نشرنا فى صفحات القواطع عن موضوع القواطع عن المهيمن من كتاب المرشد الوجيز، وها نحن فى هذا الباب نستكمل الموضوع بجوانب أخرى تكمله حتى تعم الفائدة:

 

 

ماذا تفعل لو كنت مكانى؟ 3

 

خرجت من عند صديقى، ولم أسمع منه جواب يريح قلبى، أو بمعنى أصح لم أنتظر الرد على سؤالى، لماذا؟ هذا هو السؤال الذى سالت نفسى عنه فأجبتنى، إذا كان هو صاحب التعليم المتوسط وصل إلى هذا المفهوم، وخلى بالك من كلمة مفهوم لإن كلامه مرتب لم تساله سؤال إلا وأجابك عنه إجابة شافية تدل عن وعى وتركيز، فمابالك بصاحب مؤهل عالى مثلك، كل الى ينقصك بعض من التركيز فى القراءة، ومشيت أحدث نفسى، وأثنى عليها وعلى كبر عقلى واستيعابه العظيم لحل وفهم مشاكل كثيرة قابلتنى فى الماضى، فمابالك وانا صاحب مكانة وظيفية رفيعة المستوى ويمكننى الإستعانة بمن هم على شاكلتى، وانتفضت كالبالون، ومن شدة هذه النفضة نسيت أنى فى أول بحث لى ذهبت إلى هؤلاء ولم يسعفنى أحد بإجابة مفيدة أو مفهومة، المهم ذهبت إلى بيتى ودخلت مباشرة إلى حجرة مكتبى، ووضعت الكتاب الذى كان معى، وأحضرت الكتب التى تتحدث عن آفات اللسان، وبدأت أقرأ عن الآفة الثانية التى كانت تدعو إلى ترك فضول الكلام، ورجعت براسى إلى الخلف مردداً ... فضول ... فضول ... فضول يعنى زيادة، يعنى الموضوع بيتكلم عن زيادة الكلام، وده لا يحتاج شرح ولا تعب فى الفهم، واستحسنت ماقلته، فاعتدلت فى جلستى معجباً بعقلى مبهوراً بنفسى، ولم يستمر هذا كثيراً فقد وقعت عيناى وأنا أقلب الصفحة تلو الآخرى على حديث لسيدنا النبى عندما تكلم رجلاً عنده فأكثر فقال (كم دون لسانك من حجاب) فقال الرجل: شفتاى وأسنانى، قال (أفما كان لك فى ذلك ما يرد كلامك).

وأحسست أنى أقل مافى الحجرة قيمة وحجماً، ولم يتركنى إبليس اللعين انعم بلحظة صدق مع نفسى أو أذمها، فأسرع إلى بخوشمه داخلى قائلاً: انت فاكر إنك أخطأت لما شعرت بنفسك وكبر عقلك؟ لأ ... أوعى تفكر كده، شعورك بالنقص هو أكبر علامة ودليل على رجاحة عقلك وصفاء ذهنك، بل هو اكبر دليل على إنك فهمت أكثر من صديقك، أيوه ... صدقنى ... شوف لما قرأت بتركيز من أول مرة فهمت، انت عارف هو قرأ كم مرة علشان يفهم ... يوووه كتير، كمل ولا تخف انت ماشى فى الطريق الصحيح، مش عيب ولا غلط إنك تعجب بنفسك، وإيه يعنى خطأ فى الفهم، دا كل ابن آدم خطأ، وربنا خلق لنا العقل علشان نفهم بيه، وانت عقلك كبير وفهمك صح، ووجد كلامه صدى طيب فى نفسى ووافق هواى، فعدت ثانياً لأكمل مابدأت، ووجدت قصة سيدنا سليمان وإحدى عفاريت الجن، فقلت هذه نادرة من نوادر القصص التى تروى، بعث سيدنا سليمان عفريت فى أمر ما، وأرسل وراءه من ينظرون فعله، فلما عادوا أخبروه أنه مر فى السوق فرفع رأسه إلى السماء، ثم نظر إلى الناس، وهز رأسه، فسأله سيدنا سليمان عن ذلك، فقال: عجبت من الملائكة على رؤوس الناس ما أسرع ما يكتبون، ومن الذين أسفل منهم ما أسرع ما يملون.

ولم أهتم بما تحوى هذه القصة من معنى، وقلت فى سطحية يعنى إيه؟ ماكل يوم بيحدث هذا الكلام، وظللت أقلب صفحة بعد أخرى وانا فى زهوى وإعجابى أعد الآفة بعد الأخرى وفى نهاية الموضوع كان هناك تعليق من الكاتب يقول: إن هذه الآفات كلها مهالك وهى على طريق المتكلم، فإن سكت سلم من الكل، وإن نطق وتكلم خاطر بنفسه، إلا أن يوافقه لسان فصيح وعلم غزير وورع حافظ ومراقبة لازمة، ويقلل الكلام فعساه يسلم عند ذلك، وهو مع جميع الأحوال لا ينفك عن الخطر، فإذا كنت لا تقدر على أن تكون ممن تكلم فغنم، فكن ممن سكت فسلم، فالسلامة إحدى الغنيمتين، وعند ذلك تعلم سر قوله (من صمت نجا) وشعرت بصدمة شديدة بعد قرأتى لهذه العبارة لقد أعادتنى إلى وعىِّ وشعرت بضألتى، أبعد قراءة تسعة عشر آفة من آفات اللسان لم أفطن أن الصمت هو الحل، وأن الكلمات القليلة التى حدثنى بها صديقى هى الحل ومفتاح لحلول أخرى، وقلت لنفسى سوف أذهب إلى صديقى لأعترف له بضيق أفقى وقلة رجاحة عقلى، وترددت قليلاً فى الذهاب، وانتهز اللعين هذا التردد فقال لى: إلى أين؟ تعودت منك أن تدرس كل خطوة تخطوها، عاوز تروح له، روح ... بس لى عندك سؤال حطه حلقة فى ودنك، هل أنت متأكد أنه سيفهم اعترافك هذا؟ إفرض إنه استغل الفرصة وأذلك بها، لأنه عارف إنك أعلى منه مؤهل ووظيفة، بلاش ... إفرض إنه لم يقبل منك الاعتراف والاعتذار ... منظرك أمام الناس حيبقى شكله إيه؟ وتسمرت مكانى ولم اقوى على فعل شئ سوى التفكير المستمر وأحسست أن داخل رأسى جماعتان من الناس كل منهما يشدنى إلى جانبه فهذا مؤيد، وذاك معارض، وكل منهما له دليله وبرهانه...

فماذا تفعل لو كنت مكانى؟

أحمد نور الدين عباس