نشرنا فى صفحات القواطع عن موضوع القواطع عن المهيمن من كتاب المرشد الوجيز، وها نحن فى هذا الباب نستكمل الموضوع بجوانب أخرى تكمله حتى تعم الفائدة:

 

 

ماذا تفعل لو كنت مكانى؟ 2

 

لم يدم بى الحال طويلاً حتى سارعت إلى الكتب ثانياً كى أخرج من الحيرة التى أصابتنى بعد ما قرأت عن آفة اللسان الأولى، وكيفية معالجتها بالصمت، ولم أتعلم الدرس مما سبق ونسيت كلام أهل التجارب والخبرة "اليد الوحدة لا تصفق"، وركبت رأسى، وليس لدى رخصة قيادة أو حتى معرفة مسبقة عن قيادة مثل هذه المركبات الصلبة، وسرت أتخبط بها من رأس إلى حائط والعكس، إلى أن هدانى الله فركنت بها إلى كتاب آخر وجدت فيه ضالتى التى أبحث عنها، موضوع يحتوى على ستة عشر سطراً يحمل عنوان الصمت وأسراره، وطرت فرحاً وقلت فى نفسى هو ده الكلام، ما قل ودل، سوف أقرأ ذلك الكلام وأفهمه بل سأحفظه عن ظهر قلب، كى أتخلص من هذه الآفة اللعينة، وتملكت نفسى بسرعة، فقد تذكرت ماحدث لى من قبل، وقررت أن أقرأ الموضوع بتمعن وهدوء أكثر من مرة لأعرف ما هو الصمت، وكيف أفعله، وما أن بدأت مشوارى وشرعت فى القراءة ومن أول سطر لزمت الصمت... ليه؟ عاوز تعرف اسمع واقرأ معى، أعلم وفقك الله أن الصمت أحد الأربعة الأركان التى يكون بها الرجال أبدالاً... أبدال... يعنى إيه أبدال؟ هذا هو السؤال الذى دار فى الوعاء الذى يعلو جسدى ويسمى رأس وذلك بعد قرأتى للسطر الأول، وحاولت بكل الطرق: بهز رأسى يميناً ويساراً، أو أن أقف، أو أسير جيئة وذهاباً، أن أجد شيئاً يسعفنى بالفهم فى هذا الوعاء الفارغ، المهم ولن أطيل عليكم فى موضوع الأبدال، وكفانا فى هذا المقام حديث المصطفى المروى فى مسند الإمام أحمد بن حنبل أن سيدنا ومولانا الإمام على بن أبى طالب قال إنى سمعت رسول الله يقول (الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلاً كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً يسقى بهم الغيث وينتصر بهم على الأعداء ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب) ولإنكم عارفين... طبعاً، وليس كل ما يُعرف يقال، وأحب أن أوجه نظر سيادتكم أنى سوف أكتب بعض ما قيل عن الصمت، ولن أُسهب فى الشرح، فالكلام واضح... الصمت له حال ومقام، مقام الصمت هو لا يُرى متكلماً ألا من خلق الكلام فى عباده، وهو الله تعالى خالق كل شيئ، فالعبد صامت بذاته متكلم بالعرض، فهو مقام مقيد بصفة تنزيه لأنه وصف سلبى وحكمه فى ظاهر الإنسان، أما باطنه فلا يصح فيه صمت، فإنه ناطق بتسبيح الله، فالصمت محال.

الكلام الواضح ده فكرنى زمان بفزورة قالها لى والدى كانت سهلة قوى "لاصق وملصوق وعلى كل شئ لاصق" واضحة مش كده... المهم قلت ياواد اقرأ فى الحال -بعد ما حالى أصبح حال- يمكن أفهم، فقال: أما الحال أن يرى أن الله خلق الكلام فيه، فالعبد هو المتكلم بخلق الكلام فيه، كما هو المتحرك بخلق الحركة فيه، ولا يصح أن يصمت مطلقاً أصلاً لأنه مأمور بذكر الله تعالى.

وتوقفت عن القراءة، وتحسست بيدى رأسى أهى مكانها، أم لا؟ يعنى إيه العبد صامت، وبعدين يقول لا يصح له أن يصمت مطلقاً؟ وأمسكت الكتاب بيدى وانطلقت خارجاً متوجهاً إلى صديقى الذى أشار علىّ بالذهاب إلى علماء الحقيقة، قائلاً فى نفسى لما نشوف حيقول إيه فى الكلام ده؟ ولما قابلنى كان بشوشاً ضاحكاً رغم تحفزى، وأشار إلى الكتاب الذى بيدى متسائلاً، ما هذا؟ ولم أُضِعْ الوقت وأشرت إلى الكلام المكتوب، فقرأه وقال: إيه المطلوب منى؟ قلت: الفهم... أفهم، قال: أولاً فيه لبس فى مفهوم الصمت والسكوت، فالصمت غير السكوت، السكوت مختص بترك الكلام أو التوقف عن الحركة أو الغضب، والسكوت جزء من الصمت، فالصمت أعم وأشمل، كما قال سيدنا رسول الله (من صمت نجا) ولم يقل من سكت... ولو فُهم الصمت هنا بمعنى السكوت لكان الأخرس أول الناجين، وأما الكلام عن مقام الصمت أن الله سبحانه وتعالى هو المتكلم ولا متكلم غيره، فهذا مقام لا يكون إلا للمحسنين، فقاطعته قائلاً: بعد جهد فسر الماء بالماء، فقال لى: ما هى مراتب الدين؟ قلت: إسلام، إيمان، إحسان، وطبعا ده شئ لا خلاف عليه لا عند أهل الحقيقة ولا عند أهل الشريعة أيضاً، فالحديث واضح وصريح فى هذا المقام، عندما أتى سيدنا جبريل وسأل رسول الله عن الإسلام والإيمان والإحسان، وأوضحهما لنا الحبيب المصطفى ومتون الحديث من صحيح البخارى ومسلم وغيرهما مليئة بروايات هذا الحديث المختلفة ومن أراد الاستازادة فليرجع إليهم، وأرجع الآن إلى صديقى بعدما أجبته عن مراتب الدين، قال لى: الناس اللى وصلت لمرتبة الإحسان تُسَمّى محسنين، المقام ده خاص، السؤال هنا الناس اللى فى المرتبة دى عملوا إيه علشان يوصلوا إليها؟ ربنا سبحانه وتعالى يقول فى حديث قدسى رواه سيدنا رسول الله قال (إن الله قال: من عاداى لى وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدى بشىء أحب إلى مما افترضت عليه، وما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، وإن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه وما ترددت عن شيئ أنا فاعله ترددى عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته).

واحد بالصفات تلك يسمع بسمع الله ويبصر ببصر الله، فماذا يكون كلامه أو نطقه أليس كلام الله، فالمتكلم الحق فى هذا العبد هو الله، عرفت إنه صامت إزاى؟ وإذا أردت أن تعرف أو تختبر نفسك هل أنت ممن صمت كما ينبغى أم لا؟ فلتنظر هل لك فعل بالهمة المجردة فى أى شئ لا يفعل إلا بالكلام، أم لا؟

مثال: أنت عطشان وجائع، فتطلب ذلك من دون أن تتكلم أو تشير إليه ممن يقومون على خدمتك فى البيت، فإذا أتى إليك بما طلبت فأنت من الصامتين، لإنه يجد فى سمعه ما طلبته ويتخيل إليه أنه يسمع صوتك، فيسارع بتلبية طلبك، فمن ليست له تلك الحالة فلا يدعى أنه صامت، وأما الصامت المتكلم بالإشارة فهو يتعب نفسه وغيره بل هو يشبه الأخرس الذى يتكلم بالإشارة.

أما حال الصمت، فهو ما يرى فى بقية الناس، فهم يرون أنهم المتكلمون وأن الكلام مخلوق فيهم كى يستخدموه كما يشاءون فى التعبير عما يريدون حقاً كان أم باطلاً، كما أن لهم الحق فى السكوت، ولكن مهما سكتوا عن الكلام لن يستطيعوا وقف ذرات الجسد عن التسبيح لله، فالظاهر للناس غير باطنهم، فالباطن لا يصح فيه صمت. فقلت له: كلام جميل ولا غبار عليه، بس لى سؤال واحد عن تلك الآفة وكيف اتخلص منها... بالله عليك ماذا تفعل لو كنت مكانى؟

 

أحمد نور الدين عباس