محبة الله ومعرفته

 

اعلم أن سببَ محبةِ الله: معرفتُه، فتقوى المحبة على قدر المعرفة، وتضعف على قدر ضعف المعرفة، فإن الموجب للمحبة أحد أمرين أو كلاهما إذا اجتمعا، ولا شك أنهما اجتمعا فى حق الله تعالى على غاية الكمال؛ فالموجب الأول: الحسن والجمال، والآخر الإحسان والإجمال، فأما الجمال فهو محبوب بالطبع، فإن الإنسان بالضرورة يحب كل ما يُستحسن، ولا جمالَ مثلُ جمال الله تعالى، فى حكمته البالغة وصنائعه البديعة، وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار، التى تَرُوق العقول وتبهج القلوب، وإنما يُدْرَك جمالُه تعالى بالبصائر لا بالأبصار.

وأما الإحسان فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وإحسان الله إلى عباده متواتر، وإنعامُه عليهم باطن وظاهر، ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ إبراهيم 14: 34، ويكفيك أنه يُحسن إلى المطيع والعاصى، والمؤمن والكافر، وكل إحسان ينسب إلى غيره فهو فى الحقيقة منه وحدَه، فهو المستحق للمحبة وحده.

واعلم أن محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح، من الجد فى طاعته، والنَّشَاطِ لخدمته، والحرص على مرضاته، والتلذذ بمناجاته، والرضا بقضائه، والشوق إلى لقائه، والأُنْس بذكره، والاسْتِيحَاش مِنْ غيره، والفرار من الناس، والانفراد فى الخلوات، وخروج الدنيا من القلب، ومحبة كل ما يحب الله، وكل من يحب الله، وإيثار الله على كل ما سواه.

المحب يستوحش من الخلق، والعارف لا يستوحش من شىء لمعرفته فى كل شيئ.

قال ابن عطاء الله السكندرى فى الحِكَم «إنما استوحشَ العُبَّاد والزهاد من كل شيئ لغيبتهم عن الله فى كل شيئ، ولو عرفوا الله فى كل شيئ ما استوحشوا من شيئ».

إذا أحب الله عبداً فلق حبة قلبه بعشقه ومحبته، وفلق نواة عقله بالتبصر فى عجائب قدرته، فلا يزال قلبُه يميل إلى حضرته، وعقلُه يتشعشع أنواره بازدياد تفكره فى عجائب عظمته، حتى تُشرق عليها شمس العرفان، فيفلق عمود فجرها عن ظلمة ليل وجود الإنسان، فيصير حيّاً بمعرفته، بعد أن كان ميتاً بجهله وغفلته، فيميته عن شهود نفسه، ثم يُحييه بشهود ذاته، يُخرج الحى من الميت ومخرج الميت من الحى، جاعل ليل العبودية سكناً، وشمس العرفان وقمر الإيمان حسباناً، تدور الفكرة بأنوارهما، كما يدور الفلك بالشمس والقمر الحِسيِّين ذلك تقدير العزيز العليم.

- وإذا كان الحب على ظاهر القلب، ولم يخرق شغافه، كان العبد مع دنياه، وآخرته، بين ذكر، وغفلة. فإذا دخل سويداء القلب، وخرق شغافه نسى العبد دنياه وأخراه، وغاب عن نفسه وهواه، وضل فى محبة مولاه. ولذلك قيل لعاشقة يوسف ﴿إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ يوسف 12: 30، أى: فى استغراق فى المحبة حتى ضل عنها ما دون محبوبها.

- وعلامة دخول المحبة شغاف القلب أربعة أشياء: الاستيحاش، والإيناس، وذكر الحبيب مع الأنفاس، وأنشدوا:

والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت                إلا وحبّك مقرون بأنفاسى

ولا خلوتُ إلى قوم أحدّثهم                 إلا وأنت حديثى بين جلاسى

ولا ذكرتك محزوناً ولا فَرِحا                  إلا وأنت بقلبى بين وسواسى

ولا هممت بشرب الماء من عطش       إلا رَأَيْتُ خيالاً منك فى الكأس

ولو قدرتُ على الإتيان جئتُكم      سعياً على الوجه أو مشياً على الرأس

ويوم القيامة ترى الذين كَذَبوا على الله، بالدعاوى الباطلة، من القلوب الخاوية، فكل مَن ادعى حالاً ليست فيه، أو: مرتبة لم يتحققها، فالآية تجر ذيلها عليه، واسوداد وجوههم بافتضاحهم.

قال القشيري: هؤلاء الذين ادَّعوا أحوالاً، ولم يَصْدُقُوا فيها، وأظهروا المحبةَ لله، ولم يتحققوا بها، وكفى بهم ذلك افتضاحاً، وأنشدوا:

ولما ادَّعَيْتُ الحُبَّ قالت: كَذَبْتَنى      فما لى أرى الأعضاء منك كواسيا؟

فما الحُبُّ حتى تنزفَ العينُ بالبكا           وتخرسَ حتى لا تجيب المناديا

وينجى الله الذين اتقوا شهود السِّوى من كل مكروه، بسبب مفازتهم بمعرفة الله فى الدنيا، لا يمسهم السوء، أى: غم الحجاب، لرفعه عنهم على الدوام، ولا هم يحزنون على فوات شىء، إذ لم يفتهم شىء، حيث فازوا بالله.

