الرسول والغيوب

 

أعلم هدانا الله وإياكم الى محبته والورود الى حوضه المورود والنشر تحت لوائه المعقود أن الرسول الكريم سيدنا محمد هو أقرب الخلق الى الله محبة وأعظمهم دعوة وأفضلهم شفاعة وأرفعهم درجة وأقربهم منزلة وأوضحهم حجة وقد أعطاه الله تبارك وتعالى من العطايا ما لم يعطى احدا من العالمين وفيه قال الحق في كتابه الكريم المنزل على قلب رسوله الكريم ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ الضحى 93: 5، وقد علمه سبحانه وتعالى وأفاض عليه من علمه حتى قال الله على لسانه فى كتابه العزيز ﴿فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِى عِلْمًا﴾ طه 20: 114، ومن هذه العلوم خاصته ؛ منها من غابت عن الناس ومنها من غابت عن الجن ومنها من غابت عن الملائكة ومنها من غابت عن الانبياء والمرسلين عليهم السلام من الله اجمعين، ولقد جهل البعض وخاضوا وقالوا: هل  يعلم الرسول الغيب ؟! وعجباه من هولاء! هل نسوا او تناسوا ان الايمان كله غيب؟ وأن القيامة غيب؟ وأن الموت غيب؟ والحساب والعقاب غيب؟ وان الجنة والنار غيب؟ وان السماء وما تطوى غيب؟ وان الارض وما تحوى فى بواطنها غيب؟ أليس من صفات المؤمنين الايمان بالغيب؟ قال الله تعالى ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ البقرة 2: 3، ثم ألم يقل سبحانه ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا • إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ الجن 72: 26-27، ومن أكثر منه رضا من الله سبحانه، وقد أخبرنا عن أخبار القيامة وما فيها وأخبرنا عن الجنة والنار ووصف لنا ما فيهما من نعيم وعذاب ووصف لنا السموات وما يسكن فيها من ملائكة ورسلا وانبياء بل وصف لنا سمكها وتكوينها بل وقد وصف لنا الكرسى واللوح والسدرة والعرش ووصف لنا الامم السابقة وأخبارها ووصف لنا الانبياء والرسل والكتب المنزلة عليهم، وقد صدق الامام فخر الدين حين قال فى المعنى:

فلا هو يحصى العد ما قد به أتى      ولا هو يبلى يوم تبلى السرائر

وقد روى الإمام أحمد فى مسنده من حديث أبى ذر أنه قال: «لَقَد تَرَكَنَا رَسُولُ اللهِ وَمَا يَتَقَلَّبُ فِى السَّمَاءِ طَائِرٌ، إلاَّ ذَكَرَ لَنَا مِنهُ عِلماَ».

وقد روي عنه أنه شاهد غزوة مؤته وهو قائم بالمدينة المنورة وقد روى ابن سيد الناس فى عيون الاثر بسنده "قال موسى بن عقبة قدم يعلى ابن منية على رسول الله بخبر أهل مؤتة فقال له رسول الله إن شئت فأخبرنى وإن شئت أخبرتك قال فأخبرنى يا رسول الله فأخبره خبرهم كله ووصف له فقال والذى بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره وان أمرهم لكما ذكرت فقال رسول الله إن الله رفع لى الارض حتى رأيت معتركهم".

وروى عنه  ايضا يوم فتح مكة أنه قال: "دخل النبى يومئذ الكعبة ومعه بلال فأمره أن يؤذن وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة فقال عتاب لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه فقال الحارث أما والله لو أعلم أنه حق لا تبعته فقال أبوسفيان لا أقول شيئا لو تكلمت لاخبرت عنى هذه الحصباء فخرج عليهم النبى فقال لهم لقد علمت الذى قلتم ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث وعتاب نشهد أنك رسول الله والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك".

وروى ايضا ابن هشام في سيرته أن فضالة بن عمير بن الملوح أراد قتل النبى وهو يطوف بالبيت عام الفتح فلما دنا منه قال رسول الله : (أفضالة؟) قال: نعم فضالة يا رسول الله. قال: (ماذا كنت تحدث به نفسك؟) قال: لا شئ كنت أذكر الله. فضحك النبى ثم قال: (استغفر الله) ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدرى حتى ما خلق الله شيئا أحب إلى منه.

وروى ابن اسحاق عن غزوة تبوك ان رسول الله سار حتى كان ببعض الطريق فضلت ناقته، فقال زيد بن اللصيت - وكان منافقا - أليس محمد يزعم أنه نبى ويخبركم عن خبر السماء وهو لايدرى أين ناقته! فقال : (إن رجلا يقول - وذكر مقالته - وإنى والله لا أعلم إلا ما علمنى الله وقد دلنى الله عليه وهى فى الوادى فى شعب كذا وكذا قد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتونى بها) فذهبوا فجاؤوه بها.

