كان .. ما .. كان

سيدنا إبراهيم 6

أبو الأنبياء وثانى أولى العزم

 

قال تعالى فى سورة الصافات آيات 100، 101 ﴿رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينَ • فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ بعد دعاء سيدنا إبراهيم بشره المولى تبارك وتعالى بغلام حليم، ووهبه سيدنا إسماعيل، وما حدث بعد ذلك من إسكانهم مكة وظهور زمزم واستقرار جرهم معهم، شب سيدنا إسماعيل فى هذه القبيلة وتعلم الصيد، ولم يمض وقت طويل حتى ماتت السيدة هاجر ، وتزوج سيدنا إسماعيل، وجاء سيدنا إبراهيم إلى مكة وذهب إلى دار ابنه ودق الباب فخرجت إليه زوجة ابنه، فسألها عن سيدنا إسماعيل فقالت: إنه غائب، فسألها عن معيشتهم وأحوالهم، فقالت: نحن فى أسوأ حال من ضيق العيش، فقال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه منى السلام وقولى له: غير عتبة بابك، فلما جاء سيدنا إسماعيل وعرف منها ما حدث وما قيل، قال لها: هذا أبى، وقد أمرنى أن أفارقك، فالحقى بأهلك، ثم تزوج سيدنا إسماعيل مرة أخرى، وبعد فترة جاء سيدنا إبراهيم إلى بيت ابنه، فخرجت إليه زوجته الثانية، ولم ينزل سيدنا إبراهيم عن دابته، فطلبت منه أن ينزل عن دابته ليستريح من عناء السفر، ولكى تقوم بواجب الضيافة معه، فلم يرضَ فذهبت وآتت بماء وجعلت تمسح رأسه ووجه من عناء السفر، وكان قد سألها عن زوجها فقالت: إنه غائب، فسألها عن معيشتهم فقالت: بخير والحمد لله، فقال: وما طعامكم؟ فقالت: اللحم واللبن، فقال: وما شرابكم؟ فقالت: ماء زمزم، فقال: اللهم بارك لهم فى لحمهم ولبنهم ومائهم، ثم قال لها: اقرئى زوجك السلام وقولى له: ثبت عتبة بابك، وتركها وانصرف، فلما عاد زوجها أخبرته بأن رجلاً قد أتى لرؤيته ووصفته وأثنت عليه كثيراً ثم أخبرته بما قاله عن عتبة بيته، فقال لها: إنه أبى جاء لزيارتنا، ولما أمر الله تعالى سيدنا إبراهيم ببناء البيت، احتار سيدنا إبراهيم فى تحديد مكان القواعد، فأعلمه الله مكانه بريح أرسلها يقال لها: الخَجُوج فكنست مكان البيت، وقيل سحابة على قدر البيت، وقيل كلمته وقالت له: ابنِ على قدرى، وفى جميع الحالات كان الله هو المهيِّئ لمكان البيت وإظهاره إلى سيدنا إبراهيم كما قال تعالى فى كتابه الكريم فى الآية رقم 26 من سورة الحج ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِى شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾

وروى أن الكعبة الشريفة بُنِيَتْ سِتْ مرات، إحداها بنتها الملائكة وكانت من ياقوتة حمراء، ثم رُفِعَتْ أيام الطوفان، والثانية قيل بنتها جرهم ثم هُدِمَتْ، ويدل على ذلك إلتجاء عاد إليها حين نزل بهم القحط، وكان ذلك قبل سيدنا إبراهيم، والثالثة بناها سيدنا إبراهيم، والرابعة  بنتها قريش وقد حضرها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والخامسة بناها ابن الزبير والسادسة بناها الحجاج.

