الوجه الآخر لرمضان

 

وإن هو صام الشهر فالدهر دونه 1/422

هذا هو الشطر الأول من البيت 422 من القصدية التائية للإمام فخر الدين

قيل أن الدهر هو الأمد الممدود وقيل أنه ألف سنة، فما هو هذا الشهر الذى إنه أن صامه العبد لا يعادله صيام الدهر كله. سنتعرف على ذلك من خلال الوجه الآخر لرمضان وذلك من خلال ما ورد فى علم الشريعة وعلم الحقيقة والله الموفق والهادى إلى سبيل الرشاد.

يقول المولى تبارك وتعالى ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ البقرة 185، 186.

نعرض أولاً للشريعة التى نقرها ونعمل بها ولا نحيد عنها وإلا كانت زندقة، فهذا كلام ابن عباس : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى﴾ هو الذى ﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ﴾ جبريل بالقرآن جملة إلى سماء الدنيا فأملاه على السفرة ثم نزل به بعد ذلك على محمد يوماً بيوم آية وآيتين وثلاثاً وسورة ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ القرآن بيان من الضلالة للناس ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى﴾ واضحات من أمر الدين ﴿ وَالْفُرْقَانِ﴾ الحلال والحرام والأحكام والحدود والخروج من الشبهات ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ﴾ فى الحضر ﴿فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً﴾ فى شهر رمضان ﴿أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ﴾ فليصم ﴿مِّن أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ بقدر ما أفطر ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ أراد الله بكم رخصة الإفطار فى السفر ويقول اختار الله لكم الإفطار فى السفر ﴿وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ لم يرد أن يكون لكم العسر فى الصوم فى السفر ويقال لم يختر لكم الصوم فى السفر ﴿وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ﴾ لكى تصوموا فى الحضر عدة ما أفطرتم فى السفر ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ﴾ لكى تعظموا الله ﴿على مَا هَدَاكُمْ﴾ كما هداكم لدينه ورخصته ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ لكى تشكروا رخصته، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى﴾ أهل الكتاب ﴿عَنِّى﴾ أقريب أنا أم بعيد ﴿فَإِنى قَرِيبٌ﴾ فأعلمهم يامحمد أنى قريب بالإجابة ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى﴾ فليطيعوا رسولى ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِى﴾ وبرسولى قبل الدعوة ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ لكى يهتدوا فيستجاب لهم الدعاء.

وإذا أردت أن تستزيد فاقرأ ما شئت من التفاسير الشرعية مثل ابن كثير والطبرى والرازى ومن شئت من علماء التفسير الشرعيين فهم كثيرون نقر ما قالوا ونعترف به ولكن هل وقف عطاء القرآن من المعانى عند هذا الحد والخطاب لأدنى الدرجات من أهل الإسلام كالخطاب لأعلى الدرجات من أهل الاحسان؟ لا بل ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ يوسف 76.

لذلك نعرض لك الآن الوجه الآخر لرمضان من الكتاب المنسوب لابن عربى فى تأويل القرآن الجزئين والذى قيل عنه أنه للقاشانى صاحب كتاب اصطلاحات الصوفية فإن كان هذا أو ذاك فكلاهما خير.

يقول ابن عربى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ أى: احتراق النفس بنور الحق ﴿ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ﴾ فى ذلك الوقت ﴿الْقُرْآَنُ﴾ أى: العلم الجامع الإجمالى، المسمّى بالعقل القرآنى الموصل إلى مقام الجمع هداية للناس إلى الوحدة باعتبار الجمع ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى﴾ ودلائل متصلة من الجمع والفرق، أى: العلم التفصيلى المسمّى بالعقل الفرقانى فمن حضر منكم فى ذلك الوقت، أى: بلغ مقام شهود الذات ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ أى: فليمسك عن قول وفعل وحركة ليس بالحق فيه ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضاً﴾ أى: مبتلى بأمراض قلبه من الحجب النفسانية المانعة من ذلك الشهود ﴿أَوْ على سَفَرٍ﴾ أى: فى سلوك بعد ولم يصل إلى الشهود الذاتىّ، فعليه مراتب أُخر يقطعها حتى يصل إلى ذلك المقام ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ بالوصول إلى مقام التوحيد والامتداد بقدرة الله ﴿وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ أى: تكلف الأفعال بالنفس الضعيفة العاجزة ﴿وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ﴾ ولتتمموا تلك المراتب والأحوال والمقامات الموصلة ولتعظموا الله وتعرفوا عظمته وكبرياءه على هدايته إياكم إلى مقام الجمع ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ بالاستقامة أمركم بذلك.

