أَيُّهَا السَّالِكُونَ مَا الْحُبُّ سَهْلٌ

 

أَيُّهَا السَّالِكُونَ مَا الْحُبُّ سَهْلٌ        قَدْ هُدِيتُمْ صِرَاطَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا (12/7)

فى هذه الأيام ولم ينقض سوى أيام عن حولية الإمامين الجليلين مولانا الإمام فخر الدين ومولانا الإمام إبراهيم فمازلنا مع روحانيات تلك الذكرى العطرة وما كان فيها من فيوضات وإشارات، ومن أبرز ما كان فى هذه الذكرى هو شعارها والذى كان:

حَوَتْنِى قُلُوبٌ تَعْرِفُ الحُبَّ مَسْلَكًا

وقد تعرضنا لهذا الموضوع فى العدد السابق بالمقالة التى تتحدث عن شعار هذه الذكرى ولعدم الإطالة والتكرار من أراد الإطلاع فليراجع المقالة المنشورة فى نشرات المجلة بتاريخ 2 إبريل الماضى، وطالعنا مولانا الشيخ محمد مساء الأربعاء الموافق السادس من إبريل لهذا العام بخطاب الحب والتآخى، فكان من الواجب علينا أن يكون موضوعنا قولاً وعملاً، ومن قصائد سيدى فخر الدين الكثير والكثير، فنجد فيضه وعطائه غذير، فنجده يقول:

أَيُّهَا السَّالِكُونَ مَا الْحُبُّ سَهْلٌ        قَدْ هُدِيتُمْ صِرَاطَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا (12/7)

فهو يخاطب السالكين السائرين (المتقربين) إلى الله تعالى قائلاً: ما الحب سهل قد هديتم سراطكم فاستقيموا, فما علاقة الحب بالصراط المستقيم؟ من خطاب شيخنا الذى ندندن حوله هذا العام بل هو لكل زمان ومكان نقرأ ونتمعن فى الآية التى قالها فى مستهل خطابه الشافى الجامع للشمل والمؤلف للقلوب ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ المائدة 5: 54.

بدأ الآية فى خطابه بـ ﴿فَسَوْفَ يَأْتِى اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ ولم يشأ وارث الرحمة المهداه أن يتحدث عن الارتداد عن الدين وهذا قد حدث بالفعل، وانتهى، ونرجوا من الله تعالى ببركة شيخنا أن يحفظنا منه، ولكن الشيخ يبشرنا ببداية عصر الحب كما بشرنا فى خطابه فى العام الماضى وفى نفس موعد هذه الذكرى فى شهر إبريل من كل عام، قائلاً فى مستهل خطاب ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ وانظر ماذا يحدث فى عالمنا الآن وقبل أن يلقى خطابه هذا العام.

لذلك فأصحاب البصائر لابد ان يؤخذ كلامهم باهتمام بالغ فإن شاء الله تعالى يكون هذا العام بداية للحب بين أبناء الطريق ونرجوا أن يكون بين العالم العربى والإسلامى وبين المسلم والمسيحى ويسود العدل الاجتماعى والحق الذى حدثنا عنه حينما أخبرنا فى العام الماضى قائلاً: ولكن الفطرة السليمة تأبى الظلم، وتأبى أخذ حقوق الغير، من مالٍ أو نفسٍ أو بدنٍ بالقوة، أو الاعتداء عليه نفسياً أو بدنياً، سواء بالقوة أو التحايل، وتلك دائرة ثابتة المركز ونُسمّيها (الإنسانية).

وعندما أراد أن يطفى الفتنه الطائفية قبل أن تحدث ويحصن أبنائه قال ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.

ثم ذكرنا بخطاب لوالده حينما قال:

وقد قال مولانا الشيخ إبراهيم فى خطابه عام 2001:

اخوانى اخواتى .. أبنائى وبناتى ..

ونحن نعبر إلى الألفية الثالثة .. إلى عصر العولمة الثقافية حيث زوال الحدود أمام الفكر الإنسانى، وزوال سيطرة الدولة وسيادتها على الثقافة والعلوم, فإننا نجد أن مواجهة الغزو الفكرى، وإدارة عمليات الحوار الثقافى والحضارى، تتطلب نهجاً دقيقاً ومتقناً، يُمكِّننا ليس فى مواجهة ذلك الغزو الفكرى فحسب، وإنما يعمل على تنظيم بعثاً حضارياً، يعكس الهدى النبوى الشريف ليزيل أستار الظلام فى تلك الأصقاع من العالم، ويؤسس لبناء عالم تَسوده المحبة والألفة والعدل. أهـ

أى أن هذا الكلام قيل قبل انتقال مولانا الشيخ إبراهيم وذلك عام 2001 أى منذ عشر سنوات ويأتى مولانا الشيخ محمد العام الماضى فى خطابه ليذكرنا به، لذلك نقول أنها بشرى بقدوم عصر جديد تسوده المحبه والألفة تجمع فيه شمل الأمه فإن الله قد أراد ولا راد لإرادته عز وجل وإلا فإننى اتساءل ما هذه الحبوب التى أخذها كل هؤلاء الشباب والشعوب لتكون بهذه الجراءة تنادى بالعدالة والمساواه ومحاربة الفساد واعطاء كل ذى حق حقه؟ هذا هو من صنع الله يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شىء قدير.

نرجع الى السؤال ما علاقة الحب بالصراط المستقيم؟

تقول الآية السابقة إن الذى يرتد عن دينه فإن الله سوف يأتى بقوم يثبتون على الدين، فما هى صفاتهم؟ قال عز وجل ﴿يحبهم ويحبونه﴾ أى أن المرتدين ارتدوا عن هذا الحب، الذى هو الدين المُرْتَد عنه، وإن صفات المحبين أنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين الذين كفروا بهذه النعمة ألا وهى الحب, الحب لله فنطيعه فى محبة رسوله وأوليائه والمؤمنين بهذا الحب، فالتقرب الى الله زيادة فى الحب حتى يحبنا الله وفى الحديث (حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ...) البخارى، إلى آخر الحديث، فانظر يا أخى إلى هذا التعشق فهل تخفى عليك أحداث بعد هذا, هذا معنى الوصول إلى الله أى المعرفة بالله، وهذا هو معنى الاطمئنان ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ الرعد 13: 28، هؤلاء الأولياء المطمئنين يقولون الحق لايخشون لومة لائم، نفعنا الله بهم وجعلنا بفضله وكرمه منهم آمين.

والاستقامة هى المداومة على هذا الطريق طريق الحب الموصل الى محبة الله وفى هذا الحب يقول سيدى فخر الدين :

يَمُوتُ شَهِيدًا مَنْ أَحَبَّ مُحَمَّدًا          وَآلًا وَأَصْحَابًا فَيَاسَعْدَ مَيِّتِ

أَلَا إِنَّ دَاءَ الْحُبِّ لِلصَبِّ عِلَّةٌ           وَلَكِنَّهَا تَشْفِى عُضَالَ الْأَعِلَّةِ

وفى بيت آخر :

وَالْعِلْمُ يَكْسُو الْعَبْدَ أَجْمَلَ حُلَّةٍ          وَالْحُبُّ يَشْفِى سَائِرَ الْأَسْقَامِ

وفى موضع آخر يحدثنا عن أهل العناية من الأولياء الواصلين الذين أصبحوا سمعه وبصره سبحانه وتعالى فيقول:

أَهْلُ الْعِنَايَةِ إِنْ تَوَلَّوْا سَيِّدًا          لَغَدَا مَتَاعًا يُشْتَرَى وَيُبَـــــــــــــاعُ

طَعِمُوا غَرَامًا وَالصَّبَابَةُ مَشْرَبٌ     وَالْحُبُّ سَلْوَاهُمْ ظَمُوا أَوْ جَاعُوا

فقوتهم الحقيقى النافع لهم فى الدنيا والآخرة هو الحب ثم يقول :

بَاتُوا وَعَيْنُ اللهِ نَاظِرَةٌ لَهُمْ           إِنْ يَفْزَعِ الثَّقَلَانِ لَا يَرْتَاعُوا

فالذين يتبعون الأولياء فى عناية الله على الدوام لايفزعهم إنسٌ ولا جان، نفعنا الله بهم دنيا وأخرى، والى العدد القادم إن شاء الله تعالى والسلام عليكم ورحمته وبركاته.

 محمد مقبول

 

 

تعليق على المقال من القراء

أَيُّهَا السَّالِكُونَ مَا الْحُبُّ سَهْلٌ    ***    قَدْ هُدِيتُمْ صِرَاطَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا

الخطاب فى البيت موجه للسالكين, ومن هم السالكون؟ هم أهل الله وذلك من نحو الخطاب ب"يا أيّها المؤمنون". فالسالكون هم من آمن بالله وصدق ذلك بالعمل بالسير بالأوراد والمحبة إلى مراقى السلوك ومراتبه وصولاً إلى المحبة الإلهية, ما تفضل صاحب المقال أعلاه.

ولكن أود أن آخذ وقفة عند عبارة (مَا الْحُبُّ سَهْلٌ). ونذكر بدءاً بما دار بين حضرته وبين الصحابى الجليل سيدنا عمر بن الخطاب حيث جاء فى الحديث الذى أخرجه البخارى عن عبد الله بن هشام قال: "كنا مع النبى وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب  إلى من كل شيئ إلا نفسى؟ فقال النبى : لا والذى نفسى بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال عمر: فأنت الآن والله أحب إلى من نفسى. فقال النبى : الآن يا عمر. أى الآن كمل إيمانك يا عمر".

وذلك أن الحب عبارة عن سلوك عمل وليس شعاراً يرفع أو أمنية تتمنى.

ومن القصائد التى أنشدها سيدى فخر الدين فى الحضرات كثيراً, قصيدة ابن الفارض , التى تقول:

هُوَ الحُبّ فاسلمْ بالحشا ما الهَوَى سَهْلُ    فَما اختارَهُ مُضْنًى بهِ، ولهُ عَقْلُ

وعِشْ خالياً فالحبُّ راحتُهُ عناً                       وأوّلُهُ سُقْمٌ، وآخِرُهُ قَتْلُ

ولكنْ لدىَّ الموتُ فيه صبابة ً             حَياة ٌلمَن أهوَى، علىّ بها الفَضْلُ

و أيضاً, للنابلسى:

بَحرُ حُبٍّ نَحنُ فِيهِ سُفُنٌ           مَن يَرمهُ للبَلايَا يَتَهيئ

فالحب يعرض صاحبه للإمتحان ولذلك جاء عدم السهولة من هنا. ومن لا يصمد لإمتحانات الحب يرتد حيث لا عناء فيما يظهر له من الأمر وعلى أحسن الفرض ربما يظل واقفاً فى مكان واحد, يمنى نفسه بالحراك للأمام وقد نضب خان وقوده عن الوقود, فأين الوقود الذى يأخذ بالعربة إلى الأمام. ولهذا كان قول الإمام سيدى الشيخ إبراهيم ذات مرة: "بيننا وبين المريد خيط عنكبوت بالمحبة يبقى جنزير" أى على قدر المحبة كان الرابط وكانت قوة الدفع. فكلما كانت المحبة أقوى كانت القوة الساحبة أقوى على المسير.

وددت أن أنبه إلى أن الحب ليس سهلاً... ليس سهلاً ... وكم سمعنا من الإنشاد فى ذلك:

نارهم فى الحشا بدت و كوت كى

فمَن لم يجُدْ، فى حُبِّ نُعْمٍ، بنفسِه     وإن جادَ بالدّنيا، إليهِ انتهَى البُخلُ

ثم نأتى إلى الشطر الثانى:

قَدْ هُدِيتُمْ صِرَاطَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا

تمت الهداية إلى الطريق – وهذه نعمة كبرى – والطريق هو الصراط والصراط هو طريق النبى ... والسير خلف المشايخ هو اتباع الصراط:

و إنَّ صِراطِى مُستَقِيمٌ و تَابِعِى ... عَلَي أثَري يَسعى إذ النَّاسُ ضَلَّتِ

ومرة أخرى يأتى أمر الإستقامة وهو الدوام على الحال والاستمرار عليه وعدم القطع. فترى من يقطع العبادة ليس مستقيماً. المستقيم هو فى علم الرياضة خط واحد يصل بين نقطتين وهو أقرب مسافة بين النقطتين, تستطيع أن تنشئ خطوط ملتوية غيره دون عدد ولكن الخط المستقيم واحد خط متصل وليس منقعطاً.

والاستقامة هى: "إن الله أمرك بأشياء ونهاك عن أشياء فإيّاك ثم إيّاك أن يجدك حيث نهاك وإيّاك ثم إيّاك أن يفتقدك حيث أمرك".

وذلك أن تلازم على المحبة وعلى العبادات وتتقنها وعلى الأوارد وعلى اجتماع الأخوة وزيارتهم فى الله وخدمتهم وعلى الخدمة لدين الله وعلى محبة آل البيت ومودّتهم فتؤدى حقّهم عليك (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى) صدق الله العظيم.

عبد الحميد بابكر