آنس الأشياء فجسد فيه روح، وأما أوحشها فهو جسد لا روح فيه.

كذلك تجد الناس وطبيعتهم التى جبلوا عليها تستوحش من الميت لخروج الروح منه، فانظر معى وتأمل أيها القارئ الكريم، فإذا أردت أن تأتنس بالعمل فعليك أن تسعى إلى روحه، تجد أنسك بعد وحشتك، وإلى ذوق آخر من ذوقهم الرفيع ننهل منه ونرتقى، نلتقى فى أعداد قادمة بإذن الله تعالى.

سامر الليل

 

 

 

 نصيحة الرعية للإمام

 

كلنا نتمنى لو كنا صحابة الحبيب النبى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام فهل لو كنا مكانهم فماذا يكون حالنا هل أفعالنا ستطابق أفعالهم وهل كنا سوف ننطق بمثل أقوالهم تعالى معى نسمع ما قالوه عندما سنحت لهم فرصة إبداء النصيحة لإمامهم:

أخرج الطبرانى عن الأغر -أغر بنى مالك- قال: لما أراد أبو بكر أن يستخلف عمر ، بعث إليه فدعاه فأتاه، فقال: إنى أدعوك إلى أمر متعب لمن وليه، فاتق الله ياعمر بطاعته، وأطعه بتقواه، فإن التقى آمن محفوظ، فإن أنت وليت عليهم أمرهم فإن إستطعت أن تجف يديك من دمائهم، وأن تضمر بطنك من أموالهم، وأن تجف لسانك عن أعراضهم فافعل، ولا قوة إلا بالله، هذه نصيحه خليفة لمن استخلف وقد نصح الإمام عامة الصحابة وخاصتهم.

أخرج ابن سعد، وابن عساكر عن مكحول أن سعيد بن الجزيم الجمحى من أصحاب النبى قال لعمر بن الخطاب : إنى أريد أن أوصيك يا عمر، قال: أجل فأوصنى، قال: أوصيك أن تخشى الله فى الناس، ولا تخشى الناس فى الله، ولا يختلف قولك وفعلك، فإن خير القول ما صدقه الفعل، ولا تقض فى أمر واحد بقضاءين فيختلف عليك أمرك وتزيغ عن الحق، وخذ بالأمر ذى الحجة تأخذ بالفَلْج -الظفر والفوز- ويعينك الله ويصلح رعيتك على يديك، وأقم وجهك وقضاءك لمن ولاك الله أمره من بعيد المسلمين وقريبهم، وأحب لهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك، وخض الغمرات إلى الحق، ولا تخف فى الله لومة لائم، فقال عمر : من يستطيع ذلك؟ فقال سعيد: مثلك، من ولاه الله أمر أمة محمد ، ثم لم يحل بينه وبين الله أحد.

نلاحظ أن سيدنا سعيد عرض على سيدنا عمر أن ينصحه وأبدى سيدنا عمر قبوله بالنصيحة واستمع إليها، وتعالى نتعرض لموقف أخر طلب فيه سيدنا عمر من حضروا مجلسه أن ينصحوه!!!