لما عرف سيدنا إبراهيم مكان البناء ذهب لسيدنا إسماعيل وقال له: يابنى إن الله أمرنى بأن ابنى له بيتاً على هذا التل الأحمر فكن لى معيناً على ذلك، ولما شرع سيدنا إبراهيم فى بناء البيت، كان سيدنا إسماعيل يأتيه بالحجارة إلى أن ارتفع البناء، وكان سيدنا إبراهيم إذا بنى وقف على حجر فتارة يرتفع به إذا ارتفع البناء وتارة يهبط به إذا أراد الأرض وهذا الحجر يعرف بمقام إبراهيم، فلما أتم سيدنا إبراهيم بناء البيت، أوحى الله إليه كما جاء بقوله تعالى فى سورة الحج الآية 27 ﴿وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ فتسأل كيف يُسمع أذانه؟ فأوحى إليه عليك الأذان وعلينا البلاغ، فنادى بأعلى صوته يا أيها الناس إن الله تعالى قد بنى لكم بيتاً فحجوا إليه فمن أجابه بالتلبية كتب له الحج.

قال تعالى فى الآيات أرقام 101، 102 من سورة الصافات ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ • فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.

قال ابن عباس أن سيدنا إبراهيم نذر فى سره إن ولد له ولد ذكر ليذبحنه قرباناً إلى الله تعالى فلما مرت عليه الأيام والليالى نسى ما نذره، وبينما هو نائم رأى فى منامه قائلاً يقول له: ياإبراهيم إن الله يأمرك أن تفى النذر وهو ذبح ولدك بيدك فانتبه وهو مذعور، قالوا: إنه رأى هذه الرؤيا سبع ليال متوالية فعزم على ذبح ولده فنادى سيدنا إسماعيل: ياإسماعيل خذ معك حبلاً ومدية، قال: وما تصنع بها يا أبت؟ قال: أذبح كبشاً قرباناً إلى الله تعالى، فانطلقا إلى شعب جبل عند وادى منى، وبينما هما يمشيان جاء إبليس اللعين فى صورة شيخ وتعرض لسيدنا إسماعيل فقال له: إلى أين تمضى ياإسماعيل؟ قال: ليقرب أبى قرباناً إلى الله تعالى، فقال إبليس اللعين: أتدرى ما القربان الذى يقربه أبوك؟ قال: لا، قال: إنه يريد أن يذبحك وقد جئتك ناصحاً، فقال له: أيفعل هذا أبى من قِبل نفسه أم بأمر ربه؟ فقال إبليس: بل بأمر ربه، فقال سيدنا إسماعيل: إذا كان الذبح بأمر ربى فكيف أعصى ذلك، فرجع إبليس خائباً، وكان كلما حاول أن يتبع سيدنا إسماعيل كان يرميه بالحصى وفعل ذلك به سبع مرات، فصار من يومئذ رمى الجمار سُنة، فلما وصلا سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل إلى شعب الجبل، قال لسيدنا إسماعيل: إن الله تعالى أوحى إلىّ بذبحك وقد رأيت ذلك فى المنام سبع مرات متوالية، فقال له سيدنا إسماعيل ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَأَضْجَعَ سيدنا إبراهيم ابنه على جنبه الأيمن وشد يديه ورجليه بحبل فقال سيدنا إسماعيل: ياأبت لا تشد رجلى ويدى بالحبل لئلا تقول الملائكة قد جزع من أمر ربه، فحله واستمر سيدنا إسماعيل مضجعاً على جنبه الأيمن دون وثاق، وحاول سيدنا إبراهيم نحر ابنه وصار يجز بالسكين مراراً ولم تؤثر فى نحره، فيقول له سيدنا إسماعيل: ياأبت كبنى على وجهى فإنك إذا نظرت إلى وجهى ترحمنى فكبه على وجهه ووضع السكين وجز بها فلم تؤثر، فجاء قول الحق جل وعلا فى الآيات 104-107 من سورة الصافات ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ • قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ • إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ • وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وبينما هو كذلك إذا بجبريل أتاه ومعه كبش أملح وقال هذا فداء ولدك فخذه واذبحه فداءً لإسماعيل، وقيل إن الله تعالى ادخر الكبش الذى قربه هابيل بن آدم، فأخره الله تعالى ليعلم عباده أن الخير من الأجداد ينفع الأبناء، وكان ذبحه بمنى فصار فداء الحاج هنالك كل سنة.

أحمد نور الدين عباس