ويقول ابن عجيبة: إذ فى وقت هذا الصيام يتحقق وحى الفهم والإلهام ، وتترادف الأنوار وسواطعُ العرفان فمن شهد هذا فَلْيَدُمْ على صيامه، ومن لم يَقْدِر عليه فَلْيَبْكِ على نفسه فى تضييع أيامه.

واعلم أن الصيام على ثلاث درجات: صوم العوام، وصوم الخواص، وصوم خواص الخواص.

أما صوم العوام: فهو الإمساك عن شهوتَى البطن والفَرْج، وما يقوم مقامَهما من الفجر إلى الغروب، مع إرسال الجوارح فى الزلاَّت، وإهمال القلب فى الغفلات، وصاحبُ هذا الصوم ليس له من صومه إلا الجوع، لقوله (مَنْ لم يَدَعْ قولَ الزُور والعملَ به فليس لله حاجةٌ فى أنْ يدع طعامَه وشرابَه)، وأما صوم الخواص: فهو إمساك الجوارح كلَّها عن الفَضول، وهو كل ما يشغل العبد عن الوصول، وحاصلُه: حفظ الجوارح الظاهرة والباطنة عن الاشتغال بما لا يَعْنِى، وأما صوم خواص الخواص: فهو حفظ القلب عن الالتفات لغير الرب، وحفظ السر عن الوقوف مع الغير، وحاصله: الإمساك عن شهود السَّوى، وعكوفُ القلب فى حضرة المولَى، وصاحب هذا صائم أبداً سرمداً، فأهل الحضرة على الدوام صائمون، وفى صلاتهم دائمون، نفعنا الله بهم وحشرنا معهم آمين.

ويقول القشيرى: رمضان يُرْمِضُ ذنوب قوم ويرمض رسوم قوم، وشتان بين من تحرِق ذنوبَه رحمتُه وبين من تحرِق رسومَه حقيقتُه.

شهر رمضان شهر مفاتحة الخطاب، شهر إنزال الكتاب، شهر حصول الثواب، شهر التقريب والإيجاب، شهر تخفيف الكلفة، شهر تحقيق الزلفة، شهر نزول الرحمة، شهر وفور النعمة، شهر النجاة، شهر المناجاة.

قوله جلّ ذكره ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾، أراد بك اليسر وأنت تظن أنه أراد بك العسر، ومن أمارات أنه أراد بعبده اليسر أنه أقامه بطلب اليسر؛ ولو لم يُرِدْ به اليسر لَمَا جعله راغباً فى اليسر، قال قائلهم:

لو لم تُرِدْ نَيْلَ ما أرجو وأطلبهُ         من فيضِ جودِك ما علمتنى الطلبا

حقَّق الرجاء وأكَّد الطمع وأوجب التحقيق حيث قال ﴿وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ لينفى عن حقيقة التخصيص مجوزاتِ الظنون.

قوله جلّ ذكره ﴿وَلِتُكْمِلُو العِدَّةَ﴾، على لسان العلم تكملوا مدة الصوم، وعلى لسان الإشارة لتقرنوا بصفاء الحال وفاء المآل.

﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ فى النَّفَسِ الأخير، وتخرجوا من مدة عمركم بسلامة إيمانكم، والتوفيق فى أن تكمل صوم شهرك عظيم لكن تحقيق أنه يختم عمرك بالسعادة أعظم.

فانظر ياأخى إلى معنى رمضان والصيام بين معانى الشريعة والحقيقة بين العلماء المجتهدين والعارفين وانظر إلى المعانى التى ترتقى بأرواحنا وتشجعنا إلى السير والسلوك إلى الله وفى نفس الوقت لم نغفل شىء من جانب الشريعة يريد الله بنا اليسر فعندما يصل الإنسان إلى أن يتحقق بالحديث (كنت سمعه وكنت بصره) ... الخ فهذا هو اليسر بعينه فكل شىء سيصبح يسراً لا عسراً.

يسر الله علينا السير والسلوك إليه وهدانا الى شهوده حتى نمسك عن كل فعل وقول وحركة وسكون لا تكون إلا بالحق آمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

والى لقاء آخر والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محمد مقبول