عن عبد الله بن بريدة أن عمر بن الخطاب جمع الناس لقدوم الوفد فقال لزيد بن الأرقم: انظر أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام فأذن لهم أول الناس، ثم القرن الذين يلونهم -أى الجماعه التى بعدهم- فدخلوا فصفوا قدامه فنظر، فإذا رجل ضخم عليه مقطعة برود، فأومأ إليه عمر فأتاه، فقال عمر: إيه ثلاث مرات فقال الرجل: إيه ثلاث مرات فقال عمر: أف، قم فقام فنظر فإذا الأشعرى رجل أبيض، خفيف الجسم قصير ثيط -ثقيل بطئ الحركة- فأومأ إليه فأتاه فقال عمر: إيه فقال الأشعرى: إيه، قال عمر: إيه، فقال: يا أمير المؤمنين افتح حديثاً فنحدثك، فقال عمر: أف، قم، فإنه لم ينفعك راعى ضأن، فنظر فإذا رجل أبيض، خفيف الجسم، فأومأ إليه فأتاه، فقال عمر: إيه فوثب فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ بالله ثم قال: إنك وليت أمر هذه الأمة، فاتقى الله فيما وليت من أمر هذه الأمة وأهل رعيتك فى نفسك خاصة، فإنك محاسب ومسئول، وإنما أنت أمين، وعليك أن تؤدى ما عليك من الأمانة فتعطى أجرك على قدر عملك، فقال عمر: ما صدقنى رجل منذ استُخلفت غيرك، من أنت؟ قال: أنا ربيع بن زياد، فقال: أخو المهاجر بن زياد؟ قال: نعم، فجهز عمر جيشاً واستعمل عليه الأشعرى، ثم قال: انظر ربيع بن زياد، فإن يك صادقاً فيما قال فإن عنده عوناً على الأمر فاستعمله، ثم لا يأتين عليكم عشرة -أى لا تمر عليكم عشرة أيام- إلا تعاهدت منه عمله، وكتبت إلىّ بسيرته فى عمله حتى كأنى أنا الذى استعملته، ثم قال عمر: عهد إلينا نبينا فقال (إن أخوف ما أخشى عليكم بعدى منافق عليم اللسان).

عن محمد بن سوقة قال: أتيت نعيم بن أبى هند فأخرج إلى صحيفة فإذا فيها: من أبى عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب: سلام عليكم، أما بعد فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، فأصبحت قد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الشريف والوضيع، والعدو والصديق، ولكل حصته من العدل، فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر؟ فإنا نحذرك يوم تعنا فيه الوجوه-أى تذل فيه الوجوه لله- وتجف فيه القلوب، وتنقطع فيه الحجج لحجة ملك قهرهم بجبروته، فالخلق داخرون له -أى الخلق أذلاء لربهم- يرجون رحمته، ويخافون عقابه، وإنا نحدث أى علمنا من أحاديث النبى أن أمر هذه الأمة سيرجع فى آخر زمانها إلى أن يكونوا إخوان العلانية أعداء السريرة، وإنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا إليك سوى المنزل الذى نزل من قلوبنا، فإنما كتبنا به نصيحة لك والسلام عليكم!

فكتب إليهما عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين: من عمر بن الخطاب إلى أبى عبيدة، ومعاذ، سلام عليكما، أما بعد: أتانى كتابكما، تذكران أنكما عهدتمانى وأمر نفسى لى مهم، فأصبحت قد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، ويجلس بين يدى الشريف والوضيع، والعدو والصديق، ولكل حصته من العدل، كتبتما: فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر؟ وإنه لا حول ولا قوة لعمر عند ذلك إلا بالله عز وجل، وكتبتما تحذرانى ما حذرت منه الأمم قبلنا، وقديماً كان اختلاف الليل والنهار بآجال الناس يقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويأتيان بكل موعود حتى يصير الناس إلى منازلهم من الجنة والنار، كتبتما تحذرانى أن أمر هذه الأمة سيرجع فى آخر زمانها إلى أن يكونوا إخوان العلانية أعداء السريرة، ولستم بأولئك، وليس هذا بزمان ذاك، وذلك زمان تظهر فيه الرغبة والرهبة، وتكون رغبة الناس بعضهم إلى بعض لصلاح دنياهم، كتبتما تعوذانى بالله أن أنزل كتابكما سوى المنزل الذى نزل من قلوبكما، وإنكما كتبتما به نصيحة لى وقد صدقتما، فلا تدعا الكتاب إلىّ فإنه لا غنى بى عنكما والسلام عليكما.

اللهم بحق نبيك وآله الأكرمين اجعلنا ممن يتناصحوا لصلاح دينهم ودنياهم وأحسن ختامنا يارب العالمين.

التلميذ

 

 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصوفية فى موقع الطريقة البرهانية.

أسرة التحرير