حلمه ودعوته إلى الله

 

نواصل الحديث حول كلمة "الرسول" فى القرآن الكريم حيث ذكرت أول ما ذكرت فى الآية: 143 من سورة البقرة، حيث كانت فى معرض الحديث عن وسطية أمته ، وشهادة أمته على الناس، بل وشهادته على أمته... تلك الوسطية التى أولاها القرآن شأناً عظيماً يدل على أن أمرها جليل... فيه المجاهدة والابتلاء والصبر والخلاف والنزاع بين أطياف هذه الأمة... لهذا فإنه حرى بنا أن ننبه على ما نبهت عليه الآيات من أن الخلاف كل الخلاف بين وسطية الأمة ومنهجها من ناحية وبين أعدائها من ناحية أخرى عائد إلى داء عضال هو السفه أو السفاهة، وهذا ما بينه مولانا فى محكم تنزيله حيث قال جل من قائل فى الآية 142 من سورة البقرة ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.

فالسَّفَهُ والسَّفاهة لغة: خِفَّةُ الحِلْم أو نقيض الحِلْم وأَصله الخفة والحركة، وقال بعض أَهل اللغة: أَصلُ السَّفَهِ الخِفَّةُ ومعنى السفيه: الخفيفُ العقل، وقيل: السَّفَهُ فى الأَصل الخِفَّة والطَّيْشُ.

وفى التفسير قال ابن كثير رحمه الله: قيل المراد بالسفهاء هاهنا: المشركون؛ مشركوا العرب، قاله الزجاج، وقيل: أحبار يهود، قاله مجاهد، وقيل: المنافقون، قاله السدى، والآية عامة فى هؤلاء كلهم، والله أعلم.

وقال القرطبى رحمه الله: قال على بن أبى طلحة، عن ابن عباس: إن رسول الله لمّا هاجر إلى المدينة، أمَره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله بضعة عشر شهراً، وكان رسول الله يُحِب قبلة إبراهيم، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله الآية 144 من سورة البقرة ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ أى: نحوه. فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها؟ فأنزل الله ﴿قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.

وقد جاء فى هذا الباب أحاديثُ كثيرة، وحاصلُ الأمر أنه قد كان رسول الله أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يُصَلِّى بين الركنين، فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تَعَذَّر الجمعُ بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، قاله ابن عباس والجمهور رحمته بالخلق والعالمين.

ومن تأمل أقوال المفسرين فى شأن وصف القرآن لمشركى أهل الكتاب والمنافقين بالـ (السفهاء) يبدو له جلياً كيف كانت رحمة النبى ، فصلاته نحو بيت المقدس لم تكن إلا واحدة من مظاهر كونه (الرحمة المهداة) وكونه المبعوث (رحمة للعالمين) وهو درس وتلقين منه للدعاة من أمته فى كيفية الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، لا بالهوى أو اتباع الشهوات. فما كان ما كان منه إلا تألفاً لقلوب أناس نفروا منه ومن دينه وقومه ومن ناصروه ومن هاجروا معه... إنه لا ييأس من هداية الناس حتى ولو تأكد عنده ضلوعهم فى الضلال... إنه يصبر لعل واحدا يهتدى... ولم لا؟ فالواحد كثير... لعل الله يخرج من صلبه أناساً وأقواماً يوحدونه... بضعة عشر شهراً من عمر هذا النبى الأمى العربى ليست بالزمن اليسير... لكنه يعلم الأمة بل الدعاة من الأمة أن أمراضاً فى القلوب وعللاً فى النفوس وشهوات فى طبيعة البشر هى أيضاً أعلة ينبغى الصبر عليها، لأن هذا حق المعلول وواجب الطبيب... ولله در صاحب الفتوحات المكية حيث يقول "كل ما سوى الله معلول، وكل معلول ممراض، وكل ممراض يلزمه الطبيب ضرورة"... فسفاهة السفهاء داء عضال يلزمه الحاذق الماهر الخبير من الدعاة، وما ظنك بسيدهم وقدوتهم وأستاذهم النبى الهادى المصطفى الأمين ؟!!!!

ويتأكد فهم ذلك المعنى إذا لاحظت أيها القارئ الفطن كيف يمارس رسول الله الرحمة وتألف القلوب والتغاضى والتجاوز عن سوءات المحيطين من المشركين والمنافقين وهم فى نفس الوقت لا يلقون بالاً لمعاناته وأفضاله وحقوقه من الناحية الإنسانية الصرفة لا من واقع كونه رسول الله:

هُوَ رَحْمَةٌ وَالْأُمَّهَاتُ بِهِ اقْتَدَتْ        رَبٌّ  رَحِيــــــــمٌ  رَبُّهُ  سَمَّــــــاهُ

الدعوة إلى الله عند صالحى الأمة:

من هنا التفت الصالحون إلى علاج أمراض القلوب عن طريق شيئين خطيرين فى وصف من تصدر سبيل الدعوة إلى الله... ألا وهما: الحب وحسن الخلق... فإذا أرادوا هداية أحد أرضعوه المحبة شيئاً فشيئاً وهم يحسنون له ويصفحون عن زلاته ويتجاوزون له ويبسطون له أردية الفضل والجود والكرم والسخاء... تماماً كما صنع جدهم وأسوتهم:

المصطفى المعصوم من        هو  قـــــدوة  للإقتدا

هكذا تراهم إن كنت تراهم أو تحب أن تعرفهم وتراهم... وهم فى ذلك كله يفعلون مثلما يفعل الأطباء... فلابد من معرفة أعراض المرض وهو ما يسمى بالـ Symptomes وعلاماته الظاهرة والخفية وهى ما يعرف بالـSigns  ولابد من التشخيص أو الـDiagnosis  ثم يكون الدواء بشروطه وتعليماته على يد من يشتغل بالصيدلة، هذا بالضبط ما تعلمه أهل الدعوة إلى الله على بصيرة نتجت عن كمال إتباعهم للرسول .

ومن جملة ما نتعلمه من كلام سيدى فخر الدين : تراه يوضح ذلك فى عناصر محكمة فيقول: إذا اشتغل القلب بالملذات الدنيوية الصرفة كانت حالته "الهَمّ" وإذا اشتغل باتباع إبليس كانت حالته "الهَوَى" وإذا اشتغل بإتباع النبى كانت حالته "الهِمَّة" وإذا انصبغ القلب بنور ذكر الله كانت حالته "الفراسة".

من هنا كان الاتباع الصرف لإبليس هو المعروف بالـ "هوى"، فإذا زادت سفاهة السفيه مال الهوى إلى النفس وأتبع نفسه هواها... وإذا اشتغل الشخص بالطاعات مال الهوى إلى العقل فيحكم العقل بقوله (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) أخرجه الإمام السيوطى فى جمع الجوامع، أى ليس له محبة إلا الاشتغال بالشريعة. قال الإمام فخر الدين : الهوى هو المحبة، فمحبة السفاهة سفه، ومحبة الصلاح صلاح.

التحذير من مخالطة السفهاء وأصدقاء السوء: لأجل هذا حذر النبى فقال (المرء على دين خليله)... فالطبع يسرق من الطبع.

وقال الإمام الشافعى «من أحب أن يفتح الله على قلبه نور الحكمة: فعليه بالخلوة، وقلة الأكل، وترك مخالطة السفهاء، وبعض العلماء الذين ليس معهم إنصاف ولا أدب».

قلت: انظر إلى عظيم خبرته ومراسه وفهمه حيث جعل بعض العلماء مثل السفهاء حين افتقروا إلى الإنصاف والأدب، ثم تأمل وافهم كيف جعلهما معاً "أى السفاهة وقلة الأدب والإنصاف" من موانع دخول نور الحكمة إلى القلب... وذلك لتعلم السر فى ما آل إليه أمر الدعوة والدعاة فى زماننا.

قال ابن عجيبة صاحب "إيقاظ الهمم": وإذا كان الله تعالى يقول فى الآية 5 من سورة النساء ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ فكيف بالعلم الذى هو لؤلؤ مكنون... قال عليه الصلاة والسلام (إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا العلماء بالله فإذا أظهروه أنكره أهل الغرة بالله).

قلت: أى أن علة السفاهة مانعة لهم من الاستفادة بالعلم فما بالك بالحكمة التى هى جوهر العلم ونوره، والنور لا يستقر إلا على النور، وبذلك يحرم على من رزق الحكمة أن يلقيها لغير أهلها وإلا ظَلَمَ الحكمة، ولله درُّ "زين العابدين سيدنا على بن سيدنا الحسين بن الإمام على حيث يقول:

يا رب جوهر علم لو أبـوح به     لقيل لى أنت ممن يعبـد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمى        يرون أقبـح ما يأتونه حسناً

إنى لأكتم من علمى جواهــره      كى لا يمر بذى جهل فيُفتتنا

ومجمل القول أنه لابد من مواجهة أعداء منهج الوسطية بآليات تنجح نجاحا مطلقاً، وهذا لا يمكن وجوده إلا بمنهج كامل كمالاً مطلقاً، وأناس مكملين كمالاً مطلقاً... مطهرين طهارة مطلقة... فابحث عن المنهج تجده القرآن... وابحث عن أهل الكمال المطلق تجدهم الرسل والأنبياء وورثتهم... وابحث عن المطهرين طهارة مطلقة تجد قول الله تعالى فى الآية 33 من سورة الأحزاب ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾... وهذا كله فى إطار من الفهم الفقهى لا الفهم المنطقى... وفى قاعدة من الحب والألفة وحسن الخلق من قبل الدعاة لتحصل الثمرة المرجوة كما كانت فى القرون الثلاثة الأولى، ولنا مع فهم وفقه النبى وأهل البيت المطهرين رضوان الله عليهم أجمعين موعد لاحق إن شاء الله.

د. إبراهيم الدسوقى

 

 
 

ومن أراد الاستزادة فليطلع على موقع النبى

أسرة التحرير