قال الورتجبى: بمفازتهم: ما كان لهم فى الله فى أزل أزله، من محبتهم، وقبولهم بمعرفته، وحسن وصاله، ودوام شهود كماله. لا يمسهم السوء: لا يلحقهم، فلا يلحق بهم فى منازل الامتحان، تفرقة عن مقام الوصلة، وحجاب عن جمال المشاهدة، انظر تمامه. وحاصله: فازوا بإدراك السعادة الأزلية. وعن جعفر الصادق: بمفازتهم: بسعادتهم القديمة، يعنى لقوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى﴾ الأنبياء 21: 101، الآية. قاله المحشى الفاسى.

وقوله تعالى ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ البقرة 2: 286، قيل: هو الحب لله، فلا يسأل العبد من مولاه من حبه إلا ما يطيقه، وتأمل قضية الرجل الذى سأل سيدنا موسى أن يرزقه الله حبه، فلما سأل موسى ربه هام ذلك الرجل، وشق ثيابه، وتمزقت أوصاله حتى مات. فناجى موسى ربه فى شأنه، فقال: يا موسى، ألف رجل كلهم سألونى ما سأل ذلك الرجل، فقسمت جزءاً من محبتى بينهم، فنابه ذلك الجزء. أو كما قال سبحانه.

وقال بعض الصالحين: حضرتُ مجلس ذى النون، فى فسطاط مصر، فَحَزَرْت فى مجلسه سبعين ألفاً، فتكلم ذلك اليوم فى محبته تعالى فمات أحدَ عشرَ رجلاً فى المجلس، فصاح رجل من المريدين فقال: يا أبا الفيض، ذكرْتَ محبة الله تعالى فاذكر محبة المخلوقين، فتأوّه ذو النون تأوّهاً شديداً، ومدّ يده إلى قميصه، وشقه اثنتين، وقال: آه! غلقت رهونهم، واستعبرت عيونهم، وحالفوا السُّهَاد، وفارقوا الرُّقاد، فليلُهم طويل، ونومهم قليل. ويبدو أن المحبة أعلى من المعرفة، والتحقيق أن المعرفة أعلى من جميع المقامات؛ لأنها لا تبقى معها بقية من الحجاب أصلاً، بخلاف المحبة، فإنها تكون بقية الحجاب، ألا ترى أن أحزانهم لا تُنْفذ، وهموهم لا تفقد، أمورهم عسيرة، ودموعهم غزيرة، باكية عيونهم، قريحة جفونهم، عاداهم الزمان والأهل والجيران.

قلت: هذه حالة العباد والزهاد، أُولى الجد والاجتهاد، غلب عليهم الخوف المزعج، أو الشوق المقلق، وأما العارفون الواصلون؛ فقد زال عنهم هذا التعب، وأفضوا إلى الراحة بعد النصب، قد وصلوا إلى مشاهدة الحبيب، ومناجاة القريب، فعبادتهم قلبية، وأعمالهم باطنية، بين فكرة ونظرة، مع العكوف فى الحضرة، قد سكن شوقهم وزال قلقهم، قد شربوا ورووا، وسكروا وصحوا، لا تحركهم الأحوال، ولا تهيجهم الأقوال، بل هم كالجبال الرواسى، نفعنا الله بذكرهم، وجعلنا من حزرهم. آمين.

قوله تعالى ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾، قال الورتجبي: أى: ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ قلة المعرفة بك، ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ التقصير فى عبادتك، ﴿وَارْحَمْنَا﴾ بمواصلتك ومشاهدتك. ه. وبالله التوفيق، وهو الهادى إلى سواء الطريق، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

وفى مثل هؤلاء يقول ابن الفارض :

تعرّضَ قومٌ للغرامِ وأعرَضوا                    بجانبهم عن صحّتى فيه واعتلّوا

رضوا بالأمانى، وابُتُلوا بحظُوظهم    وخاضوا بحارَ الحبّ، دعوى، فما ابتلّوا

فهُم فى السُّرى لم يَبرَحوا من مكانهم     وما ظَعَنوا فى السير عنه، وقد كلَّوا

وأيضاً: العارف أكمل أدباً من المحب؛ لأن المعرفة إنما تحصُل بعد كمال التهذيب والتدريب، وقد تحصل المحبة قبل كمال التهذيب، مع أن المعرفة هى غاية المحبة ونهايتها، والله تعالى أعلم.

عبد الستار الفقى

 

 

 

 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصوفية فى موقع الطريقة البرهانية.

أسرة التحرير