وقال الواقدى: وقدم على رسول الله وفد غامد سنة عشر وهم عشرة فنزلوا فى بقيع الغرقد ثم انطلقوا إلى رسول الله وخلفوا عند رحلهم أحدثهم سنا فنام عنه وأتى سارق وسرق عيبة لاحدهم فيها أثواب له. وانتهى القوم إلى رسول الله فسلموا عليه وأقروا له بالاسلام وكتب لهم كتابا فيه شرائع من شرائع الاسلام وقال لهم: (من خلفتم فى رحالكم؟) قالوا: أحدثنا يا رسول الله. قال: (فانه قد نام عن متاعكم حتى أتى آت فأخذ عيبة أحدكم) فقال أحد القوم: يا رسول الله ما لاحد من القوم عيبة غيرى. فقال رسول الله : (قد أخذت وردت إلى موضعها) فخرج القوم سراعا حتى أتوا رحلهم فوجدوا صاحبهم فسألوه عما خبرهم به رسول الله فقال: فزعت من نومى ففقدت العيبة فقمت فى طلبها فاذا رجل قد كان قاعدا فلما رآنى ثار يعدو منى فانتهيت إلى حيث انتهى فاذا أثر حفر وإذا هو قد غيب العيبة فاستخرجتها. فقالوا: نشهد أنه رسول الله، فانه قد أخبرنا بأخذها وأنها قد ردت. فرجعوا إلى النبى فأخبروه، وجاء الغلام الذى خلفوه فأسلم.

وروى ابن سعد بسنده قال: "كان شيبة بن عثمان رجلا صالحا له فضل وكان يحدث عن إسلامه وما أراد الله به من الخير ويقول ما رأيت أعجب مما كنا فيه من لزوم ما مضى عليه آباؤنا من الضلالات. ثم يقول لما كان عام الفتح ودخل رسول الله مكة عنوة، قلت أسير مع قريش إلى هوازن بحنين فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة، فأثأر منه فأكون أنا الذى قمت بثأر قريش كلها، وأقول لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدا ما تبعته أبدا، وكنت مرصدا لما خرجت له لا يزداد الامر فى نفسى إلا قوة، فلما اختلط الناس اقتحم رسول الله عن بغلته، وأصلت السيف فدنوت أريد ما أريد منه، ورفعت سيفى حتى كدت أسوره فرفع لى شواظ من نار كالبرق كاد يمحشنى، فوضعت يدى على بصرى خوفا عليه، والتفت إلى رسول الله ، فنادانى يا شيب ادن فدنوت فمسح صدرى ثم قال: (اللهم أعذه من الشيطان) قال: فوالله لهو كان ساعتئذ أحب إلى من سمعى وبصرى ونفسى وأذهب الله ما كان فى، ثم قال: (ادن فقاتل) فتقدمت أمامه أضرب بسيفى الله يعلم أنى أحب أن أقيه بنفسى كل شئ ولو لقيت تلك الساعة أبى لو كان حيا لاوقعت به السيف، فجعلت ألزمه فيمن لزمه حتى تراجع المسلمون وكروا كرة رجل واحد، وقربت بغلة رسول الله فاستوى عليها فخرج فى أثرهم حتى تفرقوا فى كل وجه، ورجع إلى معسكره فدخل خباءه فدخلت عليه ما دخل عليه غيرى حبا لرؤية وجهه وسرورا به، فقال: (يا شيب الذى أراد الله بك خير مما أردت بنفسك) ثم حدثنى بكل ما اضمرت فى نفسى مما لم أكن أذكره لاحد قط. قال فقلت: فأنى أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ثم قلت: استغفر لى. فقال: (غفر الله لك).

ان الكلام عن معرفة النبى للغيوب لا ينضب فهذا بحر لا ساحل له وغيث مزن لا حد له فكتب السيرة مملؤة بالاخبار قد علمها الاخيار وأنكرها الفجار وصدق صاحب البردة حيث قال:

دع ما ادعثه النصارى في نبيهم         واحكم بماشئت مدحاً فيه واحتكـم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف     وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
فإن فضل رسول الله ليس لـــــــــــه             حدٌّ فيعرب عنه ناطقٌ بفــــــــــــــــــم

 

الجعفرى

 
 

ومن أراد الاستزادة فليطلع على موقع النبى

أسرة